أزمة المتعلم العربي – 3
كنت قد وعدت في الجزء السابق أن أكتب عن السبيل الذي أرى على الأمة لعربية أن تسلكه. لكني حين قرأت ما جاءني من ردود على ما كتبت سابقا وجدت من الأجدر التوسع في ذلك الباب قليلا قبل البحث عن ما أريده للمستقبل.
إن الحديث عن ضعف اللغة بين المتعلمين العرب وعجزهم عن نقل الفكرة بلسان عربي مبين يدعو للقلق الحقيقي كما وصفه أحد اصدقائي. ذلك ان هذا المتعلم الذي لا يعرف كيف يعبر عن نفسه ينتهي به الأمر وهو عاجز عن أن يعلم الجيل الجديد ولعل الأهم من ذلك هو أنه سوف يعجز عن التمكن من وضع تصور لسياسة تعليم لقومه بل ربما يعجز حتى عن التفكير بهذه السياسة والحاجة لها. فينتهي الأمر بالمتعلم العربي وبالذين يراد منه أن يعلمهم الى ضياع كامل في الإنتماء لمبدأ أو شعور بالإنتماء لوطن. إن جيلاً كهذا لا ينفع أمته بل لا ينفع حتى نفسه.
وهناك مؤشرات عدة على هذا الضياع وانعدام الإنتماء. أعرض منها ما يسمح به الحال، وإن كنت على يقين أن هناك الكثير مما يمكن أن يؤتى به شاهدا على ما أريد تبيانه.
فالمتغرب إما قد ينسى، أو قد لا يدرك، أن ما تعلمه ليس بالضرورة معروفا بين قومه، فإذا به يكتب ويتحدث عن الأمر وكأنه مسلم بأنه مفهوم ومقبول بين الناس. ويغيب عن هذا المتغرب أن الموضوع قد لا يكون مفهوما حتى بين اصحاب اختصاصه فما بالك بمن ليس من أهل الإختصاص. فقد قرأت اكثر من مرة لمعمار عربي وهو يتحدث عن “ما بعد الحداثة” في العمارة. وقد كان رد فعلي في كل مرة هو أن اسأل: ما هي الحداثة في العمارة عند العرب أولا قبل السؤال عما بعد الحداثة، فلا بد لمن يريد أن يفهم ما الذي يأتي بعد الحداثة أن يفهم الحداثة أولا؟
والحداثة وما بعدها هي حركات تعبر عن منهج وفلسفة في العمارة سادت في الغرب في القرن العشرين، لست بصدد الحديث عنها فليس ذلك مما يهمنا هنا. لكن الذي يهمنا هنا هو أن ندرك أن المعمار العربي الذي يتحدث عن الحداثة يفعل ذلك وكأن كل عماري في أرض العرب يعرف ما تعنيه لفظة “حداثة” في العمارة العربية. وليس هناك من سبب لهذه القناعة وحتى لو كان ذلك واقعاً فهولا يخاطب لعربي غير العماري والذي يراد منه أن يفهم سبب حاجتنا للحداثة الغربية. ولست أريد هنا أن أقول إننا لا نحتاج أن نتعلم من الغرب أو ننتفع بما هو جديد. لكني أقول إن النقل أو حتى الحديث عن النقل دون توقف عما يعنيه هذا النقل هو التغرب القاتل الذي يخرب التراث والمستقبل.
لقد أدى نقل حداثة العمارة الغربية الى أرضنا أن يتحول المجتمع العربي الذي تعلم لآلاف السنين أن يبني بيوتاً تعيش بتآلف مع البيئة الى مجتمع يبحث عن سبل لتخفيف أثر الخرسانة والشبابيك التي تغطي جدران البيت والتي إذا كانت تصلح للبيت الغربي فهي ولا شك لا تصلح له سواء أكانت تسمى حداثة أم لم تسم.
وكأن نقل سبل العمارة التي لا تصلح لأرضنا لم يكن وحده كافيا لخراب المجتمع العربي فإذا بالمعمار العربي المتغرب يمعن في الإساءة وذلك في الكتابة عن مفاهيم الحداثة وما بعدها وكأنه يحقق تقدما وهو يجهل أنه يزيد في الإساءة. إن المعمار العربي فشل في القرن العشرين بشكل عام من أن يأتي بفكر أو فلسفة عمارة عربية تصلح للمنطقة إذ انه عجز أن يربط بما تعلمه وبين حاجة المنطقة الحقيقية واكتفي بالتقليد والنقل الأعمي عن الغربي والذي لا يصلح بالضرورة لكل منطقة.
إن هذه الحالة من التغرب في العمارة ليست فريدة فهي تنعكس على كل جوانب المعرفة لكني أوردتها لسهولة تصويرها. وهي تكشف ذلك الإنفصام بين هوية المعمار العربية وبين إنتمائه المزيف للفكر الغربي.
والمثال الثاني الذي اسوقه يتعلق بالمفهوم السياسي للدولة العربية المرجوة. فلا يكاد المتحدث العربي، ممن عاش في الغرب أو تعلم فيه، يحدثنا عن الدولة العربية التي يتمناها دون أن يشير لرغبته “بديموقراطية” غربية في أرض العرب. ولا أريد أن أكتب عن “الديموقراطية” والتي لم أؤمن بها يوما رغم أني قضيت أكثر عمري أعيش فيها حيث إنه يكفيني أن عدد الغربيين الذين يسخرون من ديموقراطيتهم يفوق عدد العرب الذين يريدونها منهجا سياسيا لأقوامهم. لكني أريد أن أكتب عن ضياع العربي وتغربه وهو ينادي بنقل الديموقراطية الى ارض العرب.
إن النظام الديموقراطي السائد في الغرب لم يولد بين عشية وضحاها وإنما هو وليد تراكم عمره قرون. وهذا نتج عن صراع سياسي واقتصادي وعسكري واجتماعي بدأ بمرحلة التنوير التي أخرجت السياسة من هيمنة الكنيسة ثم مرت بالثورة الصناعية التي رافقتها أكبر عملية استعمار واستيطان لأربع قارات من قبل الغرب. إن هذا التأريخ المتراكم والمعقد هو الذي أنتج النظام الديموقراطي السائد في الغرب اليوم. وهو نظام لا يمكن مجرد نقله الى أي مكان آخر في العالم بسبب نجاحه في الغرب حيث إنه لا يوجد قانون اجتماعي يقضي بصلاحه لكل بلد آخر خارج هذا الإطار.
إن حرية الراي والتعبير لم يكن النظام الرأسمالي السائد في الغرب ليمنحها لولا يقينه بأن المؤسسات التي استقرت بعد قرون من الصراع قادرة على الثبات وحماية الدولة أمام أي اختلاف في الراي. والعربي الذي يعتقد أن نقل الديموقراطية الغربية لأرض العرب يمكن أن يتحقق ويقود لنظام سياسي عادل ما عليه إلا أن ينظر الى ما كانت عليه أوربا قبل ثلاثة قرون ليفهم خطل قوله. فالعربي الذي لا يدرك أن الديموقراطية في بريطانيا لم تتحقق للبريطاني إلا على حساب وبدماء ملايين البشر في أربع قارات لا علاقة له بالتأريخ أو السياسة وإذا كانت حقيقة أن الديموقراطية في بريطانيا لم تتم بمعزل عن خراب الآخرين لا تعنيه فلا علاقة له بالإنسانية. ومن لا علاقة له بالإنسانية فلا يعنيني كثيرا ما يفكر به!
وقد لا يدرك العربي المطالب بنقل الديموقراطية الغربية الى أرض العرب ان ما يبدو على السطح من عدالة النظام يخفي الكثير الذي إذا ما كشف يظهر أن الديموقراطية الغربية تمتلك من أدوات الإضطهاد والإستبداد ما لا يميزها عن أي نظام سياسي مستبد في ما يسمي بـ “العالم الثالث“. وحين أقول هذا فلست أريد الدفاع عن هذا العالم الثالث المستبد لكني أقول ذلك للتذكير بأن الديموقراطية التي تحمي رأس المال يمكن لها أن تستبد بالكامل اذا ما عرض رأس المال للخطر. ولكي أوضح هذا فإني آتي بمثال على ذلك. فأقول إنه لا يوجد قانون يعد مستبداً او طاغيا صدر في العراق أوسورية على سبيل المثال خلال حكم البعث للبلدين إلا وله مثيل في القانون البريطاني. ولا أعني بهذا ان بريطانيا أصدرت كل هذه القوانين في القرن العشرين لكنها قد تكون قد شرعت قبل قرن مادامت سارية المفعول. وهذه الحقيقة ذكرنا بها التشريع الأخير في بريطانيا والذي جعل مجرد الإيمان بمبادئ أية حركة، تضعها وزيرة الداخلية البريطانية في قائمة الإرهاب، جريمة كبرى من جرائم دعم الإرهاب. وهي لا تختلف عن تجريم بعث العراق لدعم حزب الدعم أو تجريم بعث سورية لداعش. بل هي في واقع الحال أوسع من قوانين التجريم في العراق وسورية. ذلك أن سلطة القانون البريطاني حول دعم الإرهاب هي سلطة عالمية إذ ان كل من يدعم حركة “حماس” على سبيل المثال يمكن أن يقاضى بالجريمة أمام القضاء البريطاني أيا كانت جنسيته وأيا كان محل سكنه أو محل وقوع الجريمة!
ولن أتوسع كثيرا هنا حول مفهوم الديموقراطية حيث أنوي العودة للكتابة فيه حين أكتب عن النظام السياسي الذي أرجوه للدولة العربية المرتقبة. لكني لا بد لي أن اسأل عن كيفية إمكانية نقل اليدموقراطية الغربية اليوم الى المجتمع العربي الذي ما زال كثير من سكانه يختلفون وينتمون ويصوتون على وفق الخطوط التي رسمت في سقيفة بني ساعدة قبل أربعة عشر قرناً؟
إن المطالب بنقل النظام السياسي الغربي الى أرض العرب متغرب يجهل في التأريخ والإجتماع والسياسة بل يجهل في فهم طبيعة الإنسان. إن قوانين علوم الطبيعة ثابتة ويمكن تعميمها في كل مكان وربما في كل زمان لكن القوانين التي تخص فكرالإنسان ونفسه وسلوكه ليست عالمية الثبات والتطبيق.
هذه نتف من أزمة المتعلم العربي التي تنعكس بسلبيتها على كل الأمة.
فما هو السبيل الذي أرى أن على العرب سلوكه؟
هذا ما سأحاول بحثه في القادم..
فللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 20 كانون الأول 2021