يسمي المؤرخون الأوربيون الفترة ما بين القرنين السادس والحادي عشر (العصور الوسطى) والتي تمثلت بانخفاض في عدد سكان المدن وهجرة متزايدة وهبوط في الإنتاج والتجارة. لكن أهم ما ميز تلك الفترة هو الإرتفاع في نسبة الأمية وانعدام العطاء الثقافي مما حدى بمؤرخي القرن التاسع عشر الى تسمية تلك الفترة (العصور المظلمة).
كانت الكنيسة المؤسسة الوحيدة التي بقيت بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية فأعطت تماسكاً ثقافياً لأوربا حيث حافظت على تعليم اللغة اللاتينية والكتابة وإن كان ذلك بحدود كادت تقصرها على رجال الدين وسط الأمية التي كانت متفشية. كما إن الكنيسة أوجدت نوعا من النظام الإداري لشؤون الناس من خلال شبكة من المطارنة. وحيث إن الريف كان بيد الإقطاعيين فقد سادت سلطة الكنيسة بشكل خاص في المدن. ودخلت أوربا في تلك الفترة في صراعات قبلية شغلتها عن الآخرين وسترت الآخرين بطشها.
إن ولادة الإسلام في شبه جزيرة العرب من منطقتنا في بداية العصور المظلمة في أوربا لا بد أن ينظر اليه من خلال الحقائق التي سادت على حدود منطقتنا. فهو للذين آمنوا به أمر إلهي لا بد منه. لكنه لا بد أن يكون ضرورة تأريخية بالنسبة للذين لم ولن يؤمنوا به. فالديانة اليهودية التي ظلت قروناً الدين السماوي الوحيد في منطقتنا بدأت تضعف منذ تحولت اللغة العبرية الى لغة طقوس دينية وغلبتها الآرامية لغة للناس. ثم أوشكت اليهودية أن تزول من منطقتنا دينا حين أنكر اليهود السيد المسيح (ص). فبعد أن أسلموه للجلاد الروماني انتشر الدين الجديد على حساب اليهودية ولا شك، فتنصرت بلاد الشام وما بين النهرين ووصلت الديانة الجديدة الى اليمن ومصر. وانحسر اليهود الى مجموعات صغيرة تتمركز في جحور محدودة.
لكن هذا الوضع هو كذلك لم يستمر طويلا. فقد وقع خلاف فقهي بين النصاري، وكل دين جديد ينتج عنه صراع وخلاف فكري. وحسمت روما، حين وضعت يدها على الدين وصية وسيدة، ذلك الخلاف بعقيدتها وفهمها لما أراده السيد المسيح (ص) وأنكرت ما خالف ذلك. ثم بدأ الشعور بالتململ من الوصاية التي فرضتها الدولية البيزنطية باسم الدين على أهل منطقتنا من أهل الدين وورثة السيد المسيح (ص) الحقيقيين.
لذا فإن الغزو الإسلامي لبلاد الشام والعراق ومصر لقي ترحاباً وقبولاً سريعين من أهل المنطقة العرب بسبب تأصل الجذر في الإنتماء بين الساكن والغازي خلافا للمحتل البيزنطي أو الفارسي. فلم ينحاز النصراني العربي في بلاد الشام للنصراني الروماني المحتل. فأسلم من العرب من أسلم طوعاً وأسلم من اسلم كرهاً أو رغماً. ويعد أن وصل الغزو الإسلامي للأندلس فإن حدود منطقتنا على شاطيء البحر الأبيض المتوسط الممتدة من نهاية الدولة البيزنطية حتى جبال أطلس اصبحت لأول مرة في تأريخها عربية حرة.
وحين استقر الوضع السياسي للعباسيين في العراق وللأمويين في الأندلس فإن الإستقرار والإزدهار دفع الناس للتوافد عليها. فقدم الأوربيون الى الأندلس وقدم المشرقيون الى العراق.
وحين ولدت بغداد فإنها سرعان ما تحولت الى بوطة انصهرت فيها طاقات أهل المنطقة مع طلاب العلم الذين جاؤوا بشكل خاص من مشرقها.
وحيث إن المعرفة هي تراكم فإن العالم الحقيقي هو من أخذ عمن سبقه وأضاف اليه. وهكذا كان الحال في قمة مجد العرب في المشرق والأندلس. وأخذت مساهمة العرب للتراث الإنساني شكلين هما ما كتبه أهلنا أولاً وما ترجموه ثانياً.
فكتب العرب وبرعوا في علم الفلك النظري والتطبيقي وكتبوا وبرعوا في الرياضيات والعلوم الفيزيائية كالجبر والمثلثات والبصريات وكتبوا وبرعوا في الطب والكيمياء والجغرافيا البشرية والفلاحة.
وليس هدف هذا المقال البحث في مساهمة العرب في التراث الإنساني حتى نحاول أن نعطيه حقه لكن لا بد من الإشارة لعدد من المتميزين في تلك المساهمة.
فالحسن بن الهيثم الذي يعد مؤسس علم البصريات نقض النظرية اليونانية حول البصر. وهو العالم الذي أسس نظرية البحث العلمي التي تقضي بأن أية فرضية علمية يجب أن تثبت بنتائج التجربة التي يجب تطابقها عند اعادتها.
أما الخوازمي فإنه جعل علم الجبر علماً مستقلاً وأدخل الصفر في العدد ووضع حلولاً لمعادلات جبرية لم تكن معروفة.
ونقض أبو البركات البغدادي نظرية أرسطو في الحركة مبيناً ان السرعة والتعجيل مختلفان وان القوة تتناسب مع التعجيل وليس مع السرعة.
وسبق ابن باجة اسحق نيوتن في تحديده أن لكل فعل رد فعل.
وحسب محمد بن سنان البتاني طول السنة الشمسية على انها 365 يوما وخمس ساعات وست وأربعون دقيقة وأربع وعشرون ثانية والتي تثبت أنها لا تختلف إلا بدقيقتين عن الرقم الصحيح. ووضع البتاني جداول لحساب حركة الشمس والقمر والكواكب والتي اعتمدها كوبرنيكوس لاحقا في اثبات نظريته.
ووضع جابر بن حيان قواعد في فهم تركيب المعادن ظلت سائدة حتى القرن الثامن عشر.
أما في الطب فقد شخص الرازي أمراض الجدري والحصبة وحدد أن الحمى هي دفاع الجسد. ثم طعن بنظرية جالينوس حول الحجامة. ووضع ابن سيناء كتاب القانون في الطب الذي ظل يدرس في جامعات اوربا حتى مرحلة متأخرة. وحدد ابن النفيس الدورة الدموية في الرئة.
هذا غيض من فيض لا يسمح الحال بأكثر منه.
لكن الذين يهمنها اكثر لهذا البحث، وللأسباب التي ستظهر لاحقاً، هو ما ترجمه العرب. بدأت الترجمة من اليونانية الى العربية على أيدي النصارى العرب النسطوريين بشكل خاص والذين كانوا يتقنون اليونانية بحكم العلاقة الدينية وكتابة الفقه باليونانية. وأسس الخليفة المأمون دار الحكمة لتقوم أكبر عملية ترجمة في تأريخ المنطقة. وأرسل الرسل لجمع الكتب اليونانية ونقلها الى بغداد. فبدأت الترجمة لكتب الطب والتقنية لكنها سرعان ما امتدت للفلسفة والمنطق.
ولم يتوقف الجهد عند الترجمة بل إن مساهمة العرب كانت في الهوامش والتعليق على الفكر الفلسفي اليوناني والتي مكنت المفكر العربي من تجاوز معارضة الفقهاء للكتابة في الفلسفة وذلك بالتعبير عن راي فلسفي عن طريق التعليق على الفكر الفلسفي اليوناني.
فاهتم الكندي بالتعليق على أرسطو وادعى ان من الممكن الجمع بين الإيمان بالقرآن وبين الفلسفة اليونانية للوصول للحقيقة. أما الرازي فقد اهتم بكتابات أفلاطون وتجرأ أن يجادل حول عقلانية القرآن والفكر اليوناني معاً.
وتبعهما الفارابي الذي عرض الأفلاطونية الجديدة لكنه لم يفعل ما فعله سابقوه في عرض أفكاره صراحة بل حاول أن يكشف عنها على لسان الفلاسفة الذين عرضهم.
ثم جاء ابن سينا ليجمع أفكار فلاسفة المنطقة ويعلق عليها. لكن مساهمة الفلاسفة مرت بفترة ضعف حين طعن عليهم الغزالي في (تهافت الفلاسفة) مدعيا ان المنطق ينفع في النظرية لكنه لا يعمل في الواقع. وقد اعتمد فقهاء المسيحيين في أوربا لاحقا عددا من افكار الغزالي للطعن بالفلسفة والإنتصار للفقه المسيحي. ثم جاء ابن رشد وهو أكثر من علق على كتابات أرسطو فرد على ما كتبه الغزالي في (تهافت التهافت).
وحين خرجت أوربا من العصور المظلمة فإن الأوربي وجد الفكر اليوناني عن طريق ما جمعته العرب وترجمته واضافت اليه. ولو لم يفعل العربي لك لما عرف الأوربي شيئا عن الفكر اليوناني الذي يدعي اليوم أنه اساس ثقافته ذلك لأن الأصل اليوناني ضاع بالكامل في أوربا فاعتمد الأوربي في عصر النهضة الأوربية على الترجمة العربية للأصل اليوناني.
ولو لم يفعل العربي سوى هذا لكان لزاماً على الأوربي أن يدين له بكل شيء.
هذا ما قدمه العربي للأوربي حين كان هذا الأخير يعيش في العصور المظلمة. ومن أراد أن يعرف كيف كان حال الأوربي في ذلك الوقت فما عليه إلا أن يقرأ رسالة بن فضلان للخليفة المقتدر بالله عن رحلته في أوربا التي بدأها من بغداد عام 921 م.