إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: وقع القوم في صَعودٍ وهَبُوط
ولا تقل: وقع القوم في صُعودٍ وهُبُوط
كتب الكسائي: “وتقول وقع القوم في صَعودٍ وهَبُوطٍ وحَدور، مفتوحات الأوائل. وكذلك: السَّحور، سَحور الصائم، والفَطور أيضاً على مثال: فَعُول. قال الله عز وجل: “سأرهقه صَعُودا”. وكذلك الرَّكوب، قال الله تعالى: “فمنها رَكُوبهم”.
وأضاف المحقق: “انظر في ذلك فصيح ثعلب وفي الإفهام: يقال “بين أيدينا صَعود وهَبوط وحَدود وكذلك السَحور والفَطور والوَلوع، بفتح أوائل الحروف. وفي العلائي: “والصَّعود بفتح الصاد هو الإسم والصُّعود بضمها هو المصدر”.
قل: قد وعَدْتُ فلانً خيراً
ولا تقل: قد أوعَدْتُ فلانً خيراً
كتب الكسائي: “وتقول: قد وعَدْتُ فلانً خيراً، ووعدته شَرَّاً بغير الف. قال الله تعالى: “إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم”.
فاذا لم تُظهر الخير والشر وأردت الوعيد قلت: قد أوعدته.
قال كعب بن زهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح فيها رسول الله (ص):
أُنبئْتُ أنَّ رسولَ الله أوْعَدَني والعفوُ عند رسولِ الله مأمُولُ”
قل: كَسَب فلان مالاً
ولا تقل: كَسِب فلان مالاً
كتب مصطفى جواد: “لأنه من باب “ضرب”، تقول: كَسَبت مالاً أكسَبُه كَسباً وكِسباً ومكسباً، والمصدر الأخير على القياس، ولم يسمع عن العرب “كَسِبَ فلان” بكسر السين. ثم انه ليس من أفعال التغيير والألوان حتى يُسوِّغه القياس فالتغيير مثل “فرح وعطش وعمي وسكر وعرج” والألوان مثل “صفر وزرق وسود” وهو قليل الإستعمال في لغة العرب لأن العرب تفضل الخماسي على الثلاثي تقول: “اصفرّ وازرقَّ واسودَّ” وهلم جرا.”
قل: إذا لَقٌوا أصحابهم
ولا تقل: إذا لَقَوا أصحابهم
وكتب عبد الهادي بوطالب: “تختلف الألسنة في النطق بفعل لقِيَ (بكسر القاف) وفعل الْتقَى (بفتح القاف) في صيغة الجمع بواو المذكر فيقال لَقَوْا والْتَقُوا والصحيح العكس وهو لَقُوا والْتَقَوْا.
فعل لقِي تُقلَب ياؤه مع الواو ويُضَمُّ القاف: وفي القرآن الكريم: “وإذا لقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا”.
أما فعل الْتقَى (بفتح القاف) فلا تتغير فتحته مع واو الجمع فنقول: “الطلبة الْتَقَوْا مع أستاذهم”.
وقد فصَّلت كتبُ النحو القواعدَ الضابطة لاستعمال الفعل المعتلِ آخرُه فلْيرجع إليها من يريد معرفتها.”
قل: انقطع عن الدراسة بتَعِلَّة رُسوبه في الامتحان
ولا تقل: انقطع عن الدراسة بذريعة رُسوبه في الامتحان
وكتب عبد الهادي بوطالب: “وفي اللغة العربية كلمتان للدلالة على حقيقة طبيعة ما ينسب إلى الغير. ويفهم منهما معناهما الدال على التستر وراء الأعذار الواهية لتبرير عمل لا يقبل التبرير.
كأن نقول: “قتل الجيش الإسرائيلي فلسطينيا بذريعة أنه كان يُحضِّر لتفجير”. أو نقول: بتَعِلَّة أنه كان يُحضِّر لتفجير.
والذريعة في اللغة هي سبب يُلجَأ إليه للتملص من المسؤولية. فنقول: “قال إنه إنما سرق بذريعة شدة الحاجة”. وقال: “إن حكم القضاء عليه كان خطأ بذريعة أنه مظلوم”. و”انقطع عن الدراسة بذريعة رُسوبه في الامتحان”.
ولو وضعنا مكان كلمة الذّريعة كلمة “بتعِلَّة” لاستقام الكلام. فالتعِلَّة في اللغة هي الجهْد في البحث عن علةٍ ما لتبرير أمر. وفِعْلُ تَعلَّل بالشيء يعني أن العِلّة أو السبب الذي يُجهد المرء نفسَه لتقديمهما غير مؤكدَيْن أو غير صحيحَيْن: “تعلّل التلميذ بالمرض لتبرير غيابه عن المدرسة.” انتهى
لا بد من التوقف هنا للتعليق عل عبارتين وردتا في ما كتبه بو طالب في هذا الباب مما سبق لنا أن نقلناه في هذا المسلسل. وهما “الغير” و “تبرير”.
فقد نقلنا في الحلقة الحادية عشرة ما كتبه مصطفى جواد ونعيده هنا لأهميته:
قال ابن فارس في مقاييس اللغة: “الباء والراء في المضاعف أربعة اصول: الصدق وحكاية صوت وخلاف البحر ونبت، فأما الصدق فقولهم: صدق فلان وبرَّ وبرَّت يمينه: صدقت، وأبرّها أمضاها على الصدق وتقول برَّ الله حجك وأبرّه وحِجة مبرورة أي قبلت قبول العمل الصادق، ومن ذلك قولهم: يبر ربه أي يعطيه وهو من الصدق، قال:
لا همَّ لولا أن بكراً دونكا يبرّك الناس ويفجرونكا
…. وقولهم للجواد السابق (المبرّ) هو من هذا، لأنه إذا جرى صدق وإذا حمل صدق، قال ابن الأعرابي: سألت اعرابياً هل تعرف الجواد المبر من البطيء المقرف؟ قال: نعم…. وأصل الإبرار ما ذكرناه من القهر والغلبة ومرجعه الضر، قال طرفة:
يكشفون الضر عن ذي ضرهم ويبرون على الأبي المبر
ومن هذا الباب قولهم: “يبر ذا قرابته وأصله الصدق في المحبة، يقال رجل بارّ وبرّ وبررت والدي وبررت في يميني، وأبرّ الرجل ولد أولاداً أبراراً”.
وفي كل ما ذكر ابن فارس لم نر إلا “بر” الثلاثي و “أبرّ ابراراً” الرباعي، وفتشنا الصحاح للجوهري فلم نجد فيه “برّره تبريراً” وذكر الراغب الأصبهاني في غريب القرآن الفعل الثلاثي حسب وقوله تعالى: “لا ينهاكم عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم” وقال “حج مبرور أي مقبول”. ولم يذكر الزمخشري في أساس البلاغة من الأفعال إلا الثلاثي والرباعي “أبرّ ابراراً” وكذلك المطرزي في المغرب والفيومي في المصباح المنير والمبارك بن الأثير في النهاية وإبن مكرم الأنصاري في لسان العرب والفيروزأبادي في القاموس والطريحي في مجمع البحرين وأحمد شدياق في كتابه “سر الليال في القلب والإبدال” ص 136.
وأنا أجيز “برّره يُبرّره تبريراً” لغير ذلك المعنى. أجيزه للبشر. فنقل الفعل الثلاثي اللازم الى الرباعي المضعف العين لإفادة نسبة المفعول الى أصل معنى قياسي عندي. تقول: بخلّه أي نسبه للبخل، وبدّعه أي نسبه الى البدعة، وبرّأه أي نسبه الى البراءة، وجرّمه اي نسبه الى الجرم، وجوّره أي نسبه الى الجور، حمّقه أي نسبه الى الحمق، وخطّأه أي نسبه الى الخطأ، وخوّنه أي نسبه الى الخيانة وخوّره أي نسبه الى الخور، وزكّاه أي نسبه الى الزكاة، وزنّاه أي نسبه الى الزنا، وسفهه أي نسبه الى السفاهة، وصدّقه أي نسبه الى الصدق، وضلّله أي نسبه الى الضلال، وظلّمه أي نسبه الى الظلم، وعدّله أي نسبه الى العدل، وعقّله أي عده عاقلاً وغلّطه اي نسبه الى الغلط، وفجّره أي نسبه الى الفجور وقدّسه أي نسبه الى القدس وكفّره أي نسبه الى الكفر، فهذه واحد وعشرون من الضرب المذكور خطرت ببالي عند ذكري هذا الإشتقاق القياسي وليست العربية خلية من أفعال غيرها جاءت لهذا المعنى العام الخاص بالبشر.
فالصواب أن يقال: أبرّ الشيء يبرّه ابراراً أو سوّغه يُسوِّغه تسويغاً. جاء في مختار الصحاح “وساغ له ما فعل أي جاز وأنا سوغته أي جوزته”.
وفي المصباح المنير “ساغ سوغاً من باب قال: سهل مدخله في الحلق…. ومن هنا قيل: ساغ فعل الشيء بمعنى الإباحة ويتعدى بالتضعيف فيقال: سوّغته أي أبحته”.
أما الخلل في استعمال “الغير” وذلك بادخال “ألـ” على كلمة “غير” فقد أوردناه في الحلقة الحادية والأربعين من هذا المسلسل فمن أراد المزيد أمكنه العودة لتلك الحلقة.
قل: أنت تَكرُم علي
ولا تقل: أنت تُكرَم علي
كتب الحريري: “ويقولون: أنت تُكرَم علي بضم التاء وفتح الراء، والصواب فيه تَكرُم، بفتح التاء وضم الراء لأن فعله الماضي كَرُم ومن أصول العربية أن كل ما جاء من الأفعال الماضية على مثال فَعُل بضم العين كان مضارعه على يفعُل ، نحو حَسُن يَحسُن وظَرُف يَظرُف وإنما ضمت عين المستقبل من هذا النوع ولم يخالف فيه بناء الماضي للمحافظة على المعنى الموضوع على هذا المثال، وذلك ان ضمة العين جعلت دليلا على فعل الطبيعة، فلو كسرت أو فتحت، لذهب ذلك المعنى.”
قل: الحوامل يطلقن والحادثات يطرقن
ولا تقل: الحوامل تطلقن والحادثات تطرقن
كتب الحريري: “يقولون: الحوامل تطلقن والحادثات تطرقن، فيغلطون فيه، لأنه لا يجمع في هذا القبيل بين تاء المضارعة والنون، التي هي ضمير الفاعل، ووجه الكلام أن يلفظ فيه بياء المضارعة المعجمة باثنتين من تحت، كما قال الله تعالى: “تكاد السماوات يتفطرن منه” وعلى هذا يقال: الغواني يمزحن والنوق يسرحن
وفيما يحكى أن مطيع بن إياس ويحيى بن زياد وحماد الراوية كانوا يشربون ذات يوم، ومعهم نديم لهم، فبدرت منه فلتة، فخجل ونهض، ولم يعد إليهم، وغاب أياما عنهم، فكتب إليه مطيع بن إياس:
أمن قلوص غدت لم يؤذها أحد ** إلا تذكرها بالرمل أوطانا
خان العقال لها فانبت إذ نفرت ** وإنما الذنب فيها للذي خانا
أوليتنا منك هجرانا ومقلية ** ولم تزرنا كما قد كنت تغشانا
خفض عليك فما في الناس ذو إبل ** إلا وأينقه يشردن أحيانا”
وقد سبق أن نقلنا ما كتبه بو طالب في هذا الباب وهو هذا:
وكتب عبد الهادي بوطالب: يخطئ من يقول أو يكتب: “النساء تتظاهرن في الشارع” أو “البنات تَتَبرَّجْنَ في الشارع”. والصواب استعمال ياء الغيبة في أول الفعل فنقول يتظاهرن، ويتبرجن، ويتفَوَّقْن على الرجال، لأن التأنيث يوجد في النون المسمى نون النسوة الواقع في آخر الفعل فلا يتكرر التأنيث مرتين. وقد جاء في القرآن الكريم: “والوالدات يُرْضِعْن أولادهن حوْلين كامليْن”.
قل: قصصته بمقصين
ولا تقل: قصصته بمقص
كتب الحريري: ويقولون: قرضته بالمقراض، وقصصته بالمقص، فيوهمون فيه، كما وهم بعض المحدثين حين قال في صفة مزبون بالقيادة، وإن كان قد أبدع في الإجادة :
الق ابن إسحاق تلاقي فتى ليس كمن عنه بمعتاض
إذا حبيب صد عن إلفه تيها وأعيا كل رواض
ألف فيما بين شخصيهما كأنه مسمار مقراض
والصواب أن يقال: مقراضان، ومقصان، وجلمان، لأنهما اثنان. ونظير هذا الوهم قولهم للاثنين: زوج وهو خطأ، لأن الزوج في كلام العرب هو الفرد المزاوج لصاحبه، فأما الاثنان المصطحبان فيقال لهما: زوجان، كما قالوا: عندي زوجان من النعال، أي نعلان، وزوجان من الخفاف، أي خفان، وكذلك يقال للذكر والأنثى من الطير زوجان، كما قال تعالى: “وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى”.
ومما يشهد بأن الزوج يقع على الفرد المزاوج لصاحبه قوله تعالى: “ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين” ثم قال سبحانه في الآية التي تليها: “ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين” فدل التفصيل على أن معنى الزوج الإفراد.
كتب الحريري: ويقولون في تصغير شيء وعين: شوي وعوينة، فيقلبون الياء فيهما واوا، والأفصح أن يقال: شييء وعيينة بإثبات الياء وضم أولهما. وقد جوز كسر أولهما في التصغير من أجل الياء، ليتشاكل الحرف والحركة ومن هذا القبيل قولهم في تصغير ضيعة: ضويعة، وفي تصغير بيت: بوبت، والاختيار فيهما ضييعة وبييت، كما أنشدت للخليل بن أحمد:
إن لم يكن لك جدي أغناك خل وزيت
أو لم يكن ذا ولا ذا فكسرة وبييت
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….