إلى أين: ما لنا وللأمم المتحدة؟ -1
أسأل منذ ثلاثين عاما عن سبب وجود العرب في منظمة الأمم المتحدة وما يتبعها من مؤسسات. فقد كتبت في ذلك مراراً وحَدَّثتُ من حَدَّثت من الأصدقاء والمعارف. ولا يمكنني أن أخفي عجبي لردود الأفعال التي تلقيت فهي في أفضل الأحوال كانت استغرابا.
ربما يكون الوضع الدولي اليوم ملائماً لإثارتي هذا السؤال في هذه الحلقة من مسلسل “نحن العرب: من نحن وإلى أين؟”. فقد دفعت أزمة أوكرينيا الروس إلى التساؤل عن مصداقية وجدوى الأمم المتحدة وذلك للمرة الأولى منذ الحرب الكورية. فإذا كانت دولة عظمى مثل روسيا، والتي تمتلك حق النقض في مجلس الأمن، تسأل عن مصداقية منظمة الأمم المتحدة فهل من العجب أن يسأل عربي مثلي، لم يفهم من الأم المتحدة سوى الذل والعدوان، سؤالاً كهذا؟
لنتوقف قليلا عند منظمة الأمم المتحدة: كيف نشأت وما الذي فعلته كي نفهم ما يمكن أن تعنيه، ولماذا نحن فيها.
فحين تعب الأوربيون من قتل بعضهم بعضاً في ثاني حرب عالمية مدمرة في خمسين عاما فقد وجدوا لزاما عليهم وضع قواعد لنظام دولي جديد. وليس غريبا أن يرغب متعاقد من أن يكون أي عقد في صالحه. لذا فإنهم حين بحثوا صياغة عقد ينظم العلاقات الدولية فإنهم، أي الأوربيون، كان لا بد أن يسعوا لميثاق يعطيهم الهيمنة على العالم من خلال المنظمة الجديدة. ولا بد من التذكير هنا بأن ميثاق الأمم المتحدة (الميثاق) هو عقد بين أطرف متعاقدة. فهو ليس وثيقة وضعتها جهة لها سلطة فوقية ولهذا فهو، أي الميثاق، يستند في شرعيته لبنوده وليس لأي طرف في الأمم المتحدة حقوق خارجه.
وبرغم أن عدد الدول التي شاركت في بحث مقترح الميثاق ووقعت عليه كان واحدا وخمسين دولة، وذلك لأن أكثر دول العالم بما فيها معظم افريقيا كانت مستعمرة، إلا أن الحقيقة هي أن الدول الي لعبت الدور الأساس في اعداد الميثاق ودفعه كانت دول أوربا التي انتصرت في الحرب على النازية. وحيث إن أوربا والأتحاد السوفيتي خرجت من الحرب منهكة ومدمرة فإن الولايات المتحدة كانت الدولة الأقل ضررا في نهاية الحرب. وكانت هذه الحقيقة تعني أن حاجة أوربا للولايات المتحدة القوية نسبيا أعطى الأخيرة حرية لعب الدور الأساس في صياغة الميثاق. وهذه الحقيقة تؤكد بداية هيمنة رأسمالية الولايات المتحدة ليس على أوربا فقط بل على العالم. وقد شهد العالم أنه، وبرغم الحرب الباردة التي خلقت نوعا من التوازن، كانت الولايات المتحدة تتصرف ببقية العالم وكأنه حديقتها الخلفية، ولا يسعنا ذكر شواهد ذلك هنا لكثرتها لكن أغلب من ولد بعد الحرب العالمية الثانية عاشها ولا يحتاج لتذكير.
هكذا صيغ الميثاق ووقعت عليه في 26 حزيران 1945 إحدى وخمسون دولة. ثم التحقت بالأمم المتحدة كل الدول التي استقلت بعد الحرب العالمية الثانية كما انضمت الدول التي استقلت بعد سقوط الإتحاد السوفيتي حتى اصبحت عضوية الأمم المتحدة اليوم تشارف على المائتين. وحيث إن أيا من هذه الدول وقعت على الميثاق دون مشاركة في اعداده أو بحثه فإن الميثاق اليوم هو أفضل نموذج لما يمكن تسميته بحق: “عقد إذعان”. ولم يدخل على الميثاق منذ تبنيه سوى تعديلين بسيطين لم يمسا جوهر الميثاق، وهكذا فإن الميثاق اليوم هو ما كتبه الأوربيون عام 1945.
ولن أعرض كل بنود الميثاق المستبدة لكني اكتفي بأمثلة مهمة مما يكشف حقيقة عدم جدوى الميثاق للدول الصغيرة.
مجلس الأمن
قد يظن السامع بالأمم المتحدة أن الجمعية العامة التي تضم كل الأعضاء لها سلطة حقيقية في تطبيق الميثاق أو حل الخلافات أوحماية السلم والأمن. لكن الحقيقة هي غير ذلك فالجمعية العامة هي منبر خطابة ليس أكثر. والسلطة الحقيقية أبقاها الأوربيون بيد مجلس الأمن. ويتألف مجلس الأمن اليوم من خمسة أعضاء دائميين وعشرة ينتخبون من بين أعضاء الجمعية العامة لمدة سنتين لتمثيل القارات بشكل نسبي. وقد يبدو هذا أمر بريء لأول وهلة. لكن نظرة أعمق في تشكيل مجلس الأمن وسلطاته تكشف الكثير. فأربعة من الأعضاء الدائميين الذين يتحكمون بمجلس الأمن هم من أوربا. وإذا كانوا القوة الوحيدة في العالم عام 1945 فإن واقع العالم اليوم لم يعد كما كان. فليس في مجلس الأمن عضو دائم من القارة الأفريقية وليس فيه عضو دائم من قارة أمريكيا الجنوبية. كما ان التمثيل العرقي أو الديني ليس متحققا في مجلس الأن فليس فيه صوت بوذي أو هندوسي أو إسلامي على سبيل المثال.
وليت هذه هي المشكلة الوحيدة. فقد وافق أعضاء الأمم المتحدة في المادة 24 من الميثاق على تسليم سلطة الأمم المتحدة بالكامل لمجلس الأمن وحيث إن مجلس الأمن تحكمه الدول الخمس الأعضاء، والتي يحتفظ كل منها بحق النقض الذي يلغي أصوات كل الباقين، فإن هذا يعني أن أعضاء الأمم المتحدة وافقوا طوعاً على قبول ما تقرره الدول الكبرى دون أية سلطة للإعتراض أوالتعديل. لذا فإننا لا نجد قرارا واحدا صدر عن مجلس الأمن بحق دولة من الدول الخمس، برغم كل إساءاتها، بينما طالت القرارات عددا من الأعضاء الآخرين وعلى الأخص أولئك الذين لم ترض عنهم الولايات المتحدة.
وليت الأمر توقف عند إساءة استخدام سلطة المادة 24 من الميثاق. فقد تصرف مجلس الأمن يالميثاق كما يشاء دون أن يتمكن أحد من الإعتراض أو إيقاف اساءته. ومن أمثلة إساءة مجلس الأمن واستبداده بالميثاق ما يلي:
برغم ان المادة 27 من الميثاق تنص على أن أي قرار يصبح نافذا إذا وافق عليه تسعة من الأعضاء بما فيهم الأعضاء الخمس الدائمون، إلا أن مجلس الأمن درج على احتساب الإمتناع عن التصويت، خصوصا إمتناع دولة من الخمس، على أنه موافقة. ولا يعرف القانون، أي قانون في العالم، الإمتناع عن التصويت على أنه موافقة. وقد استغل هذا الإجراء من قبل الدول الخمس فحين امتنعت الصين عن التصويت على فرض حصار الإبادة على العراق فإن مجلس الأمن عد الإمتناع موافقة وفرض الحصار، لكن الصين حين تسأل تحتج بأنها امتنعت عن التصويت وليست شريكة في الجريمة.
برغم أن المادة 27 تنص على أنه لا يحق لمن كان طرفا في نزاع معروض على مجلس الأمن أن يشارك في التصويت إلا أن الدول الخمس الدائمة العضوية دأبت على المشاركة في التصوبت حتى حين تكون طرفا في النزاع.
برغم أن المادة 32 تجيز لأية دولة، عضوة في الأمم المتحدة تكون طرفاً في نزاع معروض على مجلس الأمن، المشاركة في بحث النزاع أمام المجلس، إلا أن مجلس الأمن منع العراق على سبيل المثال من المشاركة في بحث الشأن العراقي أمامه في فترة الحصار بعد عام 1990 حتى عام 2003 دون أن يتمكن العراق من الطعن بالقرار، بينما دعيت أوكرينيا للمشاركة في النقاش أثناء بحث حربها مع روسيا.
برغم نص المادة 47 على تشكيل لجنة أركان حرب من الدول الأعضاء الخمس الدائميين، تتولى تقديم المشورة العسكرية لمجلس الأمن والإشراف على أعمال تأمين الأمن والسلم الدولي والتي هي من واجبات مجلس الأمن الأساس، إلا ان هذه اللجنة لم تتشكل قط.
أدى عجز مجلس الأمن عن تشكيل لجنة أركان الحرب المطلوبة بموجب المادة 47 إلى إخلال مجلس الأمن بالمواد 43 و 45 التي تنظم اي عمل عسكري يقوم به مجلس الأمن لحفظ الأمن والسلم الدولي. وهكذا انتهى المقصود في تأمين الأمن والسلم بإشراف مجلس الأمن الى إطلاق يد واحدة أو عدد من الدول الكبرى في العمل العسكري المباح ليصبح غزوا واحتلالا تحت غطاء حماية السلم والأمن الدولي، كما حدث في العراق وصربيا وليبيا.
هذه نماذج من الخلل الجذري في الميثاق أولا وفي تنفيذ الميثاق ثانيا. وحيث إننا العرب من بين الذين تضرروا أكثر من غيرنا لأسباب عدة ليس هذا مكان بحثها، إذ سبق كتابتي عن شيء منها ولا بد أني سأكتب عن كثير غيرها فيما يأتي، فإن السؤال الذي لا بد أن يقوم هو ما الذي نفعله داخل منظمة لا ننال منها إلا العقوبة والضرر والأذى؟ وحين سألني صاحبي كيف يمكن أن نكون خارجها أجبته بأن السؤال الذي يجب أن يسأل هو: ما الذي كان سيحدث لو اننا لسنا في منظمة الأمم المتحدة.
هذا ما سأحاول بحثة في القادم
فللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 8 أيار 2022