عقدة النقص الثانية عند الأوربي
حاول عدد من الأوربيين ومنهم أساتذة جامعيون أن يزوروا التأريخ لغمط حق أهلنا الذين أغنوا الفكر في أيام الدولة العباسية ودولة الأندلس فادعوا أن أهلنا لم يأتوا بجديد وإنما اكتفوا بترجمة الفكر اليوناني. وليس الأمر كذلك فقد كتب أهلنا، ومن جاؤوا من شرق الأرض ليتعلموا ويعيشوا معهم، في العلوم والفلسفة وقضايا الفكر الكثير مما ليس هذا مكان عرضه. ذلك أن التوجه للبحث عن السعادة الحقيقية في الفكر والاجتهاد في الإعتماد على إرث القدماء هادياً للوصول الى علم الأشياء بحقائقها ميز تأريخ الفكر العربي في الفترة الممتدة بين مرحلة بداية الفلسفة في عصر الكندي وبين تطور الإسلام في الأندلس عندما قام ابن رشد بوضع تعليقه الفلسفي على نتاج أرسطو، وهي مرحلة زاخرة بالعطاء.
وقد كشف عدد من الأوربيين عن مدى الكراهية التي يحملونها لنا والتي كانت وما زالت تؤرقهم بسبب عقد النقص التي بدأت منذ تنصرهم. فهذه كريستينا دا انكونا، أستاذة الفلسفة في جامعة بيزا الإيطالية، حين ساهمت بمقال في موسوعة جامعة ستانفورد للفلسفة تحت عنوان “المصادر اليونانية في الفلسفة العربية والإسلامية” كان يهمها كثيرا أن تؤكد على ابراز دين كل عربي قام بالترجمة من اليونانية للعربية أو الآرامية فتقول على سبيل المثال: “قام أبو علي بن السماح وهو مسيحي من تلاميذ يحيى بن عدي بتحقيق الترجمة القديمة لكتاب البلاغة (أرسطو)…” مؤكدة نصرانية بن السماح حتى لا يظنن أحد أنه مسلم لأن اسمه “ابو علي”. وهي في هذا العمى الأوربي غابت عنها حقيقتان نفعتنا بهما. أولاهما هي أن أهلنا لم يكن يعنيهم كثيرا دين المترجم بل كانوا مشغولين بالعلم والفكر. وثانيتهما هي ان الخليفة العربي الذي جعل النصارى مستشاريه وأطلق أيديهم في “بيت الحكمة” كان حاكماً يتمتع بدرجة عالية من التسامح والعدل بين أهله حتى إنه برغم كونه خليفة المسلمين لم يجد حرجاً في تقريب من لم يقروا له بالخلافة. وهذا القدر من التطور الحضاري لم يدركه الأوربي حتى اليوم فكم رئيس أمريكي استخدم مسلماً أمريكياً واحداً مستشاراً له؟
كنت قد بينت أن العرب يومها كانوا في أوج العطاء الفكري في كل أبواب المعرفة بينما كانت أوروبا تعيش في العصر الحجري في المادة والفكر. ثم سقطت بغداد بيد المغول وتحولت دولة العرب الى دول طوائف، وهو ما يريد الأوربي تنفيذه اليوم بعد فشله في تحقيق الدولة الوطنية الموالية له في أعقاب اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم المشرق العربي. وانسحب الصليبي الأوربي الى جحره المتخلف لكن ذلك لم يكن ليعني توقفه عن البحث عن قتال ذلك لأن القتال ليس قرين الحضارة أو التمدن.
لكن الكنيسة كانت من خلال هيمنتها على الدين والسياسة تعيق أي مشروع للتطور الفكري في أوروبا مما يعرض مسلماتها للسؤال. وهذه الحقيقة لا بد أنها أطالت عمر التخلف في أوروبا. لكن عوامل عديدة بدأت تؤثر في المجتمع ليس أقلها ما جلبه الصليبيون معهم من أثر الفكر في منطقتنا الذي عاشوا في ظله وتأثروا به، كما لعب الاحتكاك مع عرب الأندلس جانباً آخر لنقل الفكر العربي المتطور إلى جنوب أوروبا. ثم ولدت الطباعة الآلية والتي لعبت دوراً رئيساً في نقل المكتوب على نطاق واسع في مجتمع كان يعاني من أمية عالية.
ووقع حدثان في القرن الخامس عشر كان لهما دور مهم في تسريع النهضة الأوربية وهما سقوط قسطنطينية في عام 1453 وسقوط غرناطة عام 1492. فقد ترتب على سقوط الأولى نزوح عدد كبير من المتعلمين الى وسط أوروبا حاملين معهم كتب المعرفة والعلوم. أما سقوط غرناطة، واجتثاث الإسلام فيها بشكل كامل وطرد كل عربي لم يرض بالمسيحية، فقد نتج عنه تمكن الأوربي من كل كتب المعرفة والفكر التي كانت في الأندلس سواء ما كان منها بالعربية أو ما كان العرب قد ترجموه للاتينية.
وبرغم كل ما حاوله الأوربيون خلال قرون فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الأوربي كان قد فقد في القرون المظلمة الفكر اليوناني بكليته خصوصاً ما كان منه في الفلسفة. فلو لم يكن العرب قد ترجموا ما كتبه اليونانيون للعربية لضاع الفكر اليوناني في أوروبا ولكانت أوروبا اليوم غير أوروبا ولربما ما كنا نشهد الإنكليزي يسود آلاف الصفحات عن فكر أرسطو.
وقد لا يكون في اي مما كتبته أعلاه جديد فهي معلومات يمكن التحقق منها بسهولة. لكن فهمي لأثر انتقال الفكر اليوناني للأوربي يقدم جديداً. فقد سبق أن أشرت لذلك فرد علي أحد الأصدقاء في أني جئت بغريب مشكوك فيه. لذا وجدت التوسع في عرضه مفيداً.
فالفكر ينمو ويتطور بالتراكم والأخذ عن الآخرين. فالتأريخ المدون، وليس عندنا غيره لأن غير المدون ليس تأريخاً، يخبرنا أنه كان في منطقتنا الممتدة من ما بين النهرين حتى ساحل الأبيض المتوسط حركة فكر وانتاج متواصل ومستمر تراكمت فيه المعرفة وازدهرت. أما أوروبا فقد كانت مؤلفة من قبائل متنقلة من صيادين يجوبون الغابات ويعيشون في الكهوف أو فوق الأشجار توقياً من الحيوانات. وأثبتت دراسة علمية في جامعة لستر البريطانية أن سكان بريطانيا يحملون (جينات) منطقتنا بشكل كبير بسبب أن النازحين من منطقتنا قبل خمسة عشر ألف عام هم الذين حولوا المجتمع في الجزر البريطانية من مجتمع صيادين الى مزارعين مستقرين يبنون القرى ويستصلحون الأرض.
فمن أين جاء الفكر لليونان؟ اذا نظرنا لمثال من الفلاسفة والعلماء اليونانيين الذين ذاع صيتهم لاحقا كفيثاغورس (570 -496 ق م) وسقراط (470 -399 ق م) وابو قراط (460-370) وأفلاطون (424 -348 ق م) وأرسطو (384-322 ق م) واقليدس (350 – 270 ق م) وأرخميدس (287 -212 ق م)، تبين لنا أنهم جميعا عاشوا في قرون ثلاثة بين موسى وعيسى حين كانت منطقتنا تعيش أدياناً وفكراً متطوراً. أما أوروبا بشكل عام فلم يكن فيها أي فكر أو ثقافة أو علم. فهل يعقل أن اليوناني طلع فجأة من بين أوربا المتخلفة بهذا الكم من العلم والفلسفة دون أية مقدمة أو تراث متراكم؟ إن التأمل العقلي ينفي امكانية ذلك. كما إن التشابه بين آلهة اليونان والآلهة السامية والمصرية يوحي بترابط كبير. يضاف الى ذلك كثرة التنقل والسفر بين اليونان والهلال الخصيب فالمعروف على سبيل المثال أن فيثاغورس سافر لما بين النهرين واطلع على ما فيها من تطور وعلم. وحيث إنه تبين اليوم أن نظريته المشهورة كانت معروفة في بابل حيث وجدت على لوح طيني يعود لألف سنة قبل فيثاغورس فلا بد أنه أطلع عليها واستعملها ثم نسبها اللاحقون له. وهناك شواهد عديدة لسنا بصدد تدوينها أو إحصائها. لكن النتيجة العقلية هي ان أهل اليونان هم بفكرهم وفلسفتهم ليسوا سوى امتداد طبيعي للفكر المتطور في منطقتنا لأن أوروبا لم يكن فيها اي فكر أو علم بينما كان اليونانيون ليسوا فقط على امتداد ساحل الأبيض المتوسط الذي يحد منطقتنا بل كانوا على تواصل مستمر مع أهل منطقتنا في وادي الرافدين وبلاد الشام ومصر.
فحين أراد الأوربي في عصر النهضة الأوربي الباحث عن التحرر من قيد الكنيسة فكراً فإنه التجأ للفكر اليوناني حيث لم يكن لديه غيره وانكب عليه ودعاه لنفسه محتجا بأن أوروبا وريثة اليونان وذلك في محاولة بائسة للادعاء بوجود فكر أوربي موروث. لكن الفكر اليوناني كان قد احتواه العرب وترجموه وحفظوه وعلقوا عليه وزادوا.
وحين اكتشف الأوربي هزال ادعائه فإن عقدة نقص جديدة تولدت عنده فها هو ما أن حاول التخلص من عقدة النقص الأولى في أنه أخذ دينه من عندنا في البحث عن فكر يعوض به ذلك النقص حتى وقع في عقدة نقص ثانية وهي أنه أخذ فكره وفلسفته من عندنا.
وهكذا انتهى الأوربي يدرك في قرارة نفسه أنه لم يأت بشيء فحياته التي بناها على دين وفلسفة تستقي الإثنين من تراث منطقتنا. فكيف لا يرفض تلك الحقيقة. لكنه لا بديل عنده فلا هو يستطيع أن يدعي ديناً أو فكراً من أرضه كما إنه لا يستطيع أن يقر لنا بهذا الفضل الذي منحناه في الهداية والفكر.
لقد حددت هاتان العقدتان طبيعة العلاقة بين الأوربي وبين منطقتنا منذ قرون وهي ما زالت المحرك الأساس لسياساته في التعامل معنا.
كيف سارت الأمور بعد ذلك وماذا حل بنا وكيف يجب علينا أن نتعامل معه؟
هذا ما سأحاول بحثه في القادم..
فللحديث صلة…..