إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: وتشاء أنت من الأماني نجماً
ولا تقل: وتشاء أنت من الأماني نجمةً
كانت العرب تنطق بلسانها كما فطرت عليه دون أن يدرس أحد قواعد اللغة. وخلد العرب لسانهم في شعرهم. فالنفسية العربية كما يبدو لا يعجبها كثيراً الإسراف في القول، فالشعر الذي يعتمد الصور القصيرة في التعبير كان طريقها لذلك لم تنتعش كتابة القصة عندهم والنثر قليل. وحين انتشر الإسلام ودخلته أقوام غير عربية دخلت العجمة لسان العرب فسارع عدد من الحريصين على اللغة للبحث عن القواعد التي نظمت لسان العرب. وحيث إنهم كانوا يبحثون عن الأصول فإنهم اعتمدوا القرآن وشعر العرب قبل الإسلام مصادر لإستنباط قواعد اللغة. فلا هم أخذوا بالحديث المنسوب للنبي الأكرم (ص) ولا حتى بالشعر الذي قاله فحول الشعراء في العصر العباسي.
وهذا عزز موقع الشاعر عند العرب والذي كان كثير الأهمية عند العرب قبل الإسلام. ولم يغير مجيء الإسلام ولا موقفه غير المحبذ للشعر من التقليل من قيمة الشاعر. وقد انتقل مع تقويم الناس للشعر الظن بأن الشاعر لا بد أن يجيد اللغة العربية. وحبذا لو صدق هذا الظن. فحين فقدت الأمة جذورها وارتباطها باللغة، بعد قرون من الحكم الأجنبي للعرب والذي كان آخره الحكم العثماني المتخلف في كل شيء، فإنه لم يعد بامكان عامة الناس التمييز بين السليم والمعوج من اللسان. وكان من أسوء ما نتج عن ذاك أن أناساً أميين تصدوا لنظم الشعر فالحقوا باللغة ضرراً بليغاً لأن الآخرين نقلوا عن الشعراء. فحين يقرأ الناس لأحمد شوقي الذي وصفه كثيرون بأنه أمير الشعراء وهو يستعمل كلمة “نضوج” فلا بد أنهم سوف ينقلون ذلك عنه دون أن يدركوا أن العرب لم تعرف استعمال كلمة “نضوج” فالصحيح هو “نضج نضجاً” ولس نضوجاً. وقد لا يكون الخلط بين “نضوج” و “نضج” كارثة لكن هذا يفتح الباب أمام من هب ودب ليسطر في بحر من البحور لحناً كبيرا فيأخذ عنه الآخرون ذلك.
فقد وصلني بيت من النظم يقول فيه الناظم “ وتشاء أنت من الأماني نجمةً” يستعمل فيها لفظة “نجمة” التي تستعملها العامة تريد بها “نجماً”. ولو لم تستعمل العرب كلمة “نجمة” لوجدنا للناظم عذراً.
وكتب ابن منظور جامعاً في لسان العرب: ” والنَّجَمة شجرة تنبت ممتدة على وجه الأَرض…. وأَما النَّجْمةُ فهو شيءٌ ينبت في أُصول النخلة، وفي الصحاح: ضرْبٌ من النبت؛ وأَنشد للحرث بن ظالم المُرّيّ يهجو النعمان: أَخُصْيَيْ حِمارٍ ظَلَّ يَكْدِمُ نَجْمةً / أَتُؤْكَلُ جاراتي وجارُك سالمْ؟……. قال أَبو عمرو الشيباني: الثَّيِّل يقال له النَّجْم، الواحدة نَجْمة….. قال الله تعالى: والنَّجْمُ والشجرُ يَسْجُدانِ…. والنَّجْمُ من النباتِ: كلُّ ما نبتَ على وجه الأَرض ونَجَمَ على غيرِ ساقٍ وتسطَّح فلم يَنْهَض، والشجرُ كلُّ ما له ساقٌ.”
وكتب الفيروزأبادي في القاموس:” النَّجْمُ: الكَوكبُ”، ونقل عنه آخرون. لكن هذا ليس صحيحاً. فالنجم غير الكوكب. وقد ميز بينهما تعالى فقال في سورة يوسف: “إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين”، وقال في سورة النجم: “والنجم إذا هوى”. فالنجم ليس الكوكب والذي سجد ليوسف لم يكن نجماً وإنما كوكباً. وهذا الخطأ الذي وقع فيه أكثر من مرة رجال العربية سببه، كما كتبت سابقاً، تأثير الفقهاء أو أدعياء الفقه الذين لم يفهموا القرآن وحين تاهوا في فهمه استحدثوا شرحاً أوتفسيراً غَيَّر معاني الكلمات وأساء لها.
قل: قد ذَهَبَ القُرُّ
ولا تقل: قد ذَهَبَ القَرُّ
كتب الكسائي: “وتقول قد ذَهَبَ القُرُّ وأقبل الدّفءُ. قال الله عز وجل: “لكم فيها دِفءٌ”.
وأضاف المحقق: “وفي الإفهام: وتقول هذا ثوبٌ له دِفء بالهمز ومنه يقال أقم حتى يذهبَ القُرُّ ويقبل الدفءُ.”
وكتب بن فارس في مقاييس اللغة في باب (قر):” القاف والراء أصلانِ صحيحان، يدلُّ أحدهما على *برد، والآخر على تمكُّن. فالأوَّل القُرُّ، وهو البَرْد، ويومٌ قارٌّ وقَرٌّ. قال امرؤ القيس: إذا ركِبُوا الخيلَ واستلأَمُوا / تحَرَّقت الأرضُ واليومُ قَرّْ……… وليلة قَرَّةٌ وقارَّة… وقولهم: أقَرَّ اللهُ عينَه، زعم قومٌ أنَّه من هذا الباب، وأنّ للسُّرور دَمعةً باردة، وللغمِّ دمعةً حارّة، ولذلك يقال لمن يُدعَى عليه: أسخَنَ الله عينه. ومن الباب (القَرُّ): صَبُّ الماءِ في الشَّيء، يقال قَرَرتُ الماء. والقَرُّ: صبُّ الكلامِ في الأُذُن.”
قل: ابْدَأ بهِ أوّلُ
ولا تقل: ابْدَأْ بِه أوّلاً
كتب الصفدي: “ويقولون: ابْدَأْ بِه أوّلاً. والصواب أن يقال: ابْدَأ بهِ أوّلُ بالضم، كما قال معن بن أوس:
لعَمْرُك ما أدْري وإنّي لأوْجَلُ على أيِّنا تغْدو المَـنـيةُ أوّلُ
وإنما بُنِيَ هنا أوّلُ لأن الإضافة مُرادَة فيه، إذ تقدير الكلام: ابْدأ أوَّل الناسِ، فلما قُطِع عن الإضافة بُنِي كما بُنيتْ أسماء الغايات، التي هي قبل وبعد.”
وعلق أبو الثناء ألآلوسي في كتاب كشف الطرّة عن الغرَّة: “من أوهامهم قولهم: أبدأ به أولًا، والصواب أبدأ به أوّل بالضم، وحكمها حكم قبل وبعد في أحوالها الشهيرة، لكن إذا أعربت لا تصرف؛ لأنها على وزن أفعل وهي صفة، ولذا قالوا كان ذلك عامًا أول وما رأيته مذ أول من أمس، ولم يسمع صرفها إلَّا في قولهم ما تركت له أولًا ولا آخرًا، فأخرجوه عن حكم الصفة وجعلوه اسم جنس وأجروا الكلام بمعنى ما تركت له قديمًا ولا حديثًا.
اعلم أن لـ (أول) ثلاث استعمالات:
الأول: أن يكون صفة بمعنى أسبق فيكون أفعلَ تفضيل حكمه حكمه إلَّا أنه اختص بجواز حذف المضاف إليه وبنائه على الضم حملا له على قبل من أسماء الغايات؛ لأنه بمعناه، فيقال أبدأ بذا من أول، أي: أول الأشياء مثلًا، ويجوز فتحه بلا تنوين لمكان العلتين وجره كذلك على تقدير الإضافة إلى مقدر الثبوت.
الثاني: أن يشرب معنى الظرفية فينصب عليها كغيره من الصفات المشربة معناها كأسفل في قوله تعالى: “وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ”(الأنفال:42)؛ لأنه صفة لظرف أو في حكمه فيقال ما رأيته منذ عام أول أي عاماً قبل عامنا هذا.
الثالث: أن يكون مجردًا عن الوصف كسائر الأسماء الجامدة فينصرف وينون كأفكل اسم للرِعدة، فيقال ما له من أول ولا آخر، قال أبو حيان: وفي محفوظي أن مؤنث هذا أوله فإن سميت به امتنع صرفه كأول الذي هو اسم ليوم الأحد قديماً.
وقولهم أبدأ به أول بتقدير أول من كذا فحذف المفضل عليه وهو جائز، إلَّا أنه في (أول) الذي هو صفة لازم لكثرة استعمالهم إياه هذا محصل ما في كتاب سيبويه وشروحه ويعلم منه ما في قوله لكن إذا أعربت لا تصرف إلخ من الوهم؛ لأنها إذا أعربت تكون اسماً وصفة كما سمعت وإعرابها وتنوينها لا يختص بما ذكره من المثال بل هي حيث كانت اسماً أعربت كذلك وكذا وهم في قوله (أي الحريري) (ومن نفائس ألحان العامة إلحاق هاء التأنيث بأول، فيقولون (أولة) كناية عن الأولى، ولم يسمع إدخال الهاء على أفعل الصفة). قال المرزوقي في شرح الفصيح: كان ذلك عاماً أول لا ينون أول؛ لأنه لا ينصرف في المعرفة والنكرة لكونه أفعل صفة، ولذلك كان مؤنثه أولى، فأما إجازتهم الأولة فلأنهم يستعملونها كثيرًا مع الآخرة وهي فاعلة كقوله تعالى: “لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ”(القصص:70)، “فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى”(النازعات:25)، وقلت قوله تعالى: “وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ”(الأعراف:39)، وقوله:
أن سوف تلحق أولانا بأخرانا |
والحكم على أول بأنه أفعل قول البصريين وفاؤه وعينه واو وهو نادر مثل أوَّن الحمار، أي: أكل وشرب حتى امتلأ بطنه كالعدل، والهمزة من الأولى بدل لازم من الواو فيه لاجتماع واوين الأولى مضمومة وأصله وولى، وقال الدريدي أي ابن دريد وزن أول هو فوعل لا أفعل فقلبت الواو الأولى همزة وأدغمت واو فوعل في عين الفعل انتهى، وفي منتهى الأَدَب يقال أولى وأوَّلة، وفي الأساس جمل أول وناقة أوَّلة إذا تقدما الإبل. وقد سمعت عن أبي حيان آنفاً ما سمعت ومع هذا كله لا يلتفت إلى ما قاله وما علل به من أنه صفة لا تلحقه الهاء وهم منه أيضاً لأنه اسم جامد كأفكل، وهذا من الفوائد النفيسة.
قل: أنْ لا خَوْفٌ عليهم
ولا تقل: ألاّ خَوْفٌ عليهم
كتب الصفدي: “ومن ذلك أنهم إذا ألحقوا لا بأنْ حذفوا النون في كل موطن، وليس ذلك على عمومه، ولكن إذا وقعت أنْ بعد أفعال الرجاء والخوف والإرادة كتبتْ بإدغام النون، نحو: رجوت ألاّ تهجرَ، وخِفتُ ألا تفعلَ، وأردت ألاّ تخرجَ، وذلك لاختصاص أنْ المخففة في الأصل به ووقوعها عاملة فيه فوجب الإدغام، كما تدغم في إن الشرطية إذا دخلت عليها لا وثبوت حكم عملها على ما كانت عليه قبل دخولها، فتكتب: إلاّ تفعلْ كذا يكنْ كذا. وإنْ وقعتْ بعد أفعال العِلْم واليقين أظهرت النون، لأن أصلها في هذا الموطن المشددة وقد خففت كقوله تعالى: “أفَلا يرَوْنَ ألاّ يَرْجِعُ إليْهِمْ قوْلاً”، وذلك إن وقع بعد لا اسم، نحو: لا خَوْفَ عليك، فتقول: أنْ لا خَوْفَ. ووقوعها بعد أفعال الظّن والمَخْيَلَةِ يُجَوِّزُ إثباتَ النون وإدغامها لاحتمالها هنا أن تكون هي الخفيفة أو المخففة من الثقيلة، ولهذا قُرِئَ: “وحَسِبوا ألاّ تكون فِتْنَةٌ…” بالرفع والنصب: فمَنْ نصب بها أدغم النون في الكتابة، ومن رفع أظهرها.”
وعلق ابو الثناء الآلوسي فكتب: «ومن ذلك أنهم إذا لحقوا إلاَّ بلفظة أن» بفتح فسكون «حذفوا النون في كل موطن والصواب أن يعتبر مواقع إن، فإن وقعت بعد أفعال الرجاء والخوف والإرادة كتبت بإدغام النون» نحو رجوت ألاَّ تهجر وخفت ألاَّ تفعل وأردت ألاَّ تخرج وأدغمت في هذا الموطن لاختصاص أن المخففة في الأصل به ووقوعها عاملة فيه فاستوجبت إدغام النون بذلك «كما تدعم في إن الشرطية عند دخول لا عليها» وثبوت حكم عملها على ما كان علية قبل الدخول فتكتب ألاَ في نحو ألاَ تفعل يكن كذا بصورة ألاَ الاستثنائية «وان وقعت بعد أفعال العلم» واليقين «أظهرت النون» لأن أصلها في هذا الموطن أن المشددة، وقد خففت وجعل اسمها ضمير الشأن كما في قولة تعالي }أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا*{ [سورة طه:89 ] «وكذلك إن وقع بعد لا اسم» نحو علمت إن لا خوف عليك «وإن كان وقوعها بعد أفعال الظن جاز الأمران» الإدغام والإظهار «فيها» لاحتمال أن تكون الخفيفة في الأصل والمخففة من الثقيلة ولهذا قرئ }وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ*{ [سورة المائدة: الآية 71] بالرفع والنصب فمن نصب بها أدغم النون في الكتابة ومن رفع اظهر وهذا الفصل مما اختلف فيهِ علماء الرسم وحاصله أنهُ قيل نكتب أن دائما موصولة وقيل نكتب دائمًا مفصولة وقيل إن كانت عاملة وصلت وإلاَّ فصلت وقيل إن أدغمت بغنة وصلت وإلاَّ فصلت وصاحب الأصل اختار ما اختار.
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….