إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: قبلت الرسالة بعد موافقة المشرف
ولا تقل: قبلت الرسالة بعد موافقة المؤطر
حين يلحن أو يخطأ أحد من العامة فهو معذور لكن المتعلم غير معذور. هذا الى جانب أن خطأ العامة ليس في ابتكار أو استحداث المفردات وانما هو في التصحيف. أما المتعلم الذي يشتق كلمة أو يترجمها خطأً فإنه خطر على اللغة لأن العامة ستقلده بسبب افتراضها علمه وحسن تدبيره.
وقد أعلمني أحد العلماء العرب من أهل العراق أنه فوجئ باستعمال غريب في جامعات تونس (ولا أدري اذا كان هذا سائدا في دول أخرى من شمال أفريقيا). فقد وجدهم يستعملون كلمة “مؤطر” في التعبير عن المشرف على رسائل دراسة الماجستير. فيقولون “بعد موافقة المؤطِّر”، على سبيل المثال. فمن أين جاء هذه الإستعمال؟
وجواب ذلك، كما هو الحال في الأمة العربية كلها، هو التغرب الذهني للمتعلم العربي فهو ما أن يدرس باللغة الإنكليزية أو الفرنسية حتى يصبح يفكر بها ويترجم كل ما يفعله عنها في تعبيره العربي. وحين اطلع الجامعييون التونسيون على أن الفرنسيين يستعملون كلمة Encadreur فإنهم ترجموها للعربية بمعناها الحرفي (المؤطر) واستعملوها كذلك. وحيث إني لا أعرف الفرنسية فإني لن أبحث في جذر الكلمة الفرنسية ولماذا استعملها الفرنسيون في التعبير عن المشرف في بحث أو دراسة.
لكنني معني باستعمالها في العربية بمعنى المشرف. فقد كتب ابن منظور في لسان العرب ناقلا عن فصيح العرب: “الأَطْرُ: عَطْفُ الشيءِ تَقْبِضُ على أَحَدِ طَرَفَيْهِ فَتُعَوِّجُه؛ أَطَرَه يأْطِرُهُ ويأْطُرُه أَطراً فَانْأَطَرَ انْئِطاراً وأَطَّرَه فَتَأَطَّر: عطَفه فانعطف كالعُود تراه مستديراً إِذا جمعت بين طرفيه……. وتَأَطَّرَ الرُّمحُ: تَثَنَّى ….. وتَأَطَّرَ بالمكان: تَحَبَّسَ. ….. وتَأَطَّرَتِ المرأَةُ تَأَطُّراً: لزمت بيتها وأَقامت فيه.” وأضاف ابن فارس على ذلك بقوله: “قال أهلُ اللُّغة: كلُّ شيءٍ أحاط بشيءٍ فهو إطارٌ.”
ويتضح مما جمعه ابن منظور أنه ليس بين المعاني التي عرفتها العرب لإستعمال “أطَّرَ”، حتى نأخذ منه “المؤطِّر”، ما يمكن أن يقترب من استعمال الجامعيين في تونس.
فبالله عليكم ماالذي أحوجكم لهذه الجهالة؟ أليست كلمة “المشرف” العربية الجميلة، والتي يفهمها كل عربي بالسليقة دون الحاجة للقواميس والتعريف، ما يغني عن هذه الإستعارة القبيحة؟ فاعدلوا عن الفرنسية الى العربية.
قل: هو مشرف
ولا تقل: هو مؤطِّر.
قل: هُوَ السَّبُعُ
ولا تقل: هُوَ السَّبْعُ
كتب الكسائي: “وتقول: هو السَّبُعُ بفتح السين وضم الباء. وكذلك الضّبُعُ. قال الشاعر:
يا ليت لي نَعْلَينِ من جِلْدِ الضَّبُعْ
وشُرُكَاً من إسْتِها لا تَنْقَطِعْ”
قل: ترك مائة بُهار
ولا تقل: ترك مائة بَهار
كتب الصفدي في كتاب تصحيح التصحيف وتحرير التحريف: “تقول العامة: البَهار بفتح الباء. والصواب ضمها. وهو الحِمْل. قلت: البُهار بالضم شيء يوزَن به، وهو ثلاثمائة رطل. وقال عمرو ابن العاص: إن ابن الصعبة – يعني طلحة بن عبيد الله – ترك مائة بُهار، في كل بُهار ثلاثة قناطير ذهب، فجعله وِعاءً.”انتهى
(اذا صح ما قاله ابن العاص فلا يمكن لطلحة أن يكون من المبشرين بالجنة لأن الجنة لا يدخلها أحد ممن يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله. أما إذا لفَّقَ ابن العاص القول فقد أثم في حق صحابي. وأيا كان الأمر فكلاهما من الصحابة!)
وكتب الحنفي: “قال الزبيدي: البُهار بالضم حمل المتاع خاصّةً، وهو للوزن أيضاً، وعليه كلام الجوهري.”
قل: أعطى في ذلك فتويين
ولا تقل: أعطى في ذك فتوتين
كتب عبد الهادي بو طالب: “وليس فتوتَيْن أو فتْوتيات. ويقاس على ذلك كل ما هو على صيغتهما مما توجد فيه ألف المد المقصورة في حرفه الرابع كنَجْوى، وعَدْوى، وشَكْوى.”
قل: مِلحفة خَلَق
ولا تقل: ملحفة خلقة
كتب الحريري: “ويقولون: جبة خلقة، فيوهمون فيه لأن العرب ساوت فيه بين نعت المذكر والمؤنث فقالت: ملحفة خَلَقٌ، كما قالت: ثوبٌ خَلَقٌ، وبَيَّن بعضهم العلة فيه، فقال: كان أصل الكلام: أعطني خلق جبتك، فلما افرد من الإضافة بقي على ما كان عليه، وكذلك يقال: جبتان خلقان، ولا يقال: خلقتان وأنشد ثعلب شاهدا عليه لأبي العالية:
كفى حزنا أني تطاللت كي أرى ** ذرى قلتي دمخ فما تريان
يقال: تطاول، إذا مد قامته، وتطالل إذا مد عنقه، مأخوذ من الطلل وهو الشخص:
كأنهما والآل يجري عليهما ** من البعد عينا برقع خلقان
وعلق على ذلك أبو الثناء الآلوسي فكتب: “ويقولون خلقة وصفا لمؤنث كجبة خلقة، وهو وهم لان العرب تصف بمذكره المؤنث والمذكر؛ فيقولون جبة خلق، وثوب خَلَق. وهو بفتحتين فانه المراد هنا، وأما خَلِق بكسر اللام كحذر فصفة، وقعت كثيرا صفة المنازل والأطلال. وفي شرح أدب الكاتب الخَلَقُ المبتذل يقع للواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد، لأنه يجري مجرى المصادر، وقد يثنى، وقد يجمع؛ فيقال ثوبان خلقان وثياب أخلاق، وقالوا ثوب أخلاق فوصفوا به الواحد كبُرْمَة أعشار، وقال الكسائي: أرادوا نواحيه أخلاق. وعلل في الأصل التذكير نقلا عن بعضهم، وهو الفراء، بما فيه نظر. وسنشير إليه إن شاء الله تعالى. والعلة الصحيحة ما في شرح أدب الكاتب، وهي التي ارتضاها ابن هشام، فقد قال في تذكرته ثوب جَديدٌ وثوب خَلَقٌ لا تلحقها التاء في المؤنث لان جديدا أصله مفعول فهو كقولهم كف خضيب، وكذا مِلحفةٌ جديد ٌبمعنى مجدودة أي مقطوعة من منوال الناسج هذا أصله، وأما الخَلَقُ فمصدر، والمصدر يقع للمذكر والمؤنث بلفظ واحد كرجل عدل وامرأة عدل، وأما قول الفراء إنما قيل خلق بغير هاء؛ لأنه كان يستعمل في الأصل مضافا، فيقال أعطني خلق جبتك، وخلق عمامتك، ثم استعمل في الإفراد بغير هاء فليس بشيء؛ لأنه يقال له فلم وجب سقوط الهاء منه في الإضافة حتى يحمل الإفراد عليه انتهى.
ويقال في وصف المثنى المؤنث خلقان كملحفتان خلقان ولا يقال خلقتان بالتأنيث، وعليه ما انشده ثعلب لأبي العالية:
كفى حزنًا إني تطاللت كي أري | ذرا قلتي دمخ فما يرياني |
كأنهما والآل يجري عليهما | من البعد عينا برقع خلقان |
يقال تطاول إذا مد قامته وتطالل إذا مد عنقه مأخوذ من الطلل، وفي الصحاح تطالل إذا مد عنقه ينظر الشيء يبعد عنهُ، وقال في مادة ط و ل تطاولت مثل تطاللت ودَمخٌ بدال مهملة مفتوحة وخاء معجمة علم جبل.”
قل: دووي لمن عمل الدواة
ولا تقل: دواتي لمن عمل الدواة
وكتب أبو الثناء الآلوسي: “ويقولون دواتي لمن عمل الدواة المعروفة بإثبات التاء المثناة من فوق وهو لحن قبيح وخطأ صريح والوجه أن يقال فيه “دووي” لان تاء التأنيث تحذف في النسب كما يقال في النسب إلى فاطمة فاطمي والى مكة مكي، وإنما حذفت فيه لمشابهتها ياء النسب من عدة أوجه. والأوجه احدها أن كلتيهما تقع طارفة فتكون محل الإعراب، الثاني أن كلا منهما قد جعل ثبوته علامة الواحد، وحذفه علامة الجمع كتمرة، وتمر، وزنجية، وزنج. الثالث أن كلا إذا الحق بالجمع غير المنصرف صيرته منصرفا كصيارف، وصيارفة، ومدائن، ومدائني، ولما حذفت فيما نحن فيه بقي دوى، وهو وزن الثلاثي المقصور فقلبت ألفه واوا كما قلبت فيه فقيل دووي كما قيل في فتى فتوي، ولا فرق في هذا بين الألف التي أصلها الواو كألف قفا المشتق من قفوت والألف التي أصلها الياء كألف حمى المشتق من حميت، وهذا غير حكمها في التثنية حيث ترد فيها إلى أصلها، فيقال قفوان وحميان. والفرق أن علامة التثنية خفيفة، وما قبلها يكون مفتوحاً أبدا فلا يجتمع في الكلمة ما يثقل. وعلامة النسب ياء مشددة تقوم مقام يائين وما قبلها لا يكون إلا مكسورا فلو قلبت الألف ياء لتوالى في الكلمة ما يثقل اللفظ من الكسر والياءات. هذا وقال ابن بري في تعليل حذف التاء أن الاسم لما نقل عن مسماه إلى المنسوب دخل في حيز الصفات التي تذكر وتؤنث فأسقطت لئلا يجتمع علامتا تأنيث؛ فيما إذا نسبت المؤنث إلى مؤنث آخر كما إذا قيل فاطمية وهو قبيح ثقيل، وأيضاً تقع تاء التأنيث حشوا، وهي لا تكون كذلك وبالجملة ما أنكر منكر، وان اختلف في تعليل وجوب الحذف”.
قل: سجد على جبهته
ولا تقل: سجد على جبينه
كتب الحنفي: “قال الجوزي: العامة تقول: الجبين، لما يسجد عليه الإنسان. والصواب أنّه الجَبْهة، والجبينان ما يكتنفانها. وعليه كلام الجوهري وصاحب القاموس.”
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….