وعدت في الحلقة السابقة أن أتحدث عن الإنتفاضة.
لكن ما يستجد من أحداث يلزم بالتوقف للتعليق عليها، ولو قليلاً، بحكم ارتباطها بصلب موضوع هذه السلسلة.
أمس كنت في حديث مع صديق عزيز أسميه (آخر الناصريين) لم تؤثر في ثباته القومي أحداث سبعين عاماً من الاضطراب السياسي والتغرب الشخصي. فذكر عبارة أتفق معه فيها بالكامل لابد من اعادتها ونشرها بين الناس في وقت يبدو فيه التلوث الإعلامي والتشويش الساذج للأفكار المذهبية البائسة والتي لن تغير نتائج “سقيفة بني ساعدة” ولن تؤثر قيد أنملة في مستقبل الأمة العربية. وفحوى الحديث أنه يجب التنبه الى أنه ليس كل من يطالب بوقف التدخل الإيراني في العراق هو بالضرورة عميل للصهيونية وليس كل من يطالب بانهاء الإحتلال الصهيوني للعراق هو في جيب إيران. فليس كل من يستنكر قيام الصهيونية باغتيال من تشاء كما تشاء وأنى تشاء عميل لإيران، وليس كل من يستنكر دعم وإسناد إيران للفساد المستشري في العراق عميل للصهيونية. ذلك لأنه ما من احد له الحق في أن يحتكر المبادئ.
إن ما وقع على أرض العراق من اغتيال صهيوني مخالف للقانون العراقي والقانون الدولي وما تبعه من ضرب قاعدة “عين الأسد” في غرب العراق مؤشر مهم ومؤكد لموضوع هذه المقالات في الصراع الإيراني الصهيوني على العراق. ذلك لأنه يجب على كل عربي في العراق أن يفهم أن هناك فرقاً كبيراً بين التعامل مع الإيرانيين وبين التعامل مع الصهاينة. ومن لا يقدر أن يفهم هذه الحقيقة فهو واحد من اثنين. فهو إما ساذج لحد أنه لا ينفع معه الحديث، وإما مغرض، يعرف ويحرف! فالعرب الذين يعيشون في أرض ما بين النهرين يختلفون عن باقي الأمة العربية في أنهم يجاورون من الأقوام غير العربية ما لا يجاوره أولئك. فهم، أي عرب العراق، وحدهم يجاورون الأكراد والفرس والأتراك. وهذه حقيقة فرضتها الجغرافيا والتأريخ وعلى عرب العراق العيش فيها. ولا يمكن لعرب العراق أن يكون لهم موقف واحد وشامل تجاه أي من هذه الشعوب المجاورة. فلا يمكن أن يكون لسنة العراق موقف معاد للفرس لأنهم، أي الفرس، اليوم شيعة بعد أن كانوا أكثر الشعوب تسنناً. ولا يمكن لشيعة العراق أن يعادوا الإتراك لتسننهم واضطهادهم الشيعة في السابق. ولا يمكن للعرب أن يعادوا الأكراد لأنهم يطمعون في السيطرة على أرض عربية. إن طبيعة الجيرة في كل علاقة هي أنها تقود لخلافات. لكن حقيقة الجيرة تلزم كل الأطراف باللجوء للبحث والحوار من أجل حل الخلاف لا اللجوء للعنف والحرب. هذا هو منطق العلاقة الإنسانية سواء أكان ذلك على مستوى الأفراد أم الدول.
أما الصهيونية فالموقف منها مختلف تماما عن الموقف من شعوب الأكراد والفرس والأتراك. ذلك لأن العرب لم يختاروا أعدائهم بل الأعداء هم الذين اختاروا عداء العرب. فالعرب لم يغزو أحداً منذ ألف عام. والعرب لم يتسوطنوا قارة أمريكا ويقيموا فيها المستعمرات على حساب السكان الأصليين، والعرب لم يقيموا قواعد عسكرية في شمال الجزر البريطانية وووووو… لكن الصهيونية هي التي جاءت قَضَّها بقَضِيضِها منذ مائة عام بشكل سافر فاحتلت أرضنا وخلقت دولة تجدد بها دولة الصليبيين في القرون الغابرة. واستباحت حرماتنا وقتلت ابناءنا واغتصبت نساءنا وسرقت خيراتنا وحين اعترضنا حاصرتنا ثم غزتنا. لقد أجبرتنا الصهيونية على قبول أن وجودها في أرضنا هو نفي لوجودنا. وهذا حال لا يمكن التعايش معه.
وهكذا يصبح عقد أية موازنة بين الخلاف مع جيراننا من شعوب الأكراد والفرس والأتراك والصراع مع الصهيوينة مشروعاً صهيونياً.
فنحن قد نعيش اليوم خلافاً مع إيران لكننا نخوض صراعاً مصيرياً مع الصهيونية.
إن أهم ما نتج عن أحداث الأيام الأخيرة فوق أرض العراق هما أمران يمكن لي أن أشير لهما دون الدخول في أي حديث عن اتفاقيات سرية بين هذا وذلك، وذلك لقيمتهما في الصراع الدائر على أرضنا.
أولاً: إن دقة الصواريخ الإيرانية الأحد عشر التي أصابت الأهداف في قاعدة “عين الأسد” لها قيمة كبرى لأن تلك الصواريخ هي بيد مقاتلي فلسطين في غزة ومقاتلي حزب الله في لبنان ومقاتلي جيش سورية العربية. وهذه النتيجة تكفي ضماناً لي بقيام سلاح لدى أولئك الذين يواجهون العدو الصهيوني على أرض العرب يمكنهم من خلق حالة من توازن الرعب تمنع العدو من التمادي في العدوان لمعرفته بدقة الرد الممكن. وهذه حالة جديدة في الصراع العربي الصهيوني لم تكن قائمة منذ عام 1948 حيث كان العدو يتمتع دائما بتفوق نوعي في السلاح. أما أن يكون بيد الذين يواجهون العدو الصهيوني، والذين أثبتوا أنهم يقاتلونه فعلاً، سلاح ردع متكافئ فإنه يمكن القول بان قواعد الصراع قد تغيرت، ولو جزئياً، لصالحنا.
ثانياً: إن قاعدة جديدة قد سنت في ميزان الهيمنة الصهيونية على العالم. وهذه القاعدة ليست بسيطة في مدلولها ولا يمكن تأويلها بادعاءات ساذجة في قيام تفاهم عليها. فلم يسبق منذ الحرب العالمية الثانية أن قاعدة عسكرية أمريكية ضربت ولم ترد الصهيونية عليها. وهذا لا يعني أن إيران هزمت الصهيونية ولا يعني أن الصهيونية غير قادرة على تدمير إيران. لكنه يعني، بشكل لا يقبل الجدل العبثي، أن قواعد اللعبة الصهيونية في أرضنا قد تغيرت. فقد اصبح الثمن المطلوب لمطلق الحرية للصهيونية باهضاً الى حد يجعل عليها أن تحسب ألف حساب قبل تصعيد الموقف. وهو وضع يختلف كثيرا عما كان عليه في تسعينيات القرن الماضي حين كانت الطائرات والصواريخ الصهيونية تضرب العراق لمجرد أن قاعدة مقاومة طائرات بسيطة فيه أضاءت راداراتها.
نعود الآن للحديث عن الإنتفاضة.
إن حق المواطن، أي مواطن، في التمتع بحياة كريمة آمنة ليس موضع جدل. وهذا يعني أن الدولة مكلفة بتأمين عوامل تحققه. فما الذي تحقق في العراق؟
لن أتحدث عن ما آل اليه العراق قبل استرجاع الكويت ذلك لأن في هذا الحديث عرضاً لتأريخ عقود لايمكن إنصافه في صفحات. وقد لا يكون اتخاذ عام 1990 بداية للحديث عن الحياة في العراق سليماً لكنه لا بد من القبول من نقطة بداية لأي حديث. ويبدو لي أن استعادة الكويت مرحلة فاصلة يمكن اتخاذها بداية القياس والموازنة. فقد تمكنت حكومة العراق بالرغم من الحرب المدمرة مع إيران أن تضمن حداً أدنى من العيش والذي وان تدنى عما كان عليه في رفاهية سبيعنيات القرن إلا أنه كان مرضياً لحد ما وكان الأمن الفردي للمواطن مؤمناً، هذا اذا استثنينا العنف السياسي الذي كان يلحق بالخصوم السياسيين والذي يبدو أنهم يعتقدون أن تعرضهم للإظهاد والعنف هو الفيصل في تأريخ العراق وهو لا يختلف كثيراً عما كتبه خصوم ستالين في مرحلة بناء روسيا الجديدة.
وفتح دخول العراق للكويت، دون أن يكون البعث قد أعد العدة لمواجهة نتائجه، الباب أمام الصهيونية لتنفيذ حلمها القائم منذ عقود وعقود في اجتياح الحدود الشرقية للأمة العربية. ففرضت حصاراً على العراق لم يسبق في تأريخ البشرية أن فرض مثيل له وقد لا يمكن تكراره. ولا يمكن الحديث عن هذا الحصار وأبعاده ونتائجه حيث إن بعضها يبدو من قبيل الخيال لكنه حقيقة. وإن كنت قد أخرجت، مع شقيقي الدكتور طارق، كتاباً عن حصار الإبادة يعطي صورة عن حجم الإبادة إلا اني لا بد أن أعطي أنموذجاً واحداً لذلك الطغيان. فكل من يعرف القليل عن مجلس الأمن يعرف أن تشكيلته، التي أقامها الكبار وقنع بها الصغار، هي أن في المجلس خمسة أعضاء دائميين لكل منهم حق النقض وهو الحق الذي يعطل أي مشروع قرار يبحثه المجلس ويبطل دور الأعضاء الأربعة عشر الباقين. وقد يجد المراقب في هذا ظلماً! لكن حصار العراق جعل هذا الظلم يبدو هيناً. فقد قرر مجلس الأمن تشكيل “لجنة المقاطعة” من الأعضاء الخمسة عشر وكلفها مهمة الإشراف على طلبات العراق للإستيراد. واضاف مجلس الأمن “الموقر” للجنة سلطة لا يمتلكها هو حيث أعطى لكل عضو سلطة رفض طلب استيراد لمادة ما يتقدم بها العراق. أي ان مجلس الأمن أعطى سلطة النقض لكل عضو من الأعضاء الخمسة عشر في قضايا تخص حياة المواطن العراقي اليومية في استيراد حاجاته الأساس دون أن يكون العضو ملزماً باعطاء أي سبب ودون أن يكون لأي طرف حق الاعتراض على ذلك النقض. وأترك للقارئ أن يحكم بما كانت النتيجة حين كان رأي أي واحد من هؤلاء الخمسة عشر شخصاً لا يخضع لسلطة ولا رادع ولا مساءلة! فقد كان كافياً لممثل بريطاينا على سبيل المثال أن يعترض على طلب استيراد أقلام الرصاص بحجة أن “الكرافيت” فيها يمكن أن يستعمل في المفاعل النووي وهكذا منع تصدير اقلام الرصاص!!
لقد ولد أكثر شباب الإنتفاضة في فترة حصار الإبادة ونشأ هؤلاء في ظل الحصار والغزو والإحتلال. وهكذا فإن شباب الإنتفاضة اليوم هم “جيل الحصار والغزو”. وليس سهلاً على المراقب أن يفهم كيف نشأت شخصية هذا الجيل الذي لم يعرف سوى الحرمان والعنف بينما سمحت له ثورة المعلومات الرقيمة، والتي مكنته برغم سلبياتها، أن يطلع على ما يدور في العالم وما يتحقق للآخرين وما يحق له أن يطمح فيه. وهو حال لم يتوفر للأجيال التي سبقته. وهذا ما جعل الكثيرون من العراقيين يفاجؤون بشباب في منتصف العقد الثاني من العمر يصرخون في الشوارع أنهم يريدون وطناً.
لقد كان شباب الحصار يحلمون بحقهم في حياة كريمة. وحيث إنهم لم يكن لهم دور في الغزو والإحتلال فإنهم كانوا يترقبون أن تكون الوعود التي قطعها الغازي ومن معه من الخونة الأجراء قد تحمل جديداً ينقلهم من ذل الحصار الى حياة أفضل. وقد ظلوا يأملون وان كانت قوانين الصهاينة الغزاة قد أوضحت منذ البداية أن هذا الحلم لن يتحقق. فالنظام السياسي الجديد بني على أسس المحاصصة المذهبية والعرقية. وهذه الأسسس خلقت واقعاً لم يقم في أحلك فترات الحكم في العراق الحديث ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أصبح المعيار الوحيد في السلطة هو الإنتماء للحزب الديني الشيعي أو الحزب الديني السني أو الحزب القومي الكردي. وأمام هذا المعيار سقطت كل المعايير. فلم يعد مهماً ما تحمله من كفاءة أو مقدرة في ما يتطلبه الواجب. ولم يعد مهماً مدى الإخلاص في أداء الوظيفة التي يحتلها الشخص. ولم يعد الولاء للوطن موضوعاً له مكانته ما دام الولاء “للقبيلة” المذهبية أو العرقية معلناً وقد اتضح ذلك في انهيار الجيش العراقي أمام القاعدة في الموصل!
ولم يتوقف مشروع الغزاة في هدم العراق على التأسيس لنظام المحاصصة الذي ثبت فشله في لبنان بعد سبعين عاماً، بل إنهم زرعوا بذرة الفساد في فتح شهية المحرومين منذ عقود للمال. فاطلقوا حرية “الرشوة” والتي كانت قد بدأت بشكل ناعم في فترة الحصار. وهكذا نمى الفساد من قبول تدريجي الى وباء عام. وكل من يقبل أن يرشي ويكرر ذلك فإنه يكون مستعداً أن يرتشي هو. وهكذا أصبح جهاز الدولة غارقاً في فساد لا حدود له من موظفين وأمن وقضاة. واي بلد يصبح كذلك فإنه يصبح عسيراً إصلاحه.
وهذا لم يتحقق إلا لأن الغزاة جاؤوا بالفاسدين من شذاذ أهل العراق، وأغلبهم كانوا خارج العراق، ووضعوهم في مواضع الحكم خدماً لهم في أول فترة الغزو والإحتلال ثم ولاة الأمر بعد ذلك. وحيث إن الناس هم على دين ملوكهم، فإن فساد ولاة الأمر أفسد الناس بأسرع مما كان يعتقد. ولو كان ولاة الأمر صالحين لتعسر إفساد الناس حتى إذا كان الغزاة يعدون لذلك.
وانتظر جيل الحصار والغزو سنة وسنتين وعشر ولم يتغير شيء. وانتهى العراق الذي غدا ينتج أكثر من أربعة ملايين برميل نفط يومياً فيه ربع سكانه يكسبون دولارين في اليوم الواحد في وقت تحول فيه عدد من اللصوص الجدد إلى درجة أثرياء الخليج. وانحط التعليم واختفت الخدمات الصحية وهدمت البنى التحتية. ويكفي التذكير بأن العراق، الذي تمكن عام 1991 برغم الحصار وفي فترة أشهر من إعادة تأهيل 80% من توليد وتوزيع الكهرباء الذي دمرته الصهيونية في عدوانها، لم يتمكن بعد ستة عشر عاماً من “الحكم الديموقراطي” وتوفر المال ورعاية الصهيونية أن يصلح أزمة الكهرباء الخانقة في صيف تصل فيه درجة الحرارة الى 60 درجة مئوية!
ولا بد من التذكير هنا في أن الصهيونية الغازية للعراق لم تكن مدينة لأحد بشيء فهي بذلك لم تكن ملزمة أن تأتي بأحد ليخدمها في ادارة البلد، إلا اذا كان ذلك العضروط أجيراً أو خادماً أو عميلاً قديماً لها. لذلك فإن كل من برز في المشروع السياسي أو أعطي منصباً بعد عام 2003 كان صهيونياً سواء أجاء من طهران أم من دمشق أم من لندن أم من باريس أم من واشنطون وتوابعها! ولو شئت لسميتهم بأسمائهم لكني لا أريد أن أكرمهم بذلك. إن سبب ما دفعني للتذكر بهذه الحقيقة هو ان الانتفاضة الصادقة والحية أنتجت طبقة جديدة من الخونة خرجوا على وسائل الإعلام وعاظاً للناس ينتقدون الفساد والسلوك وهم يحسبون أن الناس لا يعرفون أنهم شركاء في الخيانة جاؤوا مع المحتل وخرجوا على شركائهم ليس لسبب وطني أو لشعور بالندم والعار وانما لأنهم لم يحصلوا على ما كانوا يطمعون فيه من غنيمة!
ولعل ما ميز إنتفاضة تشرين أنها خرجت من المحافظات ذات الأغلبية الشيعية حيث ليس متوقعا ان تخرج في شمال العراق الكردي ويمكن فهم سبب عدم خروجها في المحافظات ذات الأغلبية السنية. ولهذا مدلولان أولهما أنها ليست انتفاضة مذهب ضد مذهب مما يقطع الطريق على اتهامها بانها محاولة سنية ضد شيعة العراق فقد يقف في ساحة التحرير في بغداد منتفض من مدينة الثورة أمام جاره في قوات الجيش أو الأمن. وثانيهما ان الظلم والحرمان لا مذهب له والثورة عليهما كذلك لا مذهب لها.
وحيث إن السلطة الحاكمة في العراق هي شيعة في أغلبها فقد ظهرت الإنتفاضة وكانها ضد الفساد الشيعي وحده وهي ليست كذلك لأن الفساد بين السنة والأكراد لا يقل عن ذلك بين الشيعة إلا أن الموقف من الأغلبية هو الذي طغى. وحيث إن الولاء المذهبي لإيران سائد بين الوجوه الشيعية الحاكمة، وان لم تكن كلها في الحقيقة موالية لإيران، فقد بدت الإنتفاضة موجهة لإيران. بل كان طبيعياً أن تكون شعارات المنتفضين ضد إيران.
وهنا لا بد من وقفة متفحصة وموضوعية من أجل استخلاص ما اذا كانت إيران هي التي أوجدت النظام السياسي الفاسد في العراق، أو اذا كانت قد دعمته رغم عدم إيجادها له. واذا لم تكن أياً من الإثنين فما الذي فعلته حيال هذا الوضع.
هذا حديث الحلقة القادمة باذن الله.
عبد الحق العاني
17 كانون الثاني 2020