إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: ما زال الخلاف قائماً ولم يزل قائماً، ومازلت أقرأ
ولا تقل: لا زال الخلاف قائماً، ولا زلت أقرأ
لم أجد استعمالا مغلوطاً ومنتشراً في الكتابة والقول قدر ما وجدت في استعمال “لا زال” حين يراد “ما زال”. فهو شائع في وسائل الإعلام بشكل دائم وهومنتشر بين الكتاب وبين عدد ممن تصدى لنظم الشعر. وقد يقول قائل: ما هو الضرر إذا استعملت “لا” بدلا عن “ما” فكلاهما يعطي المعنى نفسه في النفي. وهذا قول صحيح وكان سيكفي لو لم يكن لكل من “ما زال” و “لا زال” معنىً مختلفاً. ولم أجد هذا اللحن مما ورد في كتب السابقين في لحن العوام. مما يعني أن هذا الخطأ لم يكن مسموعاً عن العرب سابقاً وانه جديد الحدوث أدخلته الأمية التي أنتجها التتريك العثماني والإحتلال الأوربي لأرض العرب.
فقد كتب مصطفى جواد في ذلك قبل عقود فقال: “وذلك لأن أفعال الإستمرار الماضية لا يكون نفيها بحرف النفي “لا” بل يكون بحرف النفي “ما”، تقول: مازال قائماً و مازلت قائماً، فهي كسائر الأفعال الماضية التي لا تكرر معها “لا” وذلك أنك لا تقول: لا جاء محمد فقط بل ينبغي أن تكرر “لا” فتقول: “لا جاء احمد ولا أرسل رسولاً”. فإن لم يكن تكرار وجب أن تقول “ما جاء محمد” وكذلك زال وأخواتها. فليس فيها تكرار. واستثنيت حالة واحدة لإستعمال “لا” من غير تكرار وهي حالة الدعاء والرجاء كأن يقال “لا زال فضلك داراً”، كما يقال “لا خاب سعيك” ويقال “لا برحت محفوظاً” كما يقال ” لا حُرمت ثمرة غرسك”. إنتهى
وقد وجدت، أثناء جمعي لشعر أبي طالب بن عبد المطلب، شاهدأ على استعمال “لا زال” في الدعاء كما وصفه مصطفي جواد فأردت أن آتي به دليلاً على ذلك الإستعمال وتمييزا له عن “ما زال”. فقد جاء في لامية أبي طالب المشهورة في مدح رسولنا الأكرم (ص) قوله:
فلا زالَ في الدُّنيا جَمالاً لأهلِها وَزَيناً لِمَنْ والاهُ ذَبَّ المشاكِلِ
وهو دعاء معناه ليدم، لذلك صلح دخول لا على الماضي وإلا كان القول ما زال.
فقل: “ما زال” إذا أردت النفي.
وقل: “لا زال” إذا أردت الدعاء.
قل: يا أبتِ
ولا تقل: يا أبتي
وكتب الصفدي: “ويقولون عند نِداء الأبوين: يا أبَتي ويا أمتي، فيثبتون ياء الإضافة فيهما مع إدخال تاء التأنيث عليهما قياساً على قولهم: يا عمّتي، وهو وهْمٌ. ووجه الكلام أن يقال: يا أبَتِ ويا أمَّتِ، بحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة، كما قال الله تعالى: “يا أبَتِ لا تَعْبُدِ الشّيطانَ”، ويقال: يا أبَتا، ويا أمّتا، بإثبات الألف، والاختيار أن يوقف عليها بالهاء فيقال: يا أبَهْ ويا أمَّهْ.”
وعلق أبو الثناء الآلوسي على الصفدي فاضاف: “اعلم أنهُ إذا كان المنادى المضاف إلى الباء أبا وأما، ففيه لكثرة استعماله لغات فيفتح ويكسر ويضم ويؤتى بألف بعد التاء كما قال:
يا أبتا علَّكَ أو عساكما
واختلفوا في هذه التاء، فقال الكوفيون هي لتأنيث الكلمة وياء المتكلم مقدرة بعدها ورد بجواز قلبها هاء في الوقف، ولو كان بعدها ياء لم يجز، وذهب البصريون إلى أنها عوض من ياء الإضافة، ولذلك لا يجمع بينهما فيقال يا أبتي ويا أُمَّتي إلَّا ضرورة، والصحيح أنهُ شاذ لا ضرورة فقد قرئ كما في الكشاف يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، فقول الحريري أنهُ وهم وهم، ومن غريب لفظ الأب قولهم في ندائهِ يا أبات، كما قال الشاعر:
تقول ابنتي لما رأتني شاحبًا كأنك فيها يا أبات غريب
وخرج على أن أبا مقصور والتاء عوض من ياء المتكلم وكان الأصل يا أباي، وقيل الألف فيهِ إشباع.”
قل: إرْتدَفْتُ الرّجُلَ
ولا تقل: أرْدَفْتُ الرّجُلَ
كتب الصفدي: “ويقولون: أرْدَفْتُ الرّجُلَ، إذا جعله خَلْفَه راكباً، والصواب: ارتَدَفْتُه، أي جعلته رِدْفي، فإذا ركب الرجل خلف الرجل قلت: ردفته وأردفته، أي صرتُ رِدْفاً له، قال الشاعر:
إذا الجوزاءُ أردفت الثريا ظننت بآلِ فاطمةَ الظنونا
ودابة لا ترادف، أي لا تحمل الرديف، وقولهم لا تُردف خطأ، لا تُرادفُ مَبْنَى المفاعلة على الاشتراك في الفعل، فهو بهذا ألْيَقُ، والعرب تقول: ترادَفَتِ الأشياءُ، إذا تتابعتْ، وأهل القوافي يسمون الشِّعر الذي تتوالَى الحركةُ في قافيته المترادف. وإنما سُمّي الرِّدْف رِدْفاً لمجاورته الرِّدف، وهو العجُز، ويقال: جمل مُرادِف أي عليه رديف، وقُرئ: “بألْفٍ منَ المَلائِكَةِ مُرْدِفين”، بكسر الدال وفتحها، فمن كسرها أراد: متتالينَ في العدد، ومن فتح أراد: أُردِفوا بغيرهم.”
وعلق ألآلوسي على ما كتبه الصفدي فكتب: ” يقولون: (أردفته) إذا جعلته خلفك راكبًا، والصواب (ارتدفته)؛ أي جعلته ردفي. فإن ركبت خلف رجل قلت ردفته، و(أردفته) إذا صرت ردفًا لهُ قال:
إذا الجوزاء أردفت الثريا |
ظننت بال فاطمة الظنونا |
والجوزاء تتلو الثريا. ويقال (دابة لا ترادف)؛ أي لا تحمل رديفًا. وقولهم: (لا تردف) خطأ. و(الردفان) الغداة والعشي؛ لأنّ كلاًّ منهما ردف صاحبه.
والحق سماع ما أنكر. ففي شرح الفصيح (دابة) لا تردف ولا ترادف، وأنكر بعضهم تردف ورد عليه بأنهُ مسموع وحكاه ابن القطاع أيضًا. وقال الأعم ترادف.
وفي القاموس هذه دابة لا ترادف ولا تردف قليلة أو مولدة. وقال الراغب (دابة لا تردف ولا ترادف)، وفي الأساس مثله. واقتصر في الصحاح على ذكر ترادف دون تردف. ثم أن معنى المفاعلة هنا غير موجود؛ لأنهم فسروه بحمل الرديف والردف وهو غير مشترك بين الدابة وراكبها ففي قوله (لأن مبنى… إلخ) بحث. …. والأرداف والأركاب لأحد وراءك. وقال الزجاج أردفت الرجل إذا جئت بعده ومنهُ تتبعها الرادفة. ويقال ردف وأردف بمعنى عند ابن الأعرابي وقوم من أهل اللغة. وقال أبو عبيد يقال: ردفت الرجل وأردفته إذا ركبت خلفه. وقيل بينهما فرق فردفت الرجل بمعنى ركبت خلفه، وأردفته بمعنى أركبته خلفي…”
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….