كتب لي الأخ العزيز والصديق الوفي أن أعطيه رأياً في ما وصله من مقال قصير تحت عنوان “هندسة اللغة الربانية” والذي يبدو أن كاتبه أراد أن يبين أن كلمة الأعراب التي جاءت في القرآن لا يراد منها سكان البادية من العرب وإنما (مجموعة تتصف بصفة النقص في الدين والعقيدة) فوعدته أن أوافيه بتعليق وها هو الأصل والتعليق.
الأصل:
هندسة اللغة الربانية ماذا تعني كلمة عرب .. ؟!
ذكر أن كلمة ( عربي ) تعني التمام والكمال والخلو من النقص والعيب .. وليست لها علاقة بالعرب كقومية . فعبارة ( قرآناً عربياً ) تعني
قرآناً تاماً خالياً من النقص والعيب .
و تفسير كلمة ( عرباً ) – بضم العين و الراء وفتح الباء – والتي وردت كصفة للحور العين في قوله تعالى:
( فجعلناهن ابكاراً، عرباً اتراباً لاصحاب اليمين )
فوصفت الحور بالتمام والخلو من العيب والنقص .
أما ( الأعراب ) الذين ورد ذكرهم في القرآن على سبيل الذم ليسوا هم سكان البادية لأن القرآن أرفع وأسمى من أن يذم الناس من منطلق عرقي أو عنصري، ولو كان المقصود بالأعراب سكان البادية لوصفهم الله تعالى بالبدو كما جاء على لسان يوسف:
( وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي )
إذن من هم الأعراب ؟
إن ألف التعدي الزائدة في كلمة الأعراب قد نقلت المعنى الى النقيض كما في ( قسط وأقسط)
قسط : ظلم
اقسط : عدل
عرب : تم وخلا من العيب
أعرب : نقص وشمله العيب
فالأعراب مجموعة تتصف بصفة النقص في الدين والعقيدة
( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم )
فإن اللغة العربية التي هي لغة القرآن ليست لغة بشرية أصلاً بل هي لغة السماء التي علم الله بها آدم الأسماء كلها ثم هبط بها الأرض وكانت هي لغة التواصل بين البشر ..
هذه هندسه اللغة الربانية ..
التعليق على هندسة اللغة الربانية
ليس لدي اعتراض على تسمية العربية باللغة الربانية حيث لدي أكثر من سند لذلك. لكني أجد من باب الحرص على اللغة التعليق على ما جاء في النص الأصلي والذي أجهل من أنشأه.
وأول ملاحظة لي تأتي في الرد على الجملة الأولي التي قال فيها الكاتب: (…وليس لها علاقة بالعرب كقومية). ولم أفهم هذه الجملة التي لم يشرح الكاتب كيف توصل لها أو بالأحرى ما الذي أراد بها. إنها مقولة سياسية لا علاقة لها بالحديث عن اللغة العربية. ذلك أنه تعالى شاء ان يخص العرب بهذه اللغة الربانية فيشرفهم بها. أما كلمة (قومية) والتي يبدو انها لا تروق للكاتب فهي مشتقة من كلمة (قوم) وهي كلمة عربية اصيلة والذين ينتمون للغة العرب هم قوم سموا (عربا) فأين الخلل في أن تكون اللغة العربية قومية من حيث كونها متعلق بهؤلاء القوم الذين شرفهم الله بها؟ أما إذا كان الكاتب ممن يحملون نزعة دينية تميل لجعل اللغة معزولة عن قومها فكان الأجدر به ألا يدخل هذا هنا وأن يجعله في حديث مستقل لنا ان نرد عليه حين يأتي به!
ثم يدخل الكاتب في حديث يخلط فيه بين الكلمات كما يشاء ويضع لها من المعاني ما لم تعرفها العرب كي يصل للهدف السياسي عن طريق لغوي.
وسوف أعلق بايجاز على ما جاء في المقال القصير.
1. فبدأ قوله: (ذكر أن كلمة ( عربي ) تعني التمام والكمال والخلو من النقص والعيب)، لكنه لم يقل لنا من ذكر هذا وأين جاء وما مصدره. فليس في أي من معاجم اللغة العربية من قال هذا وإذا اغفلت المعاجم هذا، وليس ذلك مستحيلاً، فلا بد للكاتب أن يأتي على ذلك بشاهد من شعر العرب يبين فيه صحة ما ادعاه، أما أن يطلق تعريفاً لم يسمع به أحد وينسبه لمجهول فليس مقبولاً.
2. أما قوله إن (قرأنا عربيا) تعني خاليا من العيب والنقص فهو قول مطعون عليه من طريقين. أولهما هو أنه إذا صح قوله فإن هذا يعني ان القرآن لو لم يكن عربياً لكان ناقصاً وهذا لا يمكن لأن كتاب الله بأية لغة جاء لايمكن أن يكون ناقصاً. وثانيهما هو انه تعالى أراد بالقرآن العربي الكتاب الذي جاء للعرب بلسانهم مصداقاً لقوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ” (إبراهيم/4). وقد ثبت تعالى ذلك في قوله: “وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ”(فصلت/44). وهذه الآية تعني أنه تعالى يمكن أن يرسل قرآنا أعجميا وإنه لم يفعل ذلك للعرب إذ لو فعل ذلك لأعترض العرب أنهم لا يفهمون كتاباً بلسان أعجمي غير لسانهم. وهذا يقتضي أن عربية القرآن هي كونها لسان القوم وليس الخلو من النقص.
3. ينتقل بعدها ليعطينا تفسيراً لقوله تعالى: “عُرُباً أترابا” فيقول إن كلمة (عُرُب) هي تصديق لقوله إنها خالية من النقص والعيب. ولا أدري من أين جاء بهذا الشرح سوى أنها محاولة لتعريف كل كلمة مشتقة من الجذر الثلاثي (عرب) عن طريق ما وضعه في المقدمة من أنها تعني الخلو من النقص. ومن يبحث في ما جاءت به العرب من معنى لكلمة (عُرُب) يجد أن معاجم العربية اتفقت على أنها جمع لكلمة (عَروب) وهذه تعني (المتحببة الى زوجها) كما كتب الجوهري في الصحاح أو هي (الطيبة النفس) كما كتب ابن فارس في مقاييس اللغة. ولم يذكر أحد من أهل اللغة أن كلمة (عروب) تعني الخالية من النقص.
4. ثم يصل الكاتب للهدف مما كتبه وذلك في محاولة غير موفقة لإيجاد تعريف جديد لكلمة (أعراب) معتمدا في ذلك على المقدمة المغلوطة التي ابتدأ بها. وقبل أن أعلق على ما جاء به الكاتب لا بد لي من التذكير بحقيقة مفادها ان القرآن هو الكتاب الذي خاطب فيه تعالى العرب وهذا يعني بالضرورة ان المفردات التي استعملها تعالى لم تكن وليدة القرآن وانما كانت كما عرفها العرب قبل وحي القرآن. وقد اتفقت العرب على التعريف الذي لخصه الجوهري في الصحاح وهو:
“العرب: جيل من الناس، والنسبة إليهم عَرَبيّ بيِّن العروبة، وهم أهل الأمصار. والأعراب منهم سُكّانُ البادية خاصَّة.”
وهكذا أجمعت العرب على أن سكان المدن سموا (عرباً) وسكان البادية سموا (أعراباً).
5. أما قول الكاتب بأنه تعالى (أرفع وأسمى من أن يذم الناس من منطلق عرقي أو عنصري) فليس لديه سند قرآني. كما ان الكاتب نفسه لا ينفي وقوع الذم في القرآن لكن يخلص الى انه لا يمكن أن يقع من منطلق عرقي أو عنصري. لكنه لم يقل لنا لماذا اجاز وقوع الذم في قوم لا يعلمون ولم يجز وقوعه في قوم من عنصر واحد؟ إن القرآن يناقض ما استنتجه الكاتب. فقد ذم تعالى أكثر من قوم ولعنهم في أكثر من موضع في القرآن وهي موجودة لمن أراد أن يبحث وآتيك بواحدة منها في قوله تعالى في قوم صالح (ص) والذين لم يكتف تعالى بذمهم بل أعلمنا أنه قتلهم شر قتلة: “وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” (فصلت/17). ولعل أوسع لعنة في القرآن هي لعنته تعالى لليهود دون استثناء في قوله عز من قائل: “وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.”(المائدة/64).
6. وحين أراد الكاتب أن يسند مقدمته فانه استشهد بقول يوسف لأبيه “وجاء بكم من البدو…” فادعى انه لو أراد الله تعالى بالأعراب سكان البادية لوصفهم بالبدو كما قال يوسف لأبيه. ويبدو أنه قد فات على الكاتب أن البداوة ليست مختصة بقسم من العرب فاينما وجدت البادية كان هناك بدو. وهذا يعني أن ليس كل بدوي أعرابي لكن كل أعرابي بدوي. فالبدو الذين جاء منهم أهل بوسف لم يكونوا من العرب حتى يسموا أعراباً.
7. ثم ينقلنا الكاتب لإستنتاج آخر لا يقل غرابة عما سبق. ذلك إنه يقول إن دخول الألف على الفعل الثلاثي (عرب) يقلب المعنى لنقيضه فيصبح معنى (أعرب) نقصَ وشمله العيب قياسا على كون الرباعي (أقسط) نقيض الثلاثي (قسط). لكن ليس في العربية قاعدة تقول بأن دخول الألف على الفعل الثلاثي يجعل الفعل الرباعي نقيضه. فأكرم ليس نقيض (كرم)، و(أحسن) ليس نقيض (حسن). لذا فليس هناك ما يدفع للإستنتاج بأن (أعرب) هو نقيض (عرب) حتي يستنتج الكاتب بأن معنى (أعرب) يصبح (نقصَ وشمله العيب). فليس هناك من شاهد على أن من معاني (أعرب) التي عرفتها العرب هذا الذي جاء به الكاتب. فليس في القرآن (اعرب) ولم يأت الكاتب على شاهد شعري. أما معاجم العربية فهي تخبرنا بما يلي:
فقد جمع إبن منظور ما نقل عن العرب في استعمال (أعرب) فكتب في لسان العرب: “وقيل : إن أعرب بمعنى عرب …… يقال: أعرب عنه لسانه وعرب أي أبان وأفصح ……. وأعرب عن الرجل: بين عنه ….. وأعرب الكلام، وأعرب به: بينه؛ أنشد أبو زياد: وإني لأكني عن قذور بغيرها / وأعرب أحياناً بها فأصارح ……. وأعرب بحجته أي أفصح بها ولم يتقِّ أحداً؛ قال الكميت: وجدنا لكم ، في آل حمِ آية / تأولها منا تقيٌّ معربُ……. وأورد الأزهري هذا البيت « تقي ومعرب» وقال : تقي يتوقى إظهاره حذر أن يناله مكروه من أعدائكم؛ ومعرب أي مفصح بالحقِّ لا يتوقاهم …… وأعرب الرجل أي ولد له ولد عربي اللون …. وأعرب الرجل: تكلم بالفحش”.
ولم أجد في أي من معاجم العربية الأخرى استعمالا لـ (أعرب) غير هذه التي جمعها ابن منظور. ويبدو أن العرب لم تعرف قط مجيء (أعرب) بمعنى (نقص وشمله العيب)!
8. ولو ان الكاتب تعقب ما جاء في الكتاب الكريم في الأعراب لأدرك خطل مقدمته ونتيجتها. يقول تعالى: “الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” (التوبة/97). فلو كان تعالى يريد بالأعراب، كما يقول الكاتب، (مجموعة تتصف بصفة النقص في الدين والعقيدة)، فكيف كان للرسول (ص) أن يعرف من هم الذين أوصاه تعالى ألا يعلمهم حدود ما أنزل الله؟ فهل يريد الكاتب أنه تعالى يوجه نبيه ليبحث عن مجهولين يتحقق أولاً من سلامتهم وخلوهم من النقص قبل أن يقرر من منهم يستحق العلم ومن لا يستحقه؟ ألا يقضي العقل أن خطابه تعالى لنبينا الأكرم (ص) كان واضحاً وصريحاً في اشارة لقوم لم يختلف أحد على تحديد هويتهم حين جاء وحي التصريح؟
9. ويقول تعالى في موضع آخر من سورة التوبة: “وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ” (التوية/101). فهل يريد الكاتب أن الأعراب هنا هم مجموعة تتصف بنقص في العقيدة؟ ولماذا يكون هؤلاء قد اجتمعوا وسكنوا حول المدينة؟ اليست هذه آية واضحة على أن المقصود هم البدو من سكان البادية الذين كانوا يحيطون بالمدينة؟
10. لقد جاءت كلمة الأعراب عشر مرات في القرآن، ست مرات منها في سورة التوبة وأربع في بقية القرآن. ومن قرأ القرآن أدرك دون عناء أن سورة التوبة هي سورة براءة فيها من الوعيد أكثر مما فيها من الوعد. وذكر الأعراب فيها بالوعيد تكراراً لا يغيب عن فهم الباحث عن الحقيقة.
11. يبدو أن الكاتب نسي في غمرة جهده لتشويه اللغة الربانية كيف تشتق العرب اسم الفاعل من الفعل الرباعي. فلو اننا افترضنا أن الفعل الرباعي (أعرب) يعني فيما يعنيه (نقص وشمله العيب)، فإن اسم الفاعل من الفعل (أعرب) هو (مُعرِب) وليس (أعرابي) كما استنتج الكاتب ويكون الجمع (معربين) وليس (أعراباً)!
إن من المؤسف أن يسعى احد في استثارة حب الناس للغة الربانية في التضليل والتشويه لها من أجل استنتاج خرافي عن معنى جديد لكلمة (الأعراب). وكان الأجدر به أن يكتب مقالا سياسيا يبين لنا علة ما يريده لا أن يستغل عدم مقدرة الأغلبية على تتبع لغة العرب.