إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
هذه حلقة خاصة أعيد فيها التذكير بمفردات غير سليمة تستعمل في الإعلام العربي بشكل مستمر.
قل: ما حصل على الأرض ينبئ بالكثير
ولا تقل: ما حصل على الأرض يشي بالكثير
لا شك أن لبنان لعبت دورا مهما في إحياء الإهمتام بالأدب العربي واللغة بعد فترة من الظلمة التي فرضها التخلف التركي في حكم العثمانيين لأرض العرب. لكن تلك المبادرة الطيبة أدخلت نوعاً من الحرية في التصرف في الإستعمال العربي مما مكن إنتشار عدد من الأخطاء في الجرائد والتي اتبعتها الناس فدفع هذا الشيخ ابراهيم اليازجي أن يجمع كتابأً أسماه “لغة الجرائد” عرض فيه الكثير من الخطأ الشائع قبل قرن.
فقد شاع في الإعلام اللبناني إستعمال الفعل “وشى يشي” بمعنى كشف يكشف أو أخبر يخبر أو بشر يبشر وهذا الإستعمال الخاطئ يتكرر بشكل يومي ومطرد دون معرفة السبب حيث إن العربية غنية بالأفعال التي تعبر عن المراد حسب سياق الجملة. وقد بدأ عدد من الإعلاميين العرب من غير اللبنانيين تقليدهم في ذلك.
ولا أدري لماذا يستعمل الإعلاميون اللبنانيون الفعل “وشى” بهذا المعنى. فهل ذلك بسبب أنهم تعلموا هذا المعنى في منهاج تعليمي خاطئ أم أنه من الإستعمال العامي اللبناني والذي لا يعرف أحد كيف نشأ. ذلك لأن العرب لم تستعمل الفعل “وشى” بهذا المعنى إطلاقاً.
فقد كتب إبن فارس في مقاييس اللغة:
الواو والشين والحرف المعتل: أصلانِ، أحدُهما يدلُّ على تحسينِ شيءٍ وتزيينه، والآخر على نَماءٍ وزيادة.الأوَّل: وشَيْتُ الثَّوبَ أشِيهِ وَشْياً.
ويقولون للذي يَكْذِب ويَنُمُّ ويُزخرِفُ كلامَه: قد وَشَى، وهو واشٍ.والأصل الآخر: المرأة الواشية: الكثيرة الوَلَد.
كما جاء في الصحاح للجوهري في باب “وشى”:
ويقال: وَشى كلامَه، أي كَذَبَ.
ووَشى به إلى السلطان وِشايَةً، أي سعى.
وهكذا يتضح من معجمات اللغة أنه لم يرد إستعمال للفعل “يشي” بالمعنى السائد الإستعمال في لبنان. وحيث إن العربية غنية فليس هناك ما يدفع الإعلامي اللبناني لإستعمال الفعل “يشي” حين يمكنه أن يستعمل “ينبي” أو “يخبر” أو “يكشف” أو “يبشر” أو “ينذر” حسب المعنى المراد في الجملة.
قل: هيَّأ قبل سفره المُعَدَّات الضرورية
ولا تقل: هيَّأ قبل سفره المُعِدِّات الضرورية
وكتب عبد الهادي بوطالب: “من الخطأ استعمال لفظ مُعِدات (بكسر العين) لما يُعَدُّ أي يهيأ. فنقول “المُعَدَّات الحربية”. و”هيَّأ قبل سفره المُعَدَّات الضرورية”، أي الأشياء التي أُعِدَّت من قبل. ومُعَدَّات اسم مفعول. أما المعِدَّات فاسم فاعل. ولا يمكن أن تُعِدّ نفسَها، بل لابد أن يُعِدَّها فاعل. هو مُعِدُّها، وهي مُعَدَّة منه، أي مُهيَّأة منه.”
وقد ذهب عدد من المذيعين الى الحديث عن “مَعَدَّات”. ولا أدري كيف ترتضي آذانهم وهم يسمعون ما يقولون كهذا الفحش. ذلك أن “مَعَدّات” (بفتح الميم) هي جمع كلمة “مَعّدَّة”. وليس في العربية كلمة كهذه.
قل: الجنود المرتزِقة والجنود المرتزِقون وهؤلاء المرتزِقة وهؤلاء المرتزِقون (بكسر الزاي)
ولا تقل: المرتزَقة ولا المرتزَقون (بفتح الزاي)
لا يمر يوم إلا ونسمع عن المرتزقة الذين يقاتلون في أوكرينيا. وقد وجدت من المفيد أن أعيد ما كتبه الإستاذ المرحوم مصطفى جواد قبل عقود، وذلك لما شاع من عدم مقدرة المذيع أن يميز بين الفاعل والمفعول في لفظ كلمة “مرتزق”.
فكتب الدكتور مصطفى جواد: “وذلك لأن الفعل “ارتزق” يأتي على وجهين، أحدهما وجه اللزوم وهو باب “افتعل” الذي بمعنى اتخذ لنفسه أصل الفعل أي اتخذ لنفسه رزقا، فيكون “ارتزق فلان” بمعنى أصاب رزقاً أو نال رزقاً أو جعل لنفسه رزقاً. فهو مثل “اقتدر” أي اتخذ طبيخا في قدر. والوجه الآخر وجه التعدي وهو “ارتزقه” أي افتعله بمعنى طلب منه أصل الفعل وهو الرزق فيكون “ارتزقه” بمعنى طلب منه رزقاً، مثل “اختدمه” أي طلب منه خادماُ.
قال الجوهري في الصحاح “الرَّزقة” بالفتح المرة الواحدة والجمع “الرَّزقات” وهي أطماع الجنود وارتزق الجند أي أخذوا أرزاقهم”.
وقال ناصر المطرزي في معجمه (المُغرب في ترتيب المعرب”: “الرزق ما يخرج للجند عند رأس كل شهر وقيل يوما بيوم، والمرتزِقة: الذين يأخذون الرزق، وان لم يثبتوا في الديوان”.
وقال الفيومي في المصباح المنير: “رَزَقَ اللهُ الخلقَ يرزقهم… وارتزق القوم: أخذوا أرزاقهم فهم مرتزِقة”.
وجاء في لسان العرب: “يقال: رزق الخلق رَزقاُ ورِزقا… وارتزقه واسترزقه: طلب منه الرزق… وارتزق الجند: أخذوا أرزاقهم… ورزق الأمير جنده فارتزقوا ارتزاقاُ ويقال: رُزق الجند رَزقةً واحدةً لا غير ورزقوا رزقتين أي مرتين”.
ومما نقلنا يظهر الخطأ في قولهم: مرتزَقة بفتح الزاي لأن المرتزَق هو المطلوب منه الرزق أي الذي يعطي الرزق أي الرازق، مع أن المراد هو العكس، اي طالب الرزق وآخذه. فالصواب كسر الزاي فقل: المرتزِقة والمرتزِق ولا تقل: المرتزَقة والمرتزَق للمعنى المراد.”
قل: هذه بدايات أو بشائر المرحلة الجديدة
ولا تقل: هذه إرهاصات المرحلة الجديدة
فقد ساد في النصف الثاني من القرن العشرين بين عدد من المتعلمين وخصوصاً أدعياء الأدب من بينهم إستعمال لفظة “إرهاصات” بمعنى بدايات أو ولادات. ولا أعرف حقاً كيف دخل هذا الإستعمال الغريب ولماذا تم تداوله بشكل واسع دون أن يسأل أحد عن مصدره أو معناه الحقيقي. فلم يرد عن العرب هذا الإستعمال. ودليلي في هذا ما أوردته أمهات معاجم اللغة من فصيح اللغة العربية.
فهذا ابن منظور يخبرنا في لسان العرب في باب “رَهَصَ”:
“الرَّهْصُ: أَن يُصِيبَ الحجرُ حافراً أَو مَنْسِماً فيَذْوَى باطنُه، تقول: رَهَصه الحجرُ وقد رُهِصَت الدَّابة رَهْصاً ورَهِصَت وأَرْهَصَه اللّه، والاسم الرَّهْصةُ. الصحاح: والرَّهْصةُ أَن يَذْوَى باطِنُ حافِر الدَّابة من حجر تَطؤُه مثل الوَقْرة؛ قال الطرماح: يُساقطُها تَتْرَى بكل خَمِيلة، كبَزْغِ البِيَطْرِ الثَّقفِ رَهْص الكَوادِنِ والثَّقْفُ: الحاذِقُ.
والرَّهْصُ: شدة العصر…….
والإِرْهاصُ على الذَّنب: الإِصْرارُ عليه.
وفي الحديث: وإِنّ ذنْبَه لم يكن عن إِرْهاصٍ أَي عن إِصْرارٍ وإِرْصادٍ، وأَصله من الرَّهْصِ، وهو تأْسِيسُ البُنْيانِ.”
ويؤكد هذا المعنى صاحب القاموس إذ يخبرنا في باب “الرِّهْصُ”
“وأرْهَصَ الحائِطَ: رَهَصَهُ،
و~ اللّهُ فُلاناً: جَعَلَهُ مَعْدِناً للخَيْرِ………
ولم يكُنْ ذَنْبُهُ عن إرْهَاصٍ أي: إصْرَارٍ وإرْصَادٍ، وإنَّما كان عارِضاً.
ورَاهَصَ غَرِيمَهُ: راصَدَهُ.”
أما ابن فارس فيقول في باب “رهص” في مقاييس اللغة:
” الراء والهاء والصاد أصلٌ يدلُّ على ضَغْط وعصر وثَباتٍ. فالرَّهْص، فيما رواه الخليل: شِدّة العَصْر.
والرَّهَص أن يُصيب حجرٌ حافراً أو مَنْسِماً فيدوَى باطِنُه. يقال رَهَصه الحجر يرهَصُه، من الرَّهصَة.
ودابَّةٌ رهيص: مرهوصة.
والرَّواهص من الحجارة: التي ترهَصُ الدوابَّ إذا وطِئَتْها، واحدتها راهصة.”
فهذه ثلاثة من أمهات معاجم العرب تعطينا ما عرفه العرب من معاني للفعل “رهص” والفعل “أرهص” ومصدرهما. وليس من المعاني ما يشير ولو من بعيد أن العرب عرفت استعمالا للفظة “إرهاص” كما يريد كتاب عصرنا.
قل: يجري البحث في تشكيل الحكومة المنتظرة
ولا تقل: يجري البحث في تشكيل الحكومة العتيدة
وقد شاع في الإعلام اللبناني استعمال كلمة “عتيدة” بمعنى “منتظرة” فيقولون “يجري البحث في تشكيل الحكومة العتيدة”. وهذا غلط لأن الحكومة العتيدة هي الحكومة القائمة ولا يجري البحث في تشكيل ما هو قائم بل يجري البحث في تشكيل ما هو منتظر. وقد نبه إبراهيم اليازجي لهذا منذ عقود في كتابه “لغة الجرائد” حين كتب : “ويقولون أمر عتيد ويوم عتيد أي منتظر فيغلطون فيه لأن العتيد بمعنى الحاضر المهيأ وقد أعتد الأمر أي أعده وأمر معتد وعتيد”.
إلا أنه رغم تنبيه اليازجي ما زال الإعلام اللبناني يستعمل “عتيد” بالمعنى المغلوط.
فقد جاء في لسان العرب في باب “عتد”: “وعَتُدَ الشيءُ عَتادَةً، فهو عَتِيدٌ: حاضر. قال الليث: ومن هناك سُمِّيَتِ العَتِيدَةُ التي فيها طِيبُ الرجل وأَدْهانُه.
ثم قال بعدها: “وفرس عَتَدٌ وعَتِدٌ، بفتح التاء وكسرها: شديد تامّ الخلق سريع الوثبة مُعَدٌّ للجَرْيِ ليس فيه اضطِرابٌ ولا رَخاوَةٌ، وقيل: هو العتيد الحاضر المُعَدُّ للركوب”
أما القاموس المحيط فقد أورد المعنى : “العَتيدُ: الحاضِرُ المُهَيَّأ”.
أما إبن فارس فقد أخبرنا في باب “عتد” في مقاييس اللغة ما يلي: “العين والتاء والدال أصلٌ واحدٌ يدلُّ على حضورٍ وقُرب. قال الخليل: تقول عَتُدَ الشّيءُ، وهو يعتُد عَتاداً، فهو عَتيدٌ حاضر”.
وقد جاءت كلمة عتيد مرتين في الكتاب الكريم وهما :” مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ” (ق/18) و ” وقال قرينه هذا ما لدي عتيد” (ق/ 23) ومعناها هذا الإنسان الذي هو عندي حاضر.
وهكذا نرى أنه ليس في شواهد القرآن وشواهد المعجمات ما يدل على إمكانية كون عتيد أن تعني منتظراً أو متوقعاً كما يستعملها الإعلام اللبناني.
فقل الحكومة المنتظرة
ولا تقل: الحكومة العتيدة (إذا كانت قيد التشكيل)
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….
عبد الحق العاني
15 حزيران 2022
www.haqalani.com