إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: البطاقة الحيوية
ولا تقل: البطاقة البيومترية
شاع في الإستعمال مؤخراً “البطاقة البيومترية” حيث يناقش اللبنانيون هذه الأيام مَنْ من السياسيين سينتفع بانتجاها للنظام السياسي الفاسد، وكأنها ستصلح ما أفسده الدهر. ودخول هذه العبارة للغة العربية شأنه شأن الغريب الذي نقل بنصه خلال العقود الماضية كلما احتاجت العربية للتعبير عن حاجة أو استعمال جديد ذلك لأن القائمين على شؤون الأمة أميون!
فليس عسيراً أن يدرك المرء ان الحاجة لإستعمال جديد يمكن أن تسد باستعمال أي كلمة أو عبارة عربية ما دام المواطن العربي سوف يتقبلها كلمة جديدة وينشأ على استعمالها. لكن حتى هذه الحقيقة البسيطة صعبت على الأميين!
فمن أين جاءت هذه الكلمة وما يمكن أن يعبر عنها في العربية.
إن الكلمة (biometric) مكونة من كلمتين هما (bio) وهي كلمة يونانية تعني “الحياة” وكلمة (metric) وهي كذلك يونانية الأصل تعني ما له علاقة بالقياس.
ولا بد من التوقف قليلا هنا للنظر في العلاقة بين العربية واليونانية والتي تظهر من حين لآخر مما يوحي بامكانية وجود علاقة أعمق بين اللغتين بسبب الترابط التأريخي والجغرافي بين الفكر اليوناني ونشأته وبين الهلال الخصيب الذي شكل مهداً للحضارة الجديدة في الفكر المدون.
ذلك لأن كلمة “متريكوس” اليونانية تعني ما له علاقة بالقياس كما اسلفت.
أما في العربية فنحن نجد في الصحاح ما كتبه الجوهري في باب (متر): “المتر: المد، وقد مترت الحبل أي مددته”. أما ابن فارس فقد كتب في المقاييس في باب (متر): “امترَّ الحبل: امتدَّ”. فيظهر جليا أن الكلمتين اليونانية والعربية تشتركان في المعنى. كما إن هذا يوحي بان استعمال “المتر” في العربية هو استعمال سليم للقياس المعروف اليوم وليس من سبب لإحتسابه معرباً كما يظن. فما دام العرب قد استعملوا “المتر” بمعنى المد فلا ضير من أن يكون مقياساً للطول.
والاستعمال الإنكليزي/ الفرنسي للصفة (biometric) يراد منها اليوم “جمع أو استعمال الخصائص الفردية الطبيعية للشخص أو أية آثار حيوية يمكن من خلالها تعريف ذلك الشخص”.
ولو أردنا نقل الكلمة للعربية كما ركبت من الكلمتين اليونانيتين لجاءت الترجمة بعبارة “القياس الحيوي”. لكننا ما دمنا بصدد استعمال جديد لحاجة جديدة فلا بأس من اختصار هذه العبارة باستعمال كلمة واحدة وهي “حيوية”. فيكون البديل العربي لكلمة “بيومترية” هو “البطاقة الحيوية”.
وهذه العبارة يفهم منها العربي دون مشقة أنها بطاقة لها علاقة بمؤشرات تخص حياته دون الحاجة أن يلجأ للقاموس ليبحث عن بيومترية هذا اذا افترضنا أنه يعرف كي يتلفظها بأصلها الفرنسي/الإنكليزي.
فقل: بطاقة حيوية
ولا تقل: بطاقة بيومترية
قل: اختصم زيدٌ وعمرو
ولا تقل: اختصم زيدٌ مع عمرو
وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “وتقول اختصم زيد وعمرو واجتمع بشر وخالد وتجادل زيد وعبد الله لاتدخل في شيء من ذلك “مع”. وكذلك لا تقول في هذا النحو الفعل اختصم زيد وعمرو كلاهما ولا تسابق الفارسان كلاهما، وكذلك لا تقول لقيتهما اثنينهما كما تقول ثلاثتهم واربعتهم ونحوه.”
قل: المؤتمرات الآسوية والأشكال البيضية
ولا تقل: المؤتمرات الآسيوية والأشكال البيضوية
كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن “آسية” على وزن فاعلة فهي من الأسماء الناقصة المؤنثة أي المختومة بياء مكسور ما قبلها ومن الرباعية الأحرف فينبغي حذف الياء من أواخرها أو قبلها واو فضلاً عن ياء التأنيث عند النسبة اليه بياء النسبة. فيقال في الثاني والثانية “الثانوي والثانوية” وفي القاضي والقاضية “القاضوي والقاضيّة”.
قل: أمل فيه خيراً
ولا تقل: تعشم فيه خيراً
وكتب اليازجي: “ويقولون له في هذا الأمر عشم أي أمل وقد تعشم فيه خيراً. وإنما العشم في اللغة بمعنى الطمع واستعماله بمعنى الأمل عامي وأما تعشم فمعناه يبس من الهزال وهو من اللفظ المتروك.” انتهى
وكتب الفيروزأبادي في القاموس في باب (العشم): “وعَشِمَ، كفَرِحَ،
عَشَماً وعُشوماً، وتَعَشَّمَ: يَبِسَ….. العَشَمُ والعَشمَةُ، مُحَرَّكَتَيْنِ: الطَّمَعُ.”
أما ابن فارس فقد كتب في المقاييس: ” العين والشين والميم أصلٌ يدلُّ على يُبْسٍ في شَيء وقُحول. من ذلك الخُبْز العاشم: الذي يَبِس.”
وكأن العرب حين أطلقت العشم على الطمع أرادت أن يكون الطامع كاليابس الهزيل.
قل: وجدوا في شعرها صُؤابَة
ولا تقل: وجدوا في شعرها صِئبَانة
كتب الزبيدي: “ويقولون للقملة الصغيرة “صِئبانة” والصواب “صُؤابَة” وجمعها “صُؤاب” ثم تجمع صُؤاب “صِئباناُ”. ويقال صَبِئَت رأسُهُ إذا كثر فيها الصِّئبانُ. وإنما دخل الغلط عليهم لقولهم “صِئبان” فتوهموا أن واحدته “صِئبانة” وظنوه من الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.
وقرأت على أحمد بن سعيد أنشدكم أبو إسحاق إبراهيم بن محمد من أهل شيزَر لبعض الأعراب:
لما رأتْ شَيبَ قَذالي عِيِسا
وحَاجبيَّ أنبَتَا خَلِيِسَا
وَصَلعةٍ كالطَّسْتِ طَرْطَرِيِسَا
لا يجِدُ القملُ بها تَعْرِيِسَا
ولا الصُّؤابان بها تَأسِيِسَا
طَوَتْ وصَالي واصطَفَتْ إبلِيِسَا
وَصَامَت الإثنين والخَمِيِسَا
عِبَادَة كُنتُ لها نِقْرِيِسَا
(القذال: جِمَاعُ مؤخَّر الرّأْس. عيسا: أبيضا. خَلِيسٌ: استوى سواده وبياضه. والنِّقْريس: الداهية الفَطِن.)
قل: توضأ الرجل
ولا تقل: توضا الرجل
كتب المقدسي: “ويقولون: تَوَضَّا، من المِيضاة. وصوابه: توضَّأَ، من المِيضَأَة، بالهمز في الكلمتين.”انتهى
وكتب الجوهري في الصحاح في باب (وضأ): ” الوَضاءةُ: الحُسْنُ والنظافةُ. تقول منه: وَضُؤَ الرجل، أي صار وَضيئاً….. وتَوَضَّأْتُ للصلاة ولا تقل تَوَضَّيْتُ.”
اما الفيروزأبادي فقد كتب في القاموس: ” وتَوَضَّأْتُ للِصَّلاَةِ، وتَوَضَّيْتُ لُغَيَّةٌ أو لُثْغَةٌ”.
أما الميضأة التي ذكرها المقدسي فهي الـموضع الذي يُتَوَضَّأُ فيه.
قل: جرت محاولة دَقْرَطة النظام
ولا تقل: جرت محاولة دَمَقْرَطة النظام
كتب عبد الهادي بو طالب: “أصبح شائعا خطأ دَمَقْرَطة، إذ يقال “دَمَقْرَطة” المؤسسات، والنُّظم. وهي ترجمة حرفية لنظيرة هذه الكلمة في اللغات الأخرى. ولا بأس في ذلك ما دامت كلمة الديمقراطية مستعملة في العربية.
بيد أن دَمَقْرطَة بهذا الميزان لا تدخل في الأوزان العربية. إذ ليس منها وزن فَعَلْلَلَ. والقواعد النحوية تقول : إن مزيد الفعل الرباعي بما يجعل منه خمسة أحرف له وزنان : إما بزيادة التاء في أوله حيث يصبح الرباعي بَعْثَر، أو زَلْزَل مثَلاً خماسيا فنقول : “تَبَعْثَرت الأوراق، وتَزَلْزَلت الأرض والجبال”. وهذا هو وزن تَفَعْلَلَ.
وإما بزيادة حرفين، ولهذا وزنان : زيادة الهمزة والنون : افْرَنْقَع أي تَفرَّق، ووزنه افْعَلْلَلَ ورباعيُّه هو فَرْقَع أي فَرَّق. ووزنه فَعْلَلَ.
أو زيادة الهمزة والتضعيف : “اقْشَعَرَّ”. ووزنه على هذا هو افْعَلَلَّ. وليس للرباعي المزيد بحرفين إلا هذا الوزنان أو الصيغتان.
وبناء على ذلك فميزان فَعَلْلَلَ غريب عن العربية ولم يرِدْ في كلام العرب. فكيف إذن نشتق المصدر من كلمة الديمقراطية ونحافظ على وزنه العربي؟ أجاب النُّحاة على ذلك بوجوب حذف حروف الزيادة من الكلمة. وهي الحروف المضمَّنة في جُملة سألتمونيها. أي السين، والهمزة، والتاء، والميم، والنون، والهاء. وهي التي تُحذف من الكلمة لتبقى موازين الأفعال والمصادر في صيغ الموازين العربية الصحيحة.
وفي استخراج مصدر من كلمة الديمقراطية لا تُحذف إلا الميم، لأنها وحدها في الكلمة من حروف الزوائد. أما الدال، والميم، والقاف، والراء، والطاء، فليست من حروف الزوائد. وتثبت في المصدر والفعل ولا تُحذف فيهما.
وعلى ذلك يكون الصواب هو “دَقْرَطَة”، في المصدر، و”دَقْرَطَ” في الفعل الرباعي ونقول : “الدستور دَقْرَط مؤسسات الحكم”. و”نحن في حاجة إلى دَقْرَطة أكثر للمؤسسات”.
وميزان دَقْرطة (العربي الفصيح) أسهل على النطق من ميزان “دَمَقْرَطة” غير العربي الذي يَثْقل النطقُ به على اللسان لتوالي فتحتين على فاء (أول) الكلمة، وعينها. (ثانيها) (دَمَـ). وكثرة استعمال لفظ “دقرطة” سيزيد نطقه سهولة. وفي الفعل الخماسي نضيف حرف التاء في أول الكلمة، فنقول “تَدَقْرَطَت النظم بكثرة في هذا العصر”. كما نقول : تَدَحْرَجَ وتَزَلْزَلَ وتَعَوْلَمَ، وتَقَوْقَعَ.” انتهى
ولعمري لا أدري لماذا كلف عالم لغة نفسه مشقة الرد على الدخيل والغريب على السمع العربي حتى جاء بلفظ لا يقل غرابة وثقلا على الأذن العربية. لقد كان حرياً به أن يعرب لنا الكلمة. فالعالم يقود الناس ولا يقوده الإعلام الجاهل والأمي.
فهذه الكلمة البائسة ليست فقط ثقيلة على السمع بل هي ثقيلة في مدلولها لأنها لا تعني شيئا حتى في المفهوم السياسي.
قل: بلغك الله ما تؤثره
ولا تقل: بلغك الله المأثور
وكتب الحريري: ويقولون في ضمن أدعيتهم لمن يخاطب أو يكاتب: بلغك الله المأثور، ويعنون به ما يؤثره المدعو له، فيوهمون فيه إذ ليس هو في معنى المؤثر ولا اشتقاق لفظه منه لأن المأثور هو ما يأثره اللسان لا ما يؤثره الإنسان، لاشتقاق لفظه من أثرت الحديث، أي رويته، لا من آثرت الشيء، أي اخترته، وعلى معنى الرواية فسر قوله تعالى: “إن هذا إلا سحر يؤثر”، أي يرويه واحد بعد واحد وينقله مخبر إلى مخبر.
وقد يشتمل الخبر على المفروح به والمحزون منه، فلا يدل معنى المأثور على إخلاص الدعاء لمن دعا له به لتجويز أن تؤثر المذمات والمساءات عنه، اللهم إلا أن يجعل صفة للدعاء المحبوب، فيقال: أولاك الله اللطف المأثور وما أشبه ذلك ، فتصير حينئذ الدعوة دعوتين، والمدعو له بصدد حسنتين.”
قل: ابتُلي فلان بعدو شديد فهو مُبتلى
ولا تقل: ابتَلى فلان بعدو شديد فهو مُبتَلٍ
كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن “ابتلي” فعل متعد بنفسه فالإبتلاء أصله الإختبار ويكون بمعنى الإمتحان أحياناً وكما أن المحنة دلت على الشدة فكذلك البلوى. قال الله تعالى ” فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ” فابتلاه معناه اختبره. وقال تعالى”وإذ ابتلى ابراهيمَ ربه بكلمات”، وقال “وابتلوا اليتامى”. وقال “ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ”. وقال “إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا”. وهو بمعنى اختبر حيناً وامتحن حيناً آخر. وفي نهج البلاغة “نحمده على ما أخذ وأعطى وعلى ما بلا وأبتلى”. قال عبد الحمبد بن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: “وأمّأ قوله: وابتلى فالإبتلاء إنزال مضرة بالإنسان على سبيل الإختبار كالمرض والفقر والمصيبة وقد يكون الإبتلاء بمعنى الإختبار في الخير إلا أنه أكثر ما يستعمل في الشر”.
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….
عبد الحق العاني
السلام عليكم
بارك الله فيكم على هذه المجهودات القيّمة ، و ليتها تجد صدى في أوساط المثقّفين و المتعلّمين …
تحيّاتي و تقديري