إنتهيت في الجزء السابق الى ان التغرب في اللسان قاد الى ضعف الإنتماء أو انعدامه. وهذا موضوع اليوم.
حين قامت شركات النفط البريطانية التي كانت تحتكر استخراج نفط العراق باستحداث نظام لبعثات العراقيين لدراسة الهندسة بشكل أساس في جامعات بريطانيا فهي ولا شك قدمت خدمة للعراق وإن كانت نفقات تلك الدراسة تأتي من نفط العراق. فشركات النفط كانت بحاجة لعراقيين يتقنون جوانب الهندسة المتعلقة بصناعة النفط وما يترتب عليها. إلا ان تلك العملية كان لها أبعاد أخرى في خدمة مصالح المستعمر المهيمن على المنطقة بكل أبعادها وترتب عليها أنها شاركت في أزمة المتعلم العربي التي نحن بصددها. فالطالب العراقي الذي درس الهندسة في بريطانيا تعلمها بالإنكليزية وصار يفكر بذلك اللسان وان كان لم يتقنه حيث إن دراسة العلوم الطبيعية أو الهندسة لا تتطلب إتقانا للغة. وهو الى جانب أنه صار يفكر بالمصطلح الهندسي أو النظرية العلمية بواسطة اللغة الإنكليزية فإنه أصبح يتعامل مع كل ما يخص ذلك الباب على وفق المواصفات البريطانية. وهكذا فهو عندما عاد للعمل في العراق أصبح سفيرا للمنتج البريطاني سواء اشاء ذلك أم لم يشأ! وهكذا فإن شركات النفط تمكنت أن تنتج أجيالا من العراقيين في خدمة الصناعة البريطانية أو خدمة شركائها، وأن يتحمل العراقيون كلفة ذلك من نفطهم الذي غطى كلفة دراسة المبعوثين. فكانت السياسة التي بدت في خدمة العراق لا تقل خدمة للمستعمر، وشاركت في تعميق التغرب الفكري لأجيال متعاقبة من المتعلمين العراقيين.
ولست أشك في أن هذا حدث في أجزاء أخرى من دول منطقتنا أو الدويلات التي استحدثت لاحقا. ثم قامت الحكومات العربية المتعاقبة بإرسال البعثات. وشارك في عملية التغرب الفكري قيام ترجمة للأدب الأوربي وعلى الأخص الإنكليزي والفرنسي والروسي. إلا أن المشكلة في عملية الترجمة تلك والتي كانت حسنة النية، في أغلب الأحوال، هو أن الذين قاموا عليها ليسوا من عارفي العربية أو علمائها بل كانوا في أحيان كثيرة يجهلون العربية. فاضطروا لإستعمال العبارة أو المصطلح كما هو في الأصل فدخل الى الإستعمال في العربية المصطلح الأوربي الغريب في الأدب والفلسفة والفكر كما دخل المصطلح العلمي الغربي عن طريق المبعوثين.
إن أحدا من المسؤولين على التعليم في أرض العرب لم يتوقف ليفكر في الأمر أو ربما ان أحداً لم يكن ليمر على ذهنه ان هناك مشكلة في هذا المنهج إذ عده الكثيرون طريقا سليما للتعلم.
لقد وصلني أكثرمن تعليق حول ما كتبت عن علاقة اللغة بالتفكير والإبداع. ولن أدخل في حوار ولن أعرض لعملية التفكير التي تجري في الدماغ وعلاقتها باللغة إذ أن موضوعا كهذا هو موضوع علمي متخصص يقود لإختلاف في الرأي ولا يفهمه كل قارئ بل قد لا يعنيه.
لكني أرد بسؤال واحد لمن لا يرى تلك العلاقة الجدلية وذلك هو أين الشاهد التاريخي على نجاح دولة في التطور والإنتاج والإبداع حين لم تكن تتعلم وتفكر بلسانها في حين أن لدينا أمثلة على دول نجحت في التطور والإبداع وهي تقرأ وتتعلم بلسانها منها فنلندا ومنها الصين؟
لقد دأبت منذ سنوات أن أعرض عددا من الكلمات الغريبة التي تسود في الإعلام والكتابة العربية في مسلسل “قل ولا تقل” الذي أعمل في جمعه واعداده منذ سنوات. وكنت أعرض البديل العربي السليم الذي يعطي المعنى المرجو دون أن يدفع القارئ العربي للضياع والبحث في القواميس عن المعنى. وقد قادت محاولتي هذه لحوار وجدل مع عدد ممن أعرف وممن لا أعرف. وكشف الحوار علة خطيرة تجعلني أكثر قلقا.
وخير ما يشرح ذلك هو مثال ذلك الحوار.
فنأخذ مثال ذلك ثلاث كلمات تستعمل كل يوم في الإعلام وفي الخطاب السياسي في أرض العرب وهي: استراتيجية وتكتيك ولوجستية. وهي مترابطة لأن اصل استعمالها كان عسكريا وان انتقل اليوم لجوانب الحياة الأخرى.
قلت لصاحبي وهو يحاورني لماذا تستعمل كلمة “استراتيجية” ولا تستعمل كلمة عربية للتعبير عما تريد، فرد علي بأنه لا توجد كلمة عربية تعبر عما يراد بكلمة “استراتيجية”. قلت لصاحبي أتدري أن استعمال هذه الكلمات جاء للحاجة للتعبير عن مصطلحات للحرب فأيدني في ذلك. قلت إذن ما الذي كان العرب يستعملون في حروبهم التي امتدت بين حدود الصين وأسبانيا؟ أكانوا يستعملون المصطلح اللاتيني أم انهم لم يكونوا بحاجة للتعبير عن خطط السوق التي تطلبتها تلك العمليات العسكرية الممتدة على مساحة واسعة، ولم يكونوا بحاجة للتعبير عن خطط التعبئة للعمليات العسكرية، ولم يكونوا بحاجة لتصوير خطط التدبير التي تتطلبها تلك العمليات من تموين ونقل وتجهيز؟
إن العرب شأنهم في ذلك شأن أية أمة كانوا دون شك يعبرون عن تلك الحاجة بلسانهم وذلك قبل قرون من اكتشاف الإنكليزي والفرنسي انه بحاجة أن يستعير من اليونانية واللاتينية كلمات ليعبر بها عن هذا الوصف.
وحين أوضحت لصاحبي أن العربية قادرة على التعبير عن هذه الكلمات الغربية بلفظ عربي سليم يؤدى المعنى ويفهمه السمع العربي دون مشقة فإني لقيت ترددا من صاحبي في قبول ذلك. وحين أوردت له ما فصلته من بديل لكل من هذه الكلمات الثلاث في مسلسل “قل ولا تقل” فإنه اعترض بأن عبارة “خطط السَّوْق” العربية لا تعبر عما تريده اللاتينية في كلمة “استراتيجية”، وحين سألته اذا كان الحال كما يقول فماذا تعنيه كلمة “استراتيجية” له فإنه لم يقدر أن يشرح ما تعنيه.
وهنا أدركت خطر الإنفصام بين ما يفكر به المتحدث بالعبارة اللاتينية وبين ما يريد أن ينقله للمتلقي العربي. فحين يعجز المتحدث عن نقل ما يريده لأنه يعاني من مشكلة في الربط بين الكلمة الأعجمية وبين الفكرة التي تدور في ذهنه فكيف يمكن للمتلقي أن يفهم ما يريده ذلك المتحدث؟
وهذا الإنفصام ينعكس على كل عملية التفكير في اي جانب من جوانب المعرفة التي يفكر بها العربي بلسان أعجمي. فالباحث في الفلسفة الذي لا يقدر أن يعبر عن كلمة “ديالكتك” بالعربية سيكون عاجزا دون أدنى شك أن ينقل للمتلقي العربي ما يريده في حديثه عن المادية لأن المتلقي العربي الذي لم يدرس اللغات الأوربية لا يمكن له أن يفهم ما يراد بالكلمة، وحين تكون الكلمة جوهر الفكرة فإن الفكرة لن تصل له، وقد يجد ذلك المتلقي صعوبة في الإعتراف بعدم الفهم، فيضيع الأثنان – المتحدث الذي لم يقدر أن يعبر عما يريد إما لأنه لا يعرف ما تعنيه الكلمة حقاً وإما لأنه تصور خطأ أن المتلقي سيفهم، ويضيع المتلقي الذي لم يفهم أي شيء.
وقد استشرى هذا الحال بين العرب في كل فروع المعرفة فإذا بالمتعلم العربي وقد أصبح يحاول أن ينقل فكرة أوربية بلسان أوربي لناطق بالعربية لا يقدر أن يستوعب المراد لغياب الأداة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا حيث إن المتعلم العربي لم يقدر أن يأتي بفكر جديد في أي من فروع المعرفة فقد ظل النشاط العربي يدور في النقل والتقليد دون أي إبداع. ولم يكن هذا بسبب انعدام مقدرة العربي إذا ما قيس بالمتعلم الأوربي ولكن كان ذلك بسبب عدم مقدرة العربي على الربط بين الفكرة التي أخذها باللغة الأعجمية وبين أداة التفكير بالعربية التي فطر عليها.
وقد يرد من يرد بأن الفكر عالمي ولا يحتاج للغة معينة حتى يبدع! وقد يكون مبدأ هذا القول سليما، لكن الفكر الإنساني هو عملية نتاج ذاتي في محيط معين. وقد أثبت الحدث والتأريخ أن أعمق النظريات الفلسفية وأمتنها لا تنطبق على العالم بشكل تلقائي بل تحتاج للتكييف على وفق الظرف والمنطقة التي تطبق فيها بما في ذلك الجذر التأريخي والتطور الإجتماعي الذي وصلت له المنطقة التي يراد أن تطبق فيها تلك النظرية وهذا يحتاج لفكر محلي ينتج عن تفكر في ذلك الإطار المتميز. فلو توقفنا عند محاولة المتعلمين العرب الذين اعتقدوا أنهم فهموا الماركسية وأرادوا نقل تطبيقها، كما قرأوها، الى العربية فإنا نرى أنهم عجزوا، على سبيل المثال، عن فهم سبب موقف كارل ماركس من الكنيسة المسيحية فاتخذوا موقفا مشابها من الإسلام فانتهوا في إثارة حالة سلبية لدى الكثيرين من العرب لأنهم لم يفهموا حقا ما أراده ماركس وعجزوا عن التفكر ولو قليلا خارج النقل.
إن عملية التفكير في العلوم غير الطبيعية، مثل الفلسفة والسياسة والإجتماع والإقتصاد، تتطلب مشاركة أوسع بين الفكرة المستعارة من الغرب وبين أداة التفكر التي تقوم على اللغة مما يستدعي جهدا أوسع مما يراد في العلوم الطبيعية. لقد أدى هذا الإنفصام الى أننا انتهينا ننقل كل شيء حتى اذا كان لا يتلائم مع الحاجة الحقيقية لمنطقتنا. فالذي يعتقد أنه سوف يتمكن أن ينقل النظام السياسي الأوربي المسمى بـ “الديموقراطي” لم يحسب اي حساب لأي اختلاف بين منطقتنا وبين أوربا التأريخي والإجتماعي والسياسي الذي يستدعيه أي تفكر سليم لنقل المبادئ. ومن توقف قليلا ونظر الى إختلاف النظام في روسيا والصين اليوم عما يجري في أوربا أدرك ما أعنيه!
بعد كل هذا يبدو أن المتعلم العربي انتهى به الحال وهو لا ينتمي لشيء. فلا هو غربي لأن الغرب في واقع الحال لا يقبله ولا هو عربي لأنه لم يأت للعرب بجديد.