إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: له القِدْحُ المُعَلَّى
ولا تقل: له القَدَحُ المُعَلَّى
يقرأ الناس العبارة ويفهمون أنها تعنى صاحب الحظ الأوفر. لكنها حين تحرك في الكتابة أو ينطق بها ينكشف أمر من يعرف حقيقتها ومن ينقلها عن جهل. فكثير ما نسمع من يقول “إن فلانا له القَدَحُ المُعَلَّى”. وهو قول فاحش حيث لا معنى للعبارة اذا نطقت الكلمة “قَدَحَأ”. والعلة هي في التمييز بين “القِدْح” و “القَدَح”.
فالِقدْح هو السهم. أما “القَدَحُ” فهو المغرفة أو الإناء الذي يستخدم للشراب. ويجمع “القِدْحُ” على “قِداح” بينما يجمع “القَدَحُ” على “أقْداح”. ولم يسمع عن العرب من جمع قَدَحَا على قِداح. فمن قال “كسرت قِداحي” فإنما يريد كسرت سهامي وليس كسرت أقداحي. وأصل العبارة هو من الميسر في الجاهلية حيث يجتمع عشرة أشخاص ويشترون جزوراً و يقسمونه إلى 28 قطعة. ثم يأتون بكيس ويضعون فيه عشرة قداح، وهي على هيئة أعواد، وكل قدح من هذه القداح له اسم، فسبعة منها تعمل وثلاثة لا تعمل، أي: سبعة فيها حظ، وثلاثة لا يجعلون فيها حظاً. ثم يأتون برجل أمين فيدخل يده في الكيس فيقول مثلاً: هذا حظ فلان ويأخذ قِدْحاً، فإذا طلع من الثلاثة التي لا حظ فيها فان صاحبها لا يأخذ شيئاً وعليه قيمة شراء الجزور. أما السبعة الباقون فيأخذون نصيبهم بحسب القداح: فيسمون أحدها الفذ، ويأخذ واحداً. والثاني يسمونه التوأم، ويأخذ اثنين .والثالث يسمونه الرقيب، ويأخذ ثلاثة. والرابع يسمونه الحلس، ويأخذ أربعة .والخامس يسمونه النافس، ويأخذ خمسة؛ والسادس يسمونه المسبل، ويأخذ ستة. والسابع يسمى القِدْحُ المُعَلَّى ويأخذ سبعة. ثم عممت التسمية حتى صارت تطلق على كل متميز في مجال ما، فالناس إذا مدحوا أحداً يقولون: له القِدْحُ المُعَلَّى.
وقال أبو فراس الحمْداني (بتسكين الميم):
لسيف الدولة القِدْح المعلّـى *** إذا استبق الملوك إلى القِداح
فقل: له القِدْحُ المُعَلَّى
قل: أصْلَحْتُ المِيِزابَ
ولا تقل: أصْلَحْتُ المِرْزابَ
كتب الكسائي: “وتقول فعلت الميزاب بغير راء، وهي الميَازِيب”.
وأضاف المحقق: “في اصلاح المنطق يقال: هو المئزاب وجمعه مآزيب ولا تقل: المرازيب.”إنتهى
وكتب الجوهري في الصحاح: ” المِرْزابُ: لُغَةٌ في الميزاب، وليست بالفصيحة، أبو زيد: المَرازيبُ السُفُن الطوال، الواحدة مِرْزابٌ.” فتكون المرازيب، على رواية الجوهري نقلاً عن أبي زيد، السفن الطوال وليس الميازيب.
قل: نبَحَتْه الكلاب
ولا تقل: نبَحَتْ عليه الكلاب
كتب الصفدي: “العامة تقول: نبَحَتْ عليه الكلاب. والصواب نَبَحَتْهُ.”إنتهى
وكتب أبو الثناء الآلوسي في (كشف الطرّة عن الغرَّة)فقال: (ويقولون نبحت عليهِ الكلاب) فيعدونه بعلى (والمسموع نبحته) متعدياً بنفسه كما في قوله: وكلب ينبح الأضياف عندي، وقوله: إذا رأوها نبحتني هرّوا. وفيهِ أن الحق أنهُ ورد متعدياً ولازماً ففي تهذيب الأزهري ولسان العرب عن شمر يقال نبحه ونبح عليهِ واستشهد لهُ بقول هلال بن خثعم (وقد نسبت باختلاف الرواية في حماسة ابن الشجري لبشار بن بشر المجاشعي):
وإني لعف عن زيارة جارتي وإني لمشنوء إليَّ اغتيابها
إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها زءوراً ولم تنبح عليَّ كلابها” إنتهى
وروي عن رسولنا الأكرم (ص) قوله: ليت شعري آيتكن صاحبة الجمل الادبب تنبحها كلاب الحؤاب. والأدبب هو الجمل الكثير الوبر.
ويبدو أن العرب ميزت كعادتها في التنوع والإبداع بين صوت الكلب والذئب فاستعملت “نبح” للكلب و “عوى” للذئب. فقال شاعرهم في الكلب:
قومٌ إِذا اسْتَنْبَحَ الأَقوامُ كَلْبَهُمُ قالوا لأُمِّهِمُ: بُولِي على النارِ
وقال البحتري في وصف رائع للذئب:
عوى ثمَّ أقعى فارتجزتُ فهجتُهُ فأقبلَ مثل البرقِ يتبعُهُ الرعْدُ
فإن قال قائل إن معاجم العربية تقول ان “عوى” تأتي للكلب وللذئب فهو صحيح لكنه ليس دقيقاً. ونقل ابن منظور في لسان العرب عن الجوهري الفرق بين العواء والنباح فكتب: ” وقال الجوهري: عَوَى الكلْبُ والذِّئبُ وابنُ آوى يَعْوِي عُواءً صاحَ. وهو يُعاوِي الكلابَ أَي يُصايِحُها. قال ابن بري: الأَعلم العِواء في الكلاب لا يكون إِلاَّ عِندَ السِّفادِ. يقال: عاوَتِ الكِلاب إِذا اسْتَحْرَمَتْ، فإِنْ لم يكن للسفاد فهو النُّباحُ لا غَيْر…… وفي حديث حارثة: كأَني أَسْمَعُ عُواءَ أَهل النَّارِ أَي صِياحَهُمْ.” لذا فالأحوط هو استعمال “نبح” للكلب و “عوى” للذئب.
قل: نِعْمَ الرجلُ منْ مدحتَ
ولا تقل: نِعْمَ مَنْ مدحتَ
كتب الصفدي: “ويقولون: نِعْمَ مَنْ مدحتَ. وبِئْسَ مَنْ ذممتَ. والصواب أن تقول: نِعْمَ الرجلُ منْ مدحتَ، وبِئْسَ الشخصُ مَنْ ذممتَ، كما قال عمرو بن مَعْدِيكَرِب وقد سُئِلَ عن قومه فقال: نعم القومُ قومي عند السيف المسلول والمال المسئول. ويكون التقدير: نعم الرجل زيد، أي الممدوح من الرجال زيد. وقد يجوز أن يُقتَصر على ذكر الجنس وتضمر المقصود بالمدح والذم اكتفاء بتقدم ذكره، كما جاء في التنزيل: “ووَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ العَبْدُ”، أي نِعْمَ العبدُ سليمان. قلت: وطوّلَ الحريريُّ، رحمه الله، الكلامَ في هذا الفصل، وتقريره على هذه القاعدة التي ذكرها، ومع ذلك فقد قال في مقاماته، في المقامة الثالثة والأربعين:
إنّكَ نِعْمَ مَنْ إليه يُحْتَكَمْ
فجاء فيه بغير ما قرره في كتابه درة الغواص.”
وقد وجدت في زيادة الفائدة أن أنقل ما كتبه الجوهري في الصحاح في باب نعم وبنس وهو:
“ونِعْمَ وبئس: فعلان ماضيان لا يتصرَّفان تصرُّف سائر الأفعال، لأنَّهما استعمِلا للحال بمعنى الماضي. فنِعْمَ مدحٌ، وبئس ذمٌّ…. وتقول نِعْمَ الرجل زيد، ونِعْمَ المرأة هند، وإن شئت قلت: نِعْمَتِ المرأة هند. فالرجل فاعل نِعْمَ، وزيدٌ يرتفع من وجهين: أحدهما أن يكون مبتدأ قدِّم عليه خبره، والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وذلك أنَّك لمَّا قلت نِعْمَ الرجل قيل لك من هو؟ أو قدَّرتَ أنَّه قيل لك ذلك فقلت: هو زيد، وحذفت هو على عادة العرب في حذف المبتدأ والخبر إذا عرف المحذوف وهو زيدٌ. إذا قلت نِعْمَ رجلاً فقد أضمرت في نِعْمَ الرجل بالألف واللام مرفوعاً، وفسَّرته بقولك رجلاً؛ لأنَّ فاعل نِعْمَ وبئس لا يكون إلا معرفة بالألف واللام، أو ما يضاف إلى ما فيه الألف واللام، ويراد به تعريف الجنس لا تعريف العهد، أو نكرةً منصوبة، ولا يليهما عَلَمٌ ولا غيره، ولا يتَّصل بهما الضمير. لا تقول نِعْمَ زيدٌ، ولا الزَيْدونَ نِعموا.”
قل: هو من أهلِ السّوقِ
ولا تقل: هو من السَّوقَةِ
وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “السَّوَقَةُ عند العربِ من ليسوا بملوك من التجار وغيرهم بمنزلة الرعية لأن الملك يسوقهم بسياسته، ولا يُعنى به أهل السوق.”
وكتب أبو الثناء في ذلك فقال: “(ويتوهمون أن السوقة اسم لأهل السوق وليس كذلك بل هو اسم الرعية) لان الملك يسوقهم إلى إرادته، ويستوي لفظ الواحد والجماعة فيه فيقال رجل سوقة وقوم سوقة (كما قالت الحرقة بنت النعمان) بن المنذر
(فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف)
ويروى نسوق موضع نسوس وهو من السياسة، ومعنى نتنصف نخدم وكان من قصة الحرقة انه لما قدم سعد بن أبي وقاص القادسية أميرا أتته مع جوار لها تطلب صلته؛ فلما وقفن بين يديه قال: مكررا أيتكن حرقة، فقالت هي: أنا حرقة فما تكرارك للاستفهام عني، إن الدنيا دار زوال، وإنها لا تدوم على حال تنتقل بأهلها انتقالا، وتعقبهم بعد حال حالا، إنا قد كنا ملوك هذه الأرض قبلك، يجبى إلينا خراجها، ويطيعنا أهلها، فلما أدبر الأمر وانقضى، صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا، وشتت ملانا، وكذلك الدهر يا سعد، انه ليس من قوم في مسرة، إلا والدهر يعقبهم عبره، ثم أنشأت تقول من شعر لها فبينا البيت وبعده
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها | تقلب تارات بنا وتصرف |
فقال سعد قاتل الله تعالى عدي بن زيد كأنه ينظر لهذه حيث يقول:
إن للدهر صولة فاحذرنها | لا تبيتن قد أمنت الشرورا |
قد يبيت الفتى معافى فيردى | ولقد كان آمنا مسرورا |
ثم أكرمها وأحسن جائزتها، فقالت لا جعل الله تعالى لك إلى لئيم حاجة، ولا زال لكريم عندك حاجة، ولا نزع الله تعالى من عبد صالح نعمة إلا جعلك سبباً لردها عليه، وخرجت فقيل لها ما صنع بك الأمير فقالت:
حاط لي ذمتي وأكرم وجهي | إنما يكرم الكريم الكريم |
(وأما أهل السوق) يذكر ويؤنث (فسوقية) بياء النسبة وفي الكلم النوابغ للزمخشري السوقية كلاب سلوقية.
قل: عززت الرسولين بثالث
ولا تقل: شفعت الرسولين بثالث
كتب الحريري: “ويقولون شفعت الرسولين بثالث، فيوهمون فيه، لأن العرب تقول: شفعت الرسول بآخر، أي جعلتهما اثنين، ليطابق هذا القول معنى الشفع الذي هو في كلامهم بمعنى اثنين، فأما إذا بعثت ثالثا، فوجه الكلام أن يقال: عززت الرسولين بثالث، كما قال سبحانه: “إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث” والمعنى في عززته قويته.
وعلق الآلوسي على قول الحريري فكتب: “ويقولون شفعت الرسول بثالث وهو وهم لأن العرب تقول شفعت الرسول بآخر أي جعلتهما اثنين، ليطابق هذا القول معنى الشفع الذي هو بمعنى الاثنين. فإذا بعثت بثالث فوجه الكلام أن يقال عززت بثالث، كما قال سبحانه “فعززنا بثالث” والمعنى قوينا. فإن واترت الرسل فالأحسن أن يقال قفيت بالرسل” كما قال تعالى “ثم قفينا على آثارنا برسلنا.”
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….