إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: بنت الدولة دار سلاح كبيرة
ولا تقل: بنت الدولة ترسانة كبيرة
شاع بين العرب المعاصرين استعمال كلمة “ترسانة” لتعني مجمع الذخائر الحربية. وقد سألني أمس صديقي الشاعر عن أصل هذه الكلمة في العربية فوجدت من الفائدة أن أشرككم بإجابتي.
حين كان العرب أمة تحترم نفسها ويحترمها الآخرون فقد بنوا دولة. وحيث إن الدولة التي تصون كرامتها تعتمد على نفسها في بناء قوتها وحماية نفسها لا أن تستجدي الدفاع عن نفسها بالغرباء فتعطيهم أرضها ليقيموا عليها قواعد عسكرية مدعين الدفاع عن البلد الذي يحتلونه، فقد أنشأ العرب مصانع لبناء السفن وسموا ذلك المصنع (دار الصناعة). وحين أخذ الرومان عن العرب المتحضرين كثيرا من المصطلحات كما فعلوا في الطب والفلك بشكل خاص فإنهم اخذوا عبارة (دار الصناعة) وأطلقوها على مصانع السفن. فأصبحت الكلمة في اللغة الإيطالية (arzanale) ثم دخلت الفرنسية والإنكليزية (arsenal). واستعارها العثمانيون فنطقوا بها (ترسانة). وحين خرج العرب من ظلمة الحكم العثماني، الذي فرض عليهم سياسة التتريك فأضاع لغتهم، لم يجدوا غير كلمة (ترسانة) التركية فاستعملوها.
كم هو حري بنا أن نستعيد لغتنا فنعيد كلمة (ترسانة) أو كلمة (أرسنل) الى أصلها العربي في (دار الصناعة). فاذا اردنا أن نشير لدار الذخائر الحربية نقول (دار السلاح) أو (دار الذخائر).
فقل دار السلاح أو دار الذخائر
ولا تقل ترسانة.
قل: هذه أتانٌ
ولا تقل: هذه أتانَةٌ
كتب الكسائي: “وتقول: هذه أتانٌ للأنثى من الحمير بغير هاء. فاذا كانت ثلاثاً قلت: ثلاث آتن بمد الألف. فاذا زادت قلت هي الأُتُنُ مثل الصُّحُفُ والرَّسُلُ. قال الشاعر:
فَأَشْهَدُ أنَّ رِحْمَكَ من زِيادٍ كَرِحْمِ الفيِلِ من وَلَدِ الأتَانِ
والأتان أيضاً الصخرة الراسية في جوف الماء والأودية. قال الشاعر (وهو علقمة بن عَبَدة):
هَلْ تُلْحِقَنِّي بأخرى الحيِّ إذ شَحَطُوا جُلْذِيّةً كَأتانِ الضّْحْلِ عُلْكُومُ
شَحَطوا: بعدوا. وجَلْذِية: ناقة شديدة قوية، وكذلك العلكوم. شبهها من قوتها بالصخرة. والضحل: الماء القليل.”
قل: عندي ثلاثة أجْدٍ
ولا تقل: عندي ثلاثة جِداء
كتب الكسائي: “ويقال عندي جَدْيٌ سمينٌ بفتح الجيم فاذا جمعت قلت: ثلاثة أجْدٍ. وكذلك: لَحْيٌ وثلاثة ألْحٍ. وجَرْوٌ وثلاثة أجْرٍ. والكثير: الجِراءُ والجِداء.”انتهى
وكتب الجوهري في الصحاح: “اللحْيُ: منبِت اللِحْيَةِ من الإنسان وغيره؛ والنسبة إليه لَحَوِيٌّ. وهما لَحْيانِ وثلاثة أَلْحٍ، والكثير لُحِيٌّ.”
قل: اشترينا فراءً كثيرا
ولا تقل: اشترينا أفرية كثيرة
كتب الصفدي: “ويقولون لجماعة الفَرْو: أفْريَة، وذلك خطأ، لأنّ أفْعِلَة لا يأتي جمعاً لفَعْل ولا لأمثاله من الثلاثي. والصواب: أفْرٍ وفِراء، مثل دَلْوٍ وأدْلٍ ودِلاء، وجَدْيٍ وأجْدٍ وجِداء.”
قل: ما ألوْتُ جَهْداً في حاجتك
ولا تقل: ما آليْتُ جَهْداً في حاجتك
كتب الصفدي: “يقولون: ما آليْتُ جَهْداً في حاجتك. ومعنى ما آليْتُ: ما حلَفْتُ، وتصحيح الكلام أن يقال: ما ألَوْتُ، أي ما قصّرتُ.”
وكتب أبو الثناء الآلوسي: “ومن أوهامهم استعمال (آليت) بمد الهمزة مكان (ألوت) بالقصر كدعوت في قولهم (ما آليت جهدًا) وما آليت في حاجتك. يعنون ما قصرت مع أن الصواب فيه ما ألوت لأن العرب تقول (ألا) بالقصر الرجل (يألو) إذا قصر و(آلى) بالمد (يؤلي) إذا حلف وقد كثر في كلام المصنفين (لم آل جهدا) فالمضارع (آلا)، جهدًا بضم الجيم بمعنى الاجتهاد منصوب معهُ تمييزًا، وهو عن لما في الأساس (ما ألوت عن الجهد) أو (في) لقولهم قصرت في كذا أو يكون (الألو) بمعنى الترك مجازًا أو تضمينًا فينصب ما بعده مفعولًا واحدًا لهُ وقد قالوا أنهُ جاء متعديًا لمفعولين كما في قوله:
فديت بنفسهِ نفسي ومالي | وما آلوك إلَّا ما أطيق |
وعليه أحد مفعوليه محذوف وأصله لم الك جهدًا أي لم أمنعه. وهذا أيضًا أما مجاز أو تضمين ويحتمل الحقيقة. وفي شرح المقامات للمطرزي يقال ألا في الأمر يألوا آلوًا واُلُوًا واليًا إذا قصر فيه ثم استعمل مُعَدَّى إلى مفعولين في قولهم لا ألوك نصحًا ولا ألوك جهدًا بمعنى لا أمنعك نصحًا ولا أنقصكه. انتهى.
فله مصادر (أَلْو) بزنة ضَرْب و(أُلُو) كقعود فلا وجه لما قيل من أن الظاهر أن مصدر ألا بمعنى قصر (الألو) بضم الهمزة وتشديد الواو على وزن (فعول)؛ لأنهُ الغالب في مصدر فعل اللازم. وبعضهم يقتصر في مصدره على (إليٍ) كضرب. ومصدر اللازم قد يجيء على فعل. وقد قال الفراء أن مصدر ما لم يسمع مصدره عند أهل الحجاز على فعل كضرب متعديًا كان أو لازمًا. وأجاز بعضهم أن يقال ما أليت بتشديد اللام واستشهد عليه بقول زهير بن حباب، وقيل الربيع بن منيع الغزاري:
وإن كنائني لمكرَّمات | وما آلى بَنِيَّ ولا أساءوا |
فإنهُ أراد ما قصر أبنائي فبني جمع ابن مضاف إلى ياء المتكلم وأصلهُ بنوي. والكنائن: قال الشهاب جمع كنانة بمعنى العشيرة مستعار من كنانة السهم. وقال بعضهم أريد به هنا ما هو جمع كنة بفتح الكاف، وأريد بها امرأة الابن. وقد شاع إطلاقها عليها كامرأة الأخ. ثم عن لفظة ألوت لا تستعمل في الواجب البتة. وإنما تستعمل دائمًا في النفي (كأحد)؛ أي: الذي ليس بمعنى واحد وقط. (وديَّار وصافر) بالصاد المهملة والفاء بمعنى مصوت. يقال: (ما في الدار صافر)؛ أي: أحد. و(بد) نحو لا بد. و(جرم) نحو لا جرم. والكلام عليها مفصل في النحو. وكذلك الرجاء المستعمل بمعنى الخوف كما في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي لا تخافون. وقول أبي ذويب الهذلي من قصيدة:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها | وحالفها في بيت نوب عواسل |
وفي رواية الدبر بدل النحل وهو بمعناه وجمعه دبور كما قال المرزوقي وحالفها بالحاء المهملة والفاء. قال الأصمعي أي صار حليفها في بيتها وهي نوب لا في بيت غيرها. ورواه أبو عمرو خالفها بخاء معجمة. وفسره ابن دريد بقوله جاء إلى عسلها من ورائها لما سرحت في المراعي والنوب النحل ولا واحد لها. وقال ابن الأعرابي واحدة نوبي سموها بذلك لسوادها. وقال الأصمعي جمع نائب. كما يقال عائذ وعوذ يريد أنها تختلف وتجئ وتذهب فتنتاب المرعى ثم تعود، وعواسل أي تعمل العسل وروي نوب بفتح النون على أنهُ مصدر نابه أو جمع أيضًا كالسفر والتجر وضمير لسعته وما بعده للمشتار، وما ذكر من أن الرجاء، بمعنى الخوف، يختص بالنفي قول الفراء، وخالفه فيه غيره مستدلًا بقوله تعالى: {وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:36]. وفيهِ أنهُ يحتمل أن يكون المراد افعلوا ما ترجون حسن عاقبته فأقيم السبب مقام المسبب. وقد قالوا في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110] أنهُ محتمل للوجهين؛ أي: يؤمل أو يخاف. وقال ابن القواس في شرح الألفية أنهُ مجاز في الخوف حقيقة في الأمل. وفسر الأمل بطلب الحصول مع خوف الفوت فإذا أريد بهِ الخوف وحده كان إطلاقًا لهُ على جزء معناه. وليس حقيقة فيهما لأن الأصل عدم الاشتراك، والمجاز أولى منهُ وقد قبل أنهُ صحيح أن ساعده النقل، وأما الرجاء بمعنى الأمل. فلا خلاص في استعماله في النفي والإثبات. ومما لا يستعمل أيضًا إلا في الجحد (زال) التي مضارعها (يزال) لا (زال) التي مضارعها (يزول). وأخواتها المشهورة المذكورة في باب كان. وكذا (رام) بالراء المهملة بمعنى (برح) في الأحوال. وعليه قول الأعشى من قصيدة لهُ:
أيا أبتا لا ترم عندنا | فأنا بخير إذا لم ترم |
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….