إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: كتب فصلاً عن “نظرية المعرفة” عند الفلاسفة المسلمين
ولا تقل: كتب فصلاً عن “الإبستمولوجيا” عند الفلاسفة المسلمين
يردد عدد من الكتاب كلمة ” الإبستمولوجيا” وكأن المتعلم العربي لا بد أن يعرف ما يراد بها. وأشك أن كل الذين يستعملونها يعرفون تماماً ما المراد منها أو يحسنون التعبير عما يريدون. وقد لا يكون الهدف من استعمالها أكثر من أن يبين الكاتب انه يقرأ الإنكليزية ويفهمها.
فمن أين جاءت هذه الكلمة الغريبة على الأذن العربية وماذا تعني في الإستعمال الإنكلبيزي وما الذي يقابلها في لغة العرب. إن كلمة “إبستمولوجيا” هي الترجمة العربية لكلمة “Epistemology” ، وما يشابهها في النطق من عدد من اللغات الأوربية وعلى الأخص تلك التي اشتقت من أصل لاتيني، هذه الكلمة هي استحداث إنكليزي لباب من أبواب البحث الفلسفي من كلمتين يونانيتين (إغريقيتين) هما (إبستيم) وتعني المعرفة و (لوغيا) وتعني البحث أو الحوار والتي استعملت بشكل واسع في الإستعارة لتعني العلم. أي إن الكلمة الإنكليزية في اشتقاقها الأول كانت تشير للبحث في أصل المعرفة وجذرها. وحتى لا يظنن أحد أن الكتاب الإنكليز كانوا يبحثون في “الإبستمولوجيا” يوم كان ابن رشد يكتب تعليقاته على الفلسفة اليونانية، إن الكلمة دخلت الإستعمال في الكتابة بالإنكليزية بحدود منتصف القرن التاسع عشر أي ان الفكر الإنكليزي كان يبحث في الفلسفة لقرون دون الحاجة لهذه الكلمة فلم تعق هذه الحقيقة تطور الفكر الأنكلوساكسوني.
لكن الأهم من كل ذلك هو التذكير بأن الكلمة الإنكليزية اشتقت أول مرة من اليونانية (بسبب عجز اللغة الإنكليزية عن الإشتقاق) لتترجم كلمة ألمانية من جذر مختلف تماما عن الجذر اليوناني الذي اعتمد في الإنكليزية. ثم تطور الإستعمال للكلمة في كل لغة حتى غدت الكلمة تعني شيئا مختلفا في كل من اللغات الألمانية والإنكليزية والفرنسية على سبيل المثال لا الحصر. فكيف والحال هذا يمكن للقارئ العربي أن يعرف حين يقرأ مقالاً يتحدث عن “الإبتسمولوجيا” عما إذا كان الكاتب قد قرأها بالألمانية أم بالإنكليزية أم بالفرنسية؟ فهل يبحث عن هوية الكاتب وخلفية تعليمه قبل أن يهتدي للمعنى المراد في استعمال الكلمة في المقال؟
إن هذا التغرب لا يمكن أن ينفع أحداً. فلماذا كل هذا؟ فلا شك عندي ان فلاسفة المسلمين بحثوا في أصل المعرفة وما يتعلق بها دون أن يحتاجوا لإستعارة كلمة يونانية أو لاتينية. فاذا كنا بحاجة لكلمة أو عبارة تشير الى البحث في اصل المعرفة فليس هناك ما يمنع أن نستعمل العبارة العربية المعبرة وذلك في قولنا: “نظرية المعرفة” والتي تعطي الإطار العام للعبارة دون أن تتقيد بما تريده العبارة الألمانية أو الإنكليزية. هذا الى جانب أن إستعمال عبارة “نظرية المعرفة” سوف يغني القارئ العربي عن التفكر بالمراد ولا تحوجه أن يلجأ للقواميس والبحث. ويمكن بعدها للكاتب العربي أن يعرف ما يريده من العبارة ويشرح ذلك بالتفصيل. لكنه في كل حال يكون قد ابتدأ بداية سليمة في تعريفه للهدف منها وذلك بتسميتها: “نظرية المعرفة“.
فقل “نظرية المعرفة ولا تقل “إبستمولوجيا“.
قل: أقْبَسْتُهُ العلم
ولا تقل: قَبَسْتُهُ العلم
كتب الكسائي: ” وتقول أقبسته العلم بالألف وقَبَسْتُهُ النار بلا ألف“.
وأضاف المحقق: “هذا يخالف ما روي عن الكسائي في أدب الكاتب والصحاح (قبس) ولسان العرب من أن أقبس وقبس سواء في النار والعلم. وانظر هذه الفقرة في فصيح ثعلب وتصحيح الفصيح واصلاح المنطق.”
قل: أحٌّ (عند الحُرْقَة)
ولا تقل: أخّ (عند الحُرْقَة)
كتب الصفدي: “ويقولون عند الحُرْقَة ولَذْعِ الحَرارة المُمِضّة: أخّ، بالخاء المعجمة من فوق، والعرب تنطق بهذه اللفظة بالحاء المهملة، وعليه قول عبد الشارق:
فَباتُوا بالصّعيدِ لهُم أُحـاحٌ |
ولو خفتْ لنا الظَّلْما سَرَيْنا |
وحكي أن الحجاج لما نازله شبيبٌ الخارجيّ أبرزَ إليه غُلاماً وألبسه سلاحَه المعروفَ به وأركبه فرسه التي لم يقاتل إلا عليها، فلما رآه شبيبٌ غمس نفسه في الحرب الى أن خلَصَ إليه، فلما قاربه ضربه بعمود كان في يده وهو يظن أنه الحجاج فلما أحسّ الغلامُ حرارةَ الضربة قال: أخّ، بالخاء المعجمة، فعلم شبيب بهذه اللفظة أنه عبْد، فانثنى عنه وقال: قبحك الله يا بن أمِّ الحجاج، أتتقي الموت بالعبيد؟“
وعلق أبو الثناء الآلوسي على ذلك كما جاء عن الحريري فكتب: “ويقولون عند الحرقة ولذع الحرارة الممضة أخ بالخاء المعجمة من فوق والعرب تنطق في ذلك بالحاء المغفلة وعليهِ فسر قول الجهني:
فباتوا بالصعيد لهم أُحاح |
ولو خفت لنا الكَلْمى سرينا |
والكلمى بزنة فعلى بفتح فسكون جمع كليم أي مجروح وأحاح بزنة سعال بحائين مهملتين فسره المصنف في قوله: أي بات الكلمى يقولون أح أح مما وجدوا من حرق الجراحات وحر الكلوم. وفسره الجوهري بالعطش وخزازة الفم، وهذا التغليط ليس في محله، قال الأنصاري: أخٌّ بالخاء المعجمة كلمة توجع وتأوّه من غيظ وحزن، وقال ابن دريد أحسبها محدثة، وذكرها في القاموس بالمعجمة، وقال الغرناطي: أخٌّ وكِخٌّ بالخاء المعجمة المشددة وضبط ابن كثير كاف كخ بالكسر والفتح والخاء ساكنة وتنون ومثلهُ أخ. وفي حفظي أن أحد الحسنين رضي الله تعالى عنهما وكان صغيرًا أخذ تمرة من تمر الصدقة فقال لهُ صلى الله تعالى عليه وسلم لما أن الزكاة لا تحل لآله عليهِ الصلاة والسلام “كِخٌّ“ فرمى بها وقد شاعت هذه اللفظة في كف الصغير عما يستكره. ومن العرب من يقول في هذا المعنى حس. قال في الروض الأُنف حس بمهملتين كلمة تقولها العرب عند الألم، وفي الحديث أصيبت يد طلحة يوم أحد فقال حس، فقال صلى الله تعالى عليهِ وسلم-: (لو أنهُ قال بسم الله أي مكان قوله حس لدخل الجنة) والناس ينظرون وليست حس بفتح فسكون اسم فعل وإنما هو صوت كأوّه.
ومن كلامهم ضُربَ فلان فما قال حسّ ولا بسّ، بكسر السين المهملة المشددة مع التنوين وعدمه، كما ذكره اللغويون، وقال الأزهري: العرب تقول عند لذعة النار حسّ حسّ، وبلغنا أن بعض الصالحين كان يمد إصبعه إلى شعلة نار فإذا لذعتهُ قال حسّ حسّ كيف صبرك على نار جهنم وأنت تجزع من هذا. وهو من الحس بالكسر من الإحساس أو هو بمعنى الوجع كما في قول العجاج:
-
وما أراهم جزَّعًا من حسِّ
ومنهم من ينونهما. وأما قولهم جيء بهِ من حسِّك وبسِّك فالمراد بهِ جيء بهِ من رفقك وصعوبتك؛ لأن الحس الاستقصاء والبس الرفق في الحلب. قال الأصمعي: يقال جيء بهِ من حسك وبسك أي من حيث كان ولم يكن، وقال الزجاج: تأويلهُ من حيث يدركهُ حاسة من حواسك أو يدركهُ تصرف من تصرفك، وقال أبو زيد من حسه وبسه أي من حيث شاء، وعن ابن الأعرابي: الحس الحيلة، كذا في التهذيب.“
قل: رشَيتُ السلطان
ولا تقل: أرشَيتُ السلطان
كتب الصفدي: “ويقولون: أرشَيتُ السلطان. والصواب: رَشَوْته بغير همز.”
قل: رسنتُ دابّتي
ولا تقل: أرسنتُ دابّتي
وكتب الصفدي: “والعامة تقول: أرسنتُ دابّتي. والصواب: رسَنتُها، بغير ألف. والعامة تقول: أرْدَمْتُ البابَ، فهو مُرْدَم. والصواب: ردَمْتُه فهو مرْدوم. . والعامة تقول أرْدَفته. والصواب ردَفْتُه.”
قل: اسْتَقْتَلَ في الأمر
ولا تقل: اسْتَكْتَلَ في الأمر
كتب الصفدي: “ويقولون: اسْتَكْتَلَ في الأمر، إذا جدّ فيه، بالكاف، والصواب استَقْتَل، وأصله من القَتْل، وقد غلِطَ فيه بعضُ أهل الآداب. قلت: قال الجوهريّ في صحاحه: استقتلَ الرجلُ، أي استماتَ، ثم قال: تقتَّلَ الرجلُ بحاجَتِه، تأتّى لها. وهذا أنسبُ من الأول.”
(وما زال أهل العراق يقولون استكتل وكان ألف سنة لم تغير شيئاً).
قل: وقد ختمها بطابَعه
ولا تقل: وقد ختمها بطابِعه
كتب الصفدي: “يقولون للطين الذي يُختَم به: طابِع (بكسر الباء). والصواب: طابَع (بفتح الباء)، فأما الطّابع فهو الرجل الذي يطْبَع الكتاب.”
وجاء في ملحق مفردات أوهام الخواص: “ومن أوهام بعض المتحذلقين أنهم يفرقون بين الطابَع (بفتح الباء) والطابِع (بخفضها)، فيوهمون بأن الأول هو الطبع والسجية وما فطر عليه الإنسان من الخلال، بينما الثاني هو ما يلصق على الرسالة. والصواب أن كليهما بمعنى، والجمع طباع وطبائع وطوابع، ومنه قول الشاعر:
له طابع يجري عليه وإنما ** تفاضل ما بين الرجال الطبائع
والطابِع والطابَع أيضا يعنيان الخاتم، وهو ميسم الفرائض. وكل ما طبع أو ختم به. ومنه ما جاء في حديث الدعاء: اختمه بآمين فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة.“
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….
عبد الحق العاني