إلى أين: كيف تتحد الأمة؟ -2
توقفت قليلا قبل أن أكتب هذا الجزء حيث لمست من بعض الردود التي وصلتني أني أكتب كما لو كنت مُسَلِّما بهزيمة الأمة العربية مما يدعو للإستسلام. فوجدت لزاما أن أبين أن هدفي في كشف العيوب هو من أجل معالجتها وليس من باب قبولها والإقرار بها. ذلك أني على يقين أن هذه الأمة لا بد من أن تنهض ليس لأني أعتقد بأن لها قدرات متميزة أو لأنها تختلف عن الأمم الأخرى ولكن لأن حتمية وجودها تقضي أن يكون هذا. فهي موجودة تحت أي اسم أردت أن تسميها منذ دُوّن التأريخ ولا يمكن أن ترحل عن هذه الأرض أو أن تزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ثم إن القوى التي تعيقها من التوحد والنهوض هي قوى خارجية سوف تتغير مقدرتها أو تضعف حتى تنصرف عنا. ولا أعني اننا سوف نكون في أمن وأمان من كل سوء فقد ندخل في حروب مع الفرس أوالترك أوالكرد من جيراننا لكن هذا طبيعي وقديم قدم المنطقة وهو جزء من الطبيعة البشرية ومهما اشتد واحتد فإنه ينتهي بحقيقة واحدة وهي أن هذه الأمم تعيش متجاورة ولن ترحل وتنتهي بقبول تسويات تعيش في ظلها كما حدث مرات ومرات. لكن الغزاة والمتسوطنين من خارج منطقتنا سوف يرحلون كما حدث لهولاكو والصليبيين.
وتوحيد هذه الأمة سوف يصبح حاجة وليس مجرد طموح أو حلم. ذلك إن رحيل الأجنبي عن الأرض سوف يكشف هزالة وعبثية الدويلات التي لا تستطيع حماية نفسها مما يدفع أهلها للتقارب مع جيرانهم العرب وهو ما يؤدي في النتيجة لتوحيد الأمة من أجل بقائها في أضعف الأحوال.
لقد وعدت في الجزء السابق أن اكتب عن “الشرعية الدولية” و “مجلس الأمن” وهي الأعذار الواهية التي يحتج بها الجهلة كلما قام حديث عن الوحدة العربية وعدم قدسية الحدود الي رسمها الصهيوني لنا منذ أكثر من قرن.
أبحث منذ أربعين عاما عن الذي استحدث عبارة “الشرعية الدولية” وأدخلها في لغة السياسة والإعلام العربية فأصبحت البلسم الذي يلجأ اليه العاجزون من العرب وأخص منهم اخوتنا الفلسطينيين كلما احتاجوا البكاء والشكوى. ذلك ان هذه العبارة لا وجود لها في المصطلح السياسي أو القانوني. ولا أريد أن يكون هذا المقال محاضرة في القانون الدولي لكني أعتقد أنه لا بد من توضيح بعض الحقائق التي ضاعت. فلم أسمع في السياسة الأنكلوساكسونية التي تحكم العالم، والتي أتابعها منذ خمسين عاما، عبارة “الشرعية الدولية”. ولم أسمع في القانون الدولي الذي أعمل فيه منذ خمسة وعشرين عاما عبارة “الشرعية الدولية”.
إن الحديث عن “الشرعية الدولية” يعني بالضرورة ان هناك من يمتلك سلطة التشريع للعالم في وضع قواعد وقوانين تلزم الجميع بالتمسك بها. لكن هذا وهم إذ لا وجود لهذه السلطة التشريعية حتى يصبح لعبارة “الشرعية الدولية” اي معنى. ثم يصعد هذا الجهل الى درجة أعلى حين يعتقد السياسي ان هناك جهازا دوليا يمكن أن يشتكي اليه فترتفع الأصوات برفع شكوى الى الأمم المتحدة. أو الإدعاء بأن على الأمم المتحدة أن تتحمل مسؤولياتها في هذا الأمر أو ذاك. وتتصاعد وتيرة الإعلام بتقديم شكوى للأمين العام للأمم المتحدة، وكثير من هذه الإجراءات العبثية. وقد يهون الأمر لو ان كل المتحدثين من الإعلاميين الساذجين لكنك تسمع بينهم عدداً من رجال القانون وهم ينحون هذا المنحى. فهل وصل بنا الجهل هذا الحد؟
إن وهم “الشرعية الدولية” يتصل بوهم مسؤولية الأمم المتحدة وأمينها العام ثم يمتد لفهم مغلوط للقانون الدولي وما هي حصتنا فيه.
فالأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة هو موظف إداري ووظيفته يحددها ميثاق الأمم المتحدة ولا سلطة سياسية له. وليس في الأمم المتحدة جهة توجه لها الشكاوى ولم يحدد ميثاق الأمم المتحدة أية جهة لهذا كما انه لم يحدد أي اجراء لتقبل الشكاوى. فأية شكوى للأمين العام يكون نصيبها أن تحفظ في احدى الإضبارات وحتى إذا أراد الأمين العام أن يجلب أمراً لعناية مجلس الأمن بسبب أن الأمر يعرض الأمن والسلم الدولي للخطر فليس له أكثر من أن يعرض الأمر على مجلس الأمن. و يتضح من قراءة بسيطة لميثاق الأمم المتحدة أن يفهم أي سياسي أو صحفي أن الحديث عن الشكوى للأمم المتحدة لا قيمة له ولا فاعلية وان الإستمرار فيه هو في أفضل حال عملية خداع مستمر للجمهور.
إن مجلس الأمن هو مسرح دراسة شكاوى دول وليس شكاوى أفراد أومجموعات إلا اذا تبنت تلك الشكاوى احدى دول النقض من الخمسة الكبار. لذا فإن مجلس الأمن لا يبحث موضوعا إلا اذا وافق الخمسة الكبار على بحثه وإلا يصبح عبثا حتى عرضه اذا تبين أن أحداً من الخمسة ليس راغبا في بحثه أو أن أية دولة منهم سوف تستخدم حق النقض اذا ما وصل الأمر الى التصويت. وقد أعادت أحداث هذا الأسبوع التذكيربهذه الحقيقة. فما أن اعترفت روسيا باستقلال جمهورتي الدونباس في شرق اوكرانيا حتى دعي لإجتماع عاجل لمجلس الأمن لبحث خطورة العدوان على استقلال وسلامة أوكرانيا. لكن مجلس الأمن لم يجتمع لبحث غزو العراق واحتلاله عام 2003 وحين أجتمع بعد اسابيع من الغزو فإن ذلك كان من أجل بحث طلب الغزاة موافقة المجلس على حكم العراق وليس ليحث عدم شرعية العدوان.
أما القانون الدولي فهم مصطلح لا قيمة له عمليا، ولا أعني بهذا انه ليس موجوداً فهناك مجموعة كبيرة من المواثيق والمعاهدات واللوائح التي تحدد القواعد التي يجب على الدول الإلتزام بها في التعامل ما بينها وقت الحرب أو الخلاف أو الأزمات بل وحتى في النزاعات الداخلية في حدود. لكن المهم هو ان أي قانون كي تكون له قيمة عملية وتصبح له فاعلية يجب أن تتوفر له ثلاثة شروط في أقل حال.
أولها: هو أن يطبق القانون على الجميع فإذا أمكن لدولة أن تستثني نفسها منه فإنه لا يعود قانونا كما هو الحال في القوانين الوطنية داخل اي بلد من حيث لزوم شمولها كل المواطنين. فالقانون الدولي الذي لا يطبق على كل الدول ليس قانونا.
وثانيها: هو أن تتوفر قواعد ثابتة وممكنة التحقق في تنفيذ الأحكام التي تترتب على أي خرق لذلك القانون من قبل أية دولة أيا كانت. وبخلاف ذلك فلا قيمة للقانون إذا كانت العقوبة المترتبة على خرقه تطبق على دولة (مثل العراق) دون أخرى (مثل إسرائيل). فحين خرقت الولايات المتحدة القانون الدولي في لغم شواطئ نيكيراغوا، كما حكمت محكمة العدل الدولية، فإنه لم تكن قيمة للحكم لعدم توفر أداة أمام نيكيراغوا لمنع المعتدي من تكرار العدوان أو للحصول على تعويض.
وثالثها: هو أن تلزم قواعد القانون الدولي العام كل الدول متى أصبحت أية قاعدة جزءً من القانون الدولي. مما يجعل للقانون الدولي العام أسبقية على المعاهدات والمواثيق. فلا يمكن بعدها لأية دولة أن تدعي أنها غير ملزمة بنزع سلاحها النووي بحجة انها غير موقعة على معاهدة منع انتشار السلاح النووي إذا كان المنع قاعدة من قواعد القانون الدولي العام. إذ انه من المضحك أن يسمح لإسرائيل وهي قوة نووية أن تطالب بمنع ايران من امتلاك السلاح النووي بينما هي، اي اسرائيل، ترفض حتى تفتيش أرضها للتأكد من خلوها من السلاح النووي بحجة أنها لم توقع المعاهدة.
وقد كشفت الأحداث الأخيرة أكذوبة وازدواجية مفهوم القانون الدولي في أوربا بكشل خاص. فحين احتلت الولايات المتحدة جمهورية بنما واعتقلت رئيسها ونقلته الى امريكا لم يجتمع مجلس الأمن. وحين غزت الصهيونية العالمية متثملة بالولايات المتحدة وبريطانيا ومعها دول حلف شمال الأطلسي العراق واحتلته فإن مجلس الأمن لم يجتمع لبحث عدوان واضح مناقض للقانون الدولي بأبسط بنوده التي تقضي بعدم جواز المساس بسيادة وسلامة عضو في الأمم المتحدة. لكننا رأينا أنه ما أن اعترفت روسيا بالجمهورتين المتنازع عليهما، وقبل أن تدخل قواتها لحماية هاتين الجمهورتين، طلع علينا ساسة أوربا واعلامها بكليتهم وهم يبكون على القانون الدولي الذي خرقته روسيا المعتدية في اعترافها بالجمهورتين. وبرغم ان اعترافها لم يكن خرقا لأي قانون ولا أريد تفصيل هذا هنا لأسباب عدة، إلا أنك لا يمكن إلا أن تستنتج شيئا واحدا: هو أن الأوربي يعتقد أن القانون الدولي يطبق على غيره وليس عليه!
ولا يمكنني أن أنتهي من هذه النظرة العاجلة في أمر يحتاج لكتاب لمعالجته دون أن أنبه الى مفهوم خاطئ آخر ساد حتى بين المخلصين مفاده أن مجلس الأمن يحق له أن يفوض غزو دولة فنسمع أو نقرأ من يقول إن العمل تم “دون موافقة مجلس الأمن” أو “دون تفويض من مجلس الأمن” أو “من دون تفويض دولي”. وهذا المفهوم يعني أن لمجلس الأمن سلطة تخويل غزو بلد ما. لكن هذا غير صحيح فليس في القانون الدولي ما يخول مجلس الأمن هذه السلطة. وليس لمجلس الأمن أن يمتلك سلطة لم يمنحها له القانون الذي تشكل بموجبه. بل ان المحكمة الأوربية، وهي أعلى محكمة في الإتحاد الأوربي وتلزم أحكامها كل دول الإتحاد، قررت أن قرارات مجلس الأمن التي تناقض قواعد القانون الدولي القسرية غير ملزمة لأحد ولا يعتد بها.
ما هو الطريق إذن؟ وما هي قواعد الدولة العربية المرجوة؟
وهو ما سأحاول بحثه في الأجزاء القادمة..
فللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 27 شباط 2022