مقدمة
حتى لا يقولن أحد إني متحامل على المرجعية وأريد أن اطالبها أن لا تفعل ما يفعله الآخرون، فإني أود أن أوضح أن لي رأياً مبدئياً لم يتغير منذ خمسين سنة وهو: ان كل حليف للولايات المتحدة أو بريطانيا هو بالضرورة حليف للصهيونية سواء أكان ذلك ظاهراً أم باطناً. وهذا الراي ينطبق على كل دولة أو نظام سياسي أو حزب دون تمييز.
وهو ليس وليد موقف عاطفي نتج عن استيطان فلسطين من قبل الأوربيين وكارثة التهجير القسري للشعب الفلسطيني، إنما هو عندي فهم للتأريخ وفهم لعقدة النقص في الفكر الأوربي. وقد كتب العشرات وسُودت آلاف الصفحات عن الفهم المبسط لطمع الغرب في أرضنا في أنه بسبب النفط. وليس من شك في أن النفط كان وما زال مصدر الطاقة الأول في العالم لكنه ليس العامل الرئيس في تكالب الغرب علينا ويؤيد ذلك أمران أولهما ان استعمال العرب للنفط كسلاح أثبت عدم جدواه لأن الأعراب لا يستطيعون العيش من دونه بل هو كل ما لديهم. لكن الأمر الأهم من ذلك هو أن الأوربيين جاؤا أرضنا غزاة واستوطنوها في القرن الحادي عشر دون أن يكون هناك نفط أو غاز وادعوا يومها أنهم جاؤوا لحماية مهد السيد المسيح ولم يكتب لنا أحد منهم شرحا لعلاقة ابن (يوركشاير) أو إبن (روما) بمهد المسيح وهو، أي السيد المسيح (ص)، كان ومازال وسيبقى ابننا الآرامي العبري العربي.
إن الأوربي يعاني من عقدة نقص قد تكون مدركة عند عدد منهم وغير مدركة عند الأغلبية. ومنشؤها هو أن الغرب الذي أنتج اسرع مدنية في التطور من الثورة الصناعية حتى ثورة تقنية المعلومات مازال يبحث عن جذره الحضاري. وهو في هذا يشعر بالنقص في أن دينه وفلسفته تنبع مما يسميه هو “الفكر اليهودي المسيحي” Judeo-Christian Culture. وهذا الفكر الذي يدعيه يقوم على اساس أن دينه اليهودي المسيحي خرج من أرضنا وأن فلسفته اليونانية خرجت من أرضنا لأن فلسفة اليونان هي امتداد فكر ما بين النهرين العراقي. وقد خرجت حتى أبجديته من عندنا. وهكذا تصدمه الحقيقة المرة، فدينه وفكره جاء من أرضنا! فكيف يتعامل مع هذا إلا باحتلال هذه الأرض واخضاعها كي يستطيع أن يدعي أنه هو الوريث الوحيد لهذا الفكر الحضاري الذي يمتد في جذوره لمولد التأريخ المدون. إن عدم قيامه بذلك يعني بالضرورة أنه يرضي بأن الإسلام هو الوريث السليم لذلك الفكر. ولو فعل ذلك لأعترف أنه مدين لنا بفكره وذلك برغم مدنيته المادية المتفوقة. وهذه عقدة النقص التي حركت استيطان الصليبيين قبل ألف عام وحركت عودة الغرب بعد الثورة الصناعية لإعادة الكرة. ومن لا يفهم هذه الحقيقة لن يستطيع أن يفهم ما حدث ويحدث في مشرقنا العربي. فالصراع هو من أجل وراثة الفكر، والنفط ليس إلا قيمة مضافة!
ولا يؤثر اختلاف النظام الاقتصادي السائد في الغرب على هذه الحقيقة فحين كان النظام السائد اقطاعيا جاء الصليبيون وحين كان النظام رأسمالياً جاء الصهاينة. ذلك لأن العقدة التي تحرك دافع الغزو والاحتلال هي ليست اقتصادية قدر كونها فكرية تتعلق بالرغبة في ادراك المسوغ الفكري للوجود والانتماء. ويؤيد هذا أن أكثر الناس بؤساً في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، كانوا أكثر تحمساً للموت في غزو العراق واحتلاله، ولا يبحثن أحد عن عذر لهم في التضليل أو الخداع.
وهكذا يجب أن يفهم غزو العراق. فالصهيونية لم تغز العراق لأنها لا تحب صدام حسين أو لأنها تدافع عن “الديموقراطية” فهي كانت ومازالت تدعم أقسى النظم استبداداً وظلماً في العالم. إنما غزي العراق لأنه يشكل هو وسورية ومصر العقبة الوحيدة في وجه هيمنة الصهيونية العالمية على المنطقة للهدف الذي بينت. وحيث إن مصر قد طبعت منذ عقود وإن سورية تدمر من أجل إجبارها على التطبيع، وقد عرض المشروع على بشار الأسد وحين رفضه بوشر بتخريبها. أما العراق فقد غزي كي يحل جيشه ويقسم لينتهي الى أمد طويل أي خطر على مشروع الهيمنة الصهيونية على المشرق محققة بذلك سيادة الفكر الاستكباري الهجين الذي يدعي أنه وريث الفكر اليهودي المسيحي اليوناني وان كانت لا علاقة له لا بالتوراة ولا بالإنجيل ولا بأرسطو.
مرجعية النجف والسياسة
لم يصدر علنا عن مرجعية النجف موقف سياسي منذ افتى محسن الحكيم بتكفير الشيوعية عام 1959 حتى جاء غزو العراق عام 2003. وهذا لا يعني أن المرجعية لم تلعب دوراً في السياسة. إنما يعني ان السلطة السياسية في بغداد كانت على مقدار من القوة مما مكنها من لجم المرجعية في العلن في أقل حال. ولعب ابو القاسم الخوئي دوراً في انتفاضة الشيعة التي اعقبت غزو العراق الأول عام 1991، لكن عمل المرجعية السياسي سرعان ما عاد للسر حتى خرج علناً بعد غزو العراق عام 2003.
وقد بقيتُ فترة من الزمن حذرا في أن لا أكتب عن المرجعية لا خوفا من أحد ولا طمعا في شيء ولكن عملا بقوله تعالى “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة”. إلا أني خرجت عن هذا الحذر فأوردت رأيي في المرجعية في كتابي “الأزمة في الإسلام” ولن أعيد ذلك هنا.
لكن الذي يهمني هنا هو تدخل المرجعية في السياسة منذ عام 2003 مما يعطيني الحق في أن أسألها اين تقف من التطبيع.
فلو إن مرجعية النجف ظلت محافظة على صمتها في العلن مدعية أنها لا تتدخل في الشأن السياسي لما كان لأحد الحق في أن يطالبها بموقف. أمّا وانها اتخذت أكثر من موقف سياسي بعد عام 2003 وحتى اليوم فقد أصبح من حق كل مواطن أن يسألها عن موقفها الشرعي من اية قضية سياسية. حيث إن التدخل في الشأن السياسي وعدمه لم يعد أمر اختيار إذ لا يحق للمرجعية أن تختار متى تتدخل وتعتكف متى تشاء مدعية الحياد أو غيره. فاذا كان لها موقف من الدستور الذي وضعه بريمر، والذي غَيَّر العراق ومستقبله لعقود مقبلة، فلا يمكن ألا يكون للمرجعية موقف شرعي من غزو العراق واحتلاله. فهل لها موقف كهذا؟ ان وجد فإني لم أسمع به، وأشك أن تكون المرجعية قد أفتت في ذلك فلو فعلت لسمعنا بالفتوى كما سمعنا بفتوى وجوب التصويت على دستور بريمر للعراق وفتوى الجهاد الكفائي ضد داعش.
لقد أصبح لمرجعية النجف ثقل سياسي كبير بعد غزو العراق واحتلاله وكان ذلك دون شك بمباركة وتشجيع المحتل الصهيوني. فقد كان الساسة يتسابقون لزيارة المرجع في النجف ليكون ذلك علامة رضى على من تقبل زيارته. بل إن عدداً منهم كان وما زال يسارع بعد اللقاء كي يعلن أن المرجع قد رحب به وبحث معه الشأن العام والخاص وبارك في خطاه. وكل هذا جعل مرجعية النجف شريكة في المسؤولية، سوى رضيت أم لم ترض، عما آل اليه الحال في العراق. فمن لا يرضى عن الفساد لا يستقبل الفاسدين ومن لا يرضى عن الخيانة فلا يستقبل الخونة ويرحب بهم. فليس لأحد من سلطان على المرجعية كي تحتضنه، لكنها حين تفعل ذلك تكون مسؤولة عن نتائج عملها.
وبرغم ما يقوله عدد من معارفي بأن ثقل المرجعية قد تراجع في العراق، إلا ان المرجعية ما زالت قوية ومازالت تمثل للرأي العام العربي الموقف السياسي لشيعة العراق. لذا فإن مرجعية النجف مطالبة أن تفتي بالموقف الشرعي من التطبيع مع اسرائيل. إن ذلك ضرورة تأريخية ليس فقط من أجل سلامة العراق وموقفه التأريخي المشرف في الخندق الأول في الدفاع عن الأمة العربية ولكن من أجل أن يعرف العرب خارج العراق أن شيعة العراق ليسوا أقل وطنية أو عروبة من شيعة لبنان. والصمت لن يكون مقبولا!
عبد الحق العاني
لندن 27 تشرين أول 2020