ليس غريبا أن تسخر أداة الإعلام الصهيوني لتعميم ما تريد أن يصدقه الناس في اتهام موسكو في الساعات الأولى من محاولة قتل الجاسوس الروسي الأصل سيرغي سكربال في سالسبوري في 4 آذار 2018 اذ ان التاريخ كما سبق وقلت ليس ما حدث فعلا ولكن ما اعتقد الناس أو صدقوا أنه وقع. فاذا ثابر الإعلام في نشر الإتهام وقبله الناس فسوف يصبح كقصة “المحرقة” حيث لا يهم مدى صحتها ما دام الناس قد صدقوا، بسذاجة، بموت خمسة ملايين يهودي فيها وان كان ذلك أكثر من عدد اليهود الذين كانوا في أوربا في ثلاثينيات القرن الماضي.
ولن أدخل في موضوع محاولة قتل سيرغي وابنته ومن يمكن أن يكون خلفها ولماذا تمت في هذا الوقت حيث إن ذلك له يوم آخر بعد أن ينتهي التحليل الكيميائي الذي يجريه الآن خبراء دوليون.
لكن الذي يجب الحديث عنه هو ما حدث أمام القضاء البريطاني في الأسبوع الماضي والذي يكشف ما يناقض ما قالته الحكومة البريطانية حتى اليوم!
فقد تقدمت الحكومة البريطانية يوم 20 آذار 2018، على وفق القانون، بطلب للمحكمة العليا للسماح لها بأخذ عينات من دم سيرغي وابنته من اجل اعطائها لمنظمة حظر السلاح الكيميائي (المنظمة) للكشف عن نوع السم وللتأكد من أن العينات التي أخذها خبراء مركز “بورتن داون” البريطاني المختص بالسلاح الكيميائي هي حقا من الضحايا. وجاء الطلب أمام قاضي المحكمة العليا ويليامز والذي قرر، بعد موافقة الأطرف المشتركة في الطلب، على سماع الدعوى في جلسة سرية استثناء من قاعدة علنية الدعاوى. ثم اصدر حكمه يوم 22 أذار 2018 بالسماح بأخذ العينات.
فما الذي جرى وما الذي كشف حسب ما سمح القاضي بنشره؟
وأول ما نعرفه أن وزير الداخلية قدم الطلب وشارك فيه المحامي العام ممثلا لكل من سيرغي وابنته بسبب عجز الإثنين عن تمثيل نفسيهما لغيابهما عن الوعي.
وجاء في حكم القاضي ويليامز ثلاثة أمور لا بد من التوقف عندها.
أولها ان القاضي وافق على تمثيل المحامي العام لسيرغي وابنته بسبب غياب المقدرة العقلية لأي منهما في أن يعطي الموافقة. وهذا غير صحيح حيث إن للإثنين أقارب مما يوجب الإتصل بهم. بل أن والدة سيرغي العجوز ما زالت حية وهي أحرص الناس عليه وأعرف بما ينفعه من أي مسؤول بريطاني!
وقد أشار القاضي الى معرفة وزارة الداخلية بهذا لكن وزير الداخلية لم يقرر الإتصال بأي من الأقارب للحصول على الموافقة. ولم يشرح القاضي سبب ذلك بل انه لم يسأل وزير الداخلية عن سبب عدم قيامه بما يوجبه القانون. وحيث إن القانون ينص على انه اذا ما تعذر الحصول على موافقة الضحية أو أحد أقاربه تم اللجوء للمحامي العام. وهكذا تم تعيين المحامي العام لتمثيل مصلحة الإثنين.
وثانيهما هو ان القاضي وافق على الطلب دون اعلام القنصلية الروسية في لندن بالإجراء والسماح لها بابداء الرأي كما تقضي المادتان 36 و 37 من اتفاقية فينا للعلاقات القنصلية لعام 1963 بضرورة اعلام قنصلية دولة المعتدى عليه، وذلك بحجة أن ميثاق فينا ليس جزءا من القانون البريطاني، وهو ادعاء لا اساس له في القانون لأن ميثاق فينا يشكل جزءا من القانون الدولي العام الذي يشمل بريطانيا وكل دول الإتحاد الأوربي.
وثالثهما وهو الأهم والأخطر في كل ما كشف حتى اليوم هو ماجاء في قرار القاضي عن ما قاله ممثل مركز “بورتن داون” للسلاح الكيميائي والذي تولى أمر البحث البريطاني في نوع السم المستعمل وأصله. ذلك أن الخبير الذي أشار له الحكم باسم”سي سي” أعلم المحكمة بما يلي:
“ان نماذج الدم التي أخذت من سيرغي سبركال وابنته كشفت بعد التحليل أنهما تعرضا لعامل عصبي أو مركب كيميائي مشابه. فقد تبين من النماذج المأخوذة وجود عامل عصبي من فصيل Novichok أو من عامل عصبي قريب منه”
فالخبير البريطاني لم يقل للمحكمة بان السم هو Novichok بدون شك. وهذا يعني أن أصحاب الإختصاص ما زالوا غير واثقين من حقيقة السم!
فكيف تمكنت الحكومة البريطانية أن تقنع كل حلفائها بان السم هومن فصيلة Novichok وأن روسيا مسؤولة عنه؟
أم ان الأمر ليس مهما مادام الحلفاء يكتفون بقول السيد الصهيوني كما فعلوا في اسلحة الدمار الشامل في العراق والسلاح الكيمياوي في سورية؟
وقد تكون روسيا خلف العملية وقد لا تكون! فالأمر ما زال تحت البحث وقد تكون المخابرات الروسية خلفه وقد تكون المخابرات الأمريكة أو البريطانية أو الإسرائيلية خلفه ولكل منها مصلحة في تسويد وجه روسيا. فالأمر ما زال موضع شك!
لكن أيعقل، وبوجود هذا الشك، أن الضمير الأوربي يرى أن محاولة قتل اثنين جريمة لا تغتفر مما يقود لتردي علاقات هذا العدد من الدول الأوربية مع روسيا وهو الضمير نفسه الذي لم يطرد دبلوماسيا أمريكيا أو بريطانيا واحدا بعد غزو العراق والجرائم التي لا تحصى في القتل والخراب، والتي حولت العراق من دولة الى سراب !!!
عبد الحق العاني
29 آذار 2018