إنتهيت في الحلقة السابقة بالحاجة للتوقف عند تحديد معالم الخلل في سلوك القوميين من العرب في القرن العشرين.
وأول ما يصدمنا من نتائج ما حدث هو ان قادة المشروع القومي العربي في العراق وبلاد الشام ومصر مشتركون في قصورهم عن فهم طبيعة الناس في بلدانهم. فقادة المشروع القومي في العراق وبلاد الشام لم يدركوا عمق الرابط المذهبي في كل منهما والذي كان أقوى بكثير من الخطب والإدعاءات بالانتماء القومي. فحين امتحن الانتماء تبين أن المذهبية اقوى القومية. ولو أدرك هؤلاء القادة تلك الحقيقة لقضوا جزءا من الوقت في التوعية الحقيقية للانتماء القومي التي تقود في النتيجة للتقليل من قيمة الإنتاء المذهبي. إن افتراض تأصل الشعور القومي، الذي عملت القيادات القومية علي ه، كان وهماً أدركه الأعداء وسخروه في غزو العراق عام 2003 والبدء بخراب سورية عام 2011.
أما في مصر فإن جمال عبد الناصر، والذي لم يبدأ حياته بحماس قومي للعروبة وإنما أدرك حقيقتها لاحقاً، لم يكن يختلف عن بقية المصريين الذين يعتقد أحدهم أن انتماءه العربي حقيقة لا تحتاج لتأكيد. لذلك فإن الشعور القومي في مصر ليس قوة فاعلة ولا محركة. وحين اكتشف جمال أن إنتماء مصر القومي هو الضمان الوحيد لها وللعرب جميعا فإنه أخطأ حين اعتقد أن شعب مصر أدرك تلك الحقيقة وتبعه فيها. لذلك فإنه لم يقم بتأسيس حزب سياسي ينظر ويبني شخصية المصري على تلك القاعدة، فلم يكن الإتحاد ااإشتراكي حزبا بل كان تجمعاً جماهيريا للمناسبات. فكانت النتيجة أنه ما أن رحل حتى عادت مصر الى ما كانت عليه قبله عربية الانتماء سلبية العمل من أجل عروبتها. وحقيقة الحال اليوم إنه يوجد خارج مصر من العرب من أتباع جمال عبد الناصر، من حيث الإيمان إن لم يكن من حيث العدد، أكثر مما يوجد منهم داخل مصر.
واشترك المشروع القومي العربي في الدول الثلاث في وهم كبير اسموه الجماهير. وهؤلاء كانوا لجمال عبد الناصر الحشود الضخمة التي تخرج بصدق في تأييده بينما كانت الجماهير بالنسبة لبعث العراق وسورية التضخم الهائل في عضوية الحزب. واعتقد الجميع أن هذه هي ضمانة النجاح والديمومة.
ولا أريد أن يساء فهمي، فلست أقصد أني لا أقيم وزنا للجماهير وما يحق لها أن تطالب به وتتوقعه. لكني لا أعتقد أن الجماهير تقود بل هي تقاد لذا فإن الحزب الحاكم لا يمكن أن يكون حزب جماهير وانما يجب أن يكون حزب نخبة.
وقد جرب الحزب الشيوعي السوفياتي ذلك وأثبت فشله. فحين يصبح السبيل للتقدم في العمل وفي فرص الحياة مرتهناً بالارتباط بالحزب الحاكم وليس بالإخلاص في العمل وانتماء للمبادئ وللوطن فإن الجميع سوف ينتمون للحزب. وعندها تسود قواعد جديدة في العلاقات داخل الحزب وخارجه ويسري الفساد ويصل للقيادة أناس لا يمتلكون أي إيمان بشيء سوى بأنفسهم. وحين يمتحنون يكونون أول الساقطين، كما حدث في موسكو!
وهكذا نقل المشروع القومي العربي التجربة الروسية في جعل الحزب القائد حزباً جماهيرياً ففشل كما فشل السوفيات في ذلك.
ولم تكن نتيجة ذلك الفشل هو تخلي تلك الجماهير عن الحزب أو انحيازها لعدوه حسب وانما تعدت النتيجة لما هو أخطر وأصعب للتلافي. فقد أدى مفهوم الحركة الجماهيرية الموهوم الى أن تتخلى قيادات المشروع القومي العربي عن اي تخطيط سكاني أو تنموي وحسبت أن الجماهير ستنظم نفسها تلقائياً في مشروع تنموي حضاري. فكانت النتيجة خلاف ذلك تماماً.
والتحق بعمل انعدام التخطيط الحضري للدولة عامل آخر لا يقل خطورة وهو الذاتية المفرطة للقائد القومي التي أدت الى انغماسه في التلذذ بصخب الجماهير وتعظيمها له.
وحيث إنه لم يكن معقولا أن تنتج المدينة جماهيرا. فمن اين جاءت تلك الجماهير؟
إنها جاءت من الريف!
وهكذا شجع انعدام التخطيط الحضري ورغبة القائد بتمجيد الجماهير أن تتحول القاهرة ودمشق وبغداد الى حواضر تحيط بها بحار من سكان الريف الذين نزحوا طمعا في حياة أفضل لم تتمكن الدولة أن تمنحهم إياها في ريفهم. وحين يحيط الريف بالمدينة تتآكل قيم المدينة. وهذا ليس حكماً بأفضلية قيم المدينة على قيم الريف. إنما هو تثبيت حقيقة.
فكيف يمكن للمدينة أن تتقدم بقيم الريف المختلفة مع حقيقة قيمها وتركيبها؟ وحتى لا يبدو الحديث نظرياً فإني سوف آتي على مثال حقيقي من التناقض بين قيم الريف والمدينة مما فشل فيه المشروع القومي.
فقد بدأ العراق في نهاية ايام الحكم الملكي في خمسينيات القرن الماضي ينتقل من قواعد النظام القبلي العشائري في تنظيم العلاقات بين الناس الى نظام قائم على وفق قواعد القانون المدني والجنائي الذي وضعه رجال من اصحاب اختصاص متميز. وشهدت مرحلة بناء الجمهورية التي أعقبت انقلاب عام 1958 تطوراً ملحوظاً في ذلك المجال حتى إن عبد الكريم قاسم تجاوز ما كان يعد مقبولاً يومها فغير قانون الأحوال المدنية ليساوي في الإرث بين الذكر والأنثى. وكان متوقعاً بأن قادة المشروع القومي العربي في العراق سيمضون في مرحلة تجاوز النظام القبلي العشائري من أجل تقوية نظام المدينة القائم على وفق قواعد القانون.
إلا ان الأمر لم يكن كذلك. فقد دفعت ظروف قاهرة قادة المشروع القومي للبحث عن مخارج فوجدوا في العودة للنظام القبلي العشائري في “الفصل” حلاً للخلافات. لم يجد القادة حرجاً في ذلك لأن انتماءهم للريف هو حقيقة وابتعادهم عن الريف حديث عهد مما قاد الى أن قبولهم باللجوء لنظام الريف في حل الخلافات لم يكن مشكلة كبيرة. لكنه في واقع الحال كان مشكلة كبيرة في فهم أن الدولة القومية لا يمكن أن تبنى على قواعد نظام قبلي ريفي لا يعترف بالقانون المدني. إن هذا القبول هو مثال لقواعد عدة تمكن الريف من إدخالها للمدينة فكانت أول نتائجها أن أبناء المدينة خرجوا من المعادلة بالكامل فلم يعد لهم دور في أدارتها أو إدارة الدولة التي كانوا هم أهلها ومنشؤوها.
وكان من نتائج تبني فكرة الحزب القائد أن يعتقد القادة القوميون بوجوب أن يكون الجيش جماهيريا كذلك فاتخذوا من قاعدة التجنيد الإلزامي اساسا لبناء القوات المسلحة. ولم يثنهم عن ذلك مقدار التذمر والسخط الذي تعاملت به الجماهير مع هذا الشرط من شروط المواطنة. ولو أدرك القادة أن الجيش المحترف والذي يمكن أن يبنى برفع أجر العاملين فيه للحد الذي يجعل التطوع فيه ليس رغبة وطنية حسب وإنما سبيلا للعيش.
وليت النتيجة السلبية الوحيدة للتجنيد الإلزامي كانت التذمر والسخط. إنما النتيجة هي أن القادة القوميين في العراق وسورية بشكل خاص أعطوا الصهيونية سلاحاً لم تكن تحلم به حين قامت بهجمتها للشرق الأوسط الجديد. فقد وجدت الصهيونية جيشا كاملا من الرجال الذين تدربوا على كل صنوف الأسلحة مما وفر عليها مهمة التدريب والتسليح وكان كل ما احتاجته هو أن يضع عدد من أدعياء الإسلام السياسي أيديهم على معدات في موقع عسكري ليتمكن المدربون العاطلون عن العمل في وضع خبراتهم العسكرية وتوجيهها ضد الدولة التي دربتهم وعلمتهم كيف يستخدمون ذلك السلاح، لكنه كان هذه المرة ليس ضد العدو بل ضد الدولة ذاتها.
هذه هي بعض مواقع الخلل في فهم قادة المشروع القومي العربي للمجتمع، فأين هي أهم الأخطاء التي أرتكبها قادة المشروع القومي في تعاملهم؟