قدمت في الجزئين السابقين تصوراً موجزاً للتعريف بمن نحن ومن هو الأوربي. فبينت أن العرب في هذا الفهم هم مزيج الأقوام التي وجدت في منطقتنا التي تمتد من حدود فارس حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط وجنوباً حتى بحر العرب والتي طغت عليها الهوية العربية ليس عبثاً ولا من باب الهيمنة ولكن لكون الهوية العربية هي آخر الهويات الأصيلة في المنطقة والتي لم تغيرها الهجمات ولا الغزو ولا الإستعمار أياً كانت وتحت أي غطاء.
ثم عرفت الأوربي بأنه مفهوم سياسي ليس عنصرياً ولا جغرافياً ذلك ان هذا الأوربي قد يعيش في كاليفورنيا أو في تل أبيب أو في سدني على سبيل المثال، ويرتبط بالأوربي الآخر في الهدف والمفاهيم والسلوك.
وانتهيت في الجزء الثاني بالتذكير بأن فهم التأريخ حاجة أساس لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
واليوم أكتب عن من هم أعداؤنا.
ذلك لأن فهم التأريخ وتشخيص أعدائنا هو الأساس لمحاولة فهم إلى أين تسير هذه الأمة.
وأول حقيقة في هذا هي اننا لم نختر أعداءنا بل إن أعداءنا هم الذين اختارونا. فليس هناك شاهد تأريخي واحد على أن العربي يعادي الأوربي. فاذا نظرنا للقرن الماضي نجد انه برغم كل العدوان الأوربي المدمر على منطقتنا والذي مازالت آثاره واضحة للعيان، مازال العربي متعلقاً بالأوربي وينظر اليه بتودد ويتطلع لإرضائه. حتى ان عدداً من أصدقائي من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي لم يختاروا موسكو ملاذاً وملجأً حين شردوا بل جاؤوا الى لندن، عاصمة الصهيونية العالمية، والتي عملت أو شاركت لسبعين عاما على تفتيت حزبهم وقتلهم وتشريدهم. إن هذه هي إحدى الحقائق التي تقتضي التأمل: فما سبب تعلق العربي بصداقة الأوربي والتي يرفضها هذا الأخير ويعمل بنقيضها.
فلو استثنينا استيطان العرب للأندلس، وهي قضية تقتضي دراسة مستقلة، لوجدنا أنه لم يشكل العرب، في الألف سنة الماضية، خطراً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً على الأوربي مما قد يفسر سبب عداء هذا الأخير لهم.
وليس عداء الأوربي لنا مشابه لعدائه لغيرنا من شعوب الأرض. فالأوربي الذي احتل اليابان في الحرب العاليمة الثانية ونزع سلاحها لم يعاد اليابان بعدها بل قربها وشارك في اعادة بنائها، وهذا نقيض ما فعله قريباً في العراق. فحين أخرج جيشه من كويته حاصره حصار إبادة لا يمكن وصفه إلا بأنه حقد يفوق كثيراً حدود العداء. كما ان الأوربي الذي خرج من احتلال أفريقيا في نصف القرن الماضي لا يكن عداءً لأفريقيا. قد يتعامل بازدراء مع الأفريقي لكنه لا يعاديه كما يفعل معنا.
وقد يقول قائل إن عداء الأوربي لنا هو بسبب الإسلام. لكن هذا ليس قولاً سليماً من حيث إنه، برغم حقيقة أن الأوربي يرفض أية عقيدة تناقض قواعد مشروعه، ليس جواباً كافياً لوحده لتفسير العداء لنا. ذلك أن هذا الأوربي يحافظ منذ الحرب العالمية الثانية على أفضل علاقة مع دولتين من أكبر الدول الإسلامية هما باكستان وتركيا. وشعبا هذين البلدين لا يمتلكان حتى هوية قومية بل إن الهوية للإثنين هي الإسلام. فاذا قال قائل بان هذه سياسة مخادعة للإبقاء على تحالف هاتين الدولة مع الأوربي فلا بد أن يجاب على ذلك: لماذا لم يجرب الأوربي إذن هذه السياسة المخادعة معنا قبل أن يقرر معاداتنا؟
وقد يقول قائل بان سبب عداء الأوربي لنا هو النفط. ولا يمكن نكران دور النفط في المواقف السياسية لكنه ليس فيصلاً في الأمر. فالصين التي لا تمتلك نفطاً وتحتاجه بشكل لا يقل عن حاجة الأوربي له لا تكن لنا هذا العداء التأريخي المتاصل. والأهم من ذلك في الرد على هذا القول هو ان الأوربي عادانا وغزانا (كما سابين لاحقا) حتى قبل أن يكون هناك مؤشر لخزين النفط في منطقتنا. وهو سيظل معادياً لنا في القرن الحادي والعشرين برغم اضمحلال دور النفط حين ستزيحه مصادر الطاقة البديلة من هايدروجين وشمس وريح.
وهنا لا بد أن يسأل السائل: ترى ما هو إذن سبب عداء الأوربي لنا؟
والجواب على هذا السؤال يعيدنا لما انتهيت اليه في الجزء الثاني من ضرورة فهم التاريخ. وأختار نقطة البداية، للأسباب التي ستبدو واضحة بعد التسلسل في العرض، في ظهور السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. كانت الإمبراطورية الرومانية تحتل ساحل الأبيض المتوسط وتمتد هيمنتها لسائر أرجاء المنطقة، وذلك قبل أن تعتنق هي نفسها الديانة رسمياً. وحيث إن الشاهد التأريخي الذي بين يدينا لتلك الفترة هو الأناجيل الأربعة فإننا لا بد أن نبحث عن اللغة التي كتبت بها.
فقد كانت اللغة اليونانية، والتي سبق أن بينا أنها أخذت أبجديتها من أهلنا الكنعانيين، قد انتشرت في شمال مصر منذ وصول الإسكندر لها. ثم امتد استعمال اللغة اليونانية الى بلاد الشام بعد أن احتلها الرومان. لكن لغة أهل الشام والتي تكلم بها السيد المسيح كانت الآرامية. أما اللغة العبرية فكانت لغة الكنيس والطقوس الدينية فقط. وحيث إن يهود بلاد الشام لم يؤمنوا بالسيد المسيح على انه المخلص المنتظر فإنه لم يكن من المتوقع أن تكتب الأناجيل باللغة العبرية. لذا فإن الأناجيل لا بد أنها كتبت إما بالآرامية أو باليونانية. وهناك رأيان في هذا يقول الأول إنها كتبت اصلا باليونانية وترجمت لاحقاً للآرامية وغيرها من اللغات ويقول الثاني إنها كتبت بالآرامية ثم نقلت لليونانية. وأميل لقبول الرأي الثاني حيث اعتقد أن العقل يقضي بأن أهل فلسطين الذين اتبعوا السيد المسيح (ص) كتبوا بلسانهم الذي كانوا يتعاملون به وباللغة التي خاطبهم بها السيد المسيح (ص). وما يؤيد ذلك هو الجملة التي يقال إن السيد المسيح قالها وهو على الصليب (ايلي ايلي لما شبقتني) قد جاءت بالآرامية بمعنى أن هذه هي اللغة التي كان يستخدمها السيد المسيح وأهل بلاد الشام. إن هذا الخلاف حول اللغة التي كتبت بها الأناجيل ليس مهماً لهذا المقال لكن له علاقة بدور اللغة اليونانية في الدور الذي لعبته لاحقاً بين تطور الفكر في منطقتنا ودورها الرئيس في نقل الفكر اليوناني الى أوربا بعد عصر النهضة الأوربية.
إلا ان المهم هنا هو ان هذا الترابط بين اليونانية والآرامية الذي أظهرته الأناجيل له قيمة كبيرة. فبرغم اني لست أعرف سبب عدم وصول الديانة اليهودية لليونانيين بشكل واسع إذ انه كانت هناك أقليه صغيرة من اليهود في اليونان، وقد يكون هناك من كتب في هذا وأعطى أسبابه لكني أجهله، إلا أني لا بد أن أجد في وصول الديانة النصرانية/المسيحية لليونان أهمية كبيرة في الترابط التأريخي بين تراث منطقتنا واليونان مما سيكون له دور كبير في فهم موقف الأوربي المعادي لنا.
فليس من باب الصدفة أن يسارع اليونانيون أو الناطقون باللغة اليونانية من سكان حوض البحر الأبيض المتوسط لقبول الدين الجديد والتفقه فيه ونشره. إنما هو تأكيد للجذر المشترك للفكر اليوناني وفكر منطقتنا حيث إن هذا الإمتداد هو الذي جعل من السهل قبول فكر السيد المسيح في اطار التطور الفكري للمنطقة والتي كانت اليونان تشكل طرفها المطل على القارة الأوربية. فلو لم يكن هناك ترابط فكري لما سارع اليونانيون لقبول الدين الجديد بل كانوا سيجدون الغريب مرفوضاً والحفاظ على فكرهم القديم أولى وأجدر.
فما الذي حدث بعد أن تنصرت روما؟ وكيف اتخذ الأوربي موقف العداء الأول لنا؟