مقدمة
كانت ليبيا قبلَ بِضْعِ سنواتٍ دولةً هادئةً نسبيا يأتيها عيشُها رغدا. فجاءتْ الصهيونيةُ العالميةُ فأنشأتْ مَناخاً اعلاميا، وهو كلُّ ما تحتاجُهُ، لشيطنةِ النظامِ لأكثرَ مما تستدعيهِ سياساتُهُ، وألَّبتْ العالمَ على ليبيا. فكان ما كان! حيثُ انتهتْ دولةُ ليبيا وتحولتْ لقبائلَ وزُمرٍ من الشُّذاذِ تفتقدُ كلَّ مُقوماتِ الأمنِ والسلامةِ والخدماتِ مما يحتاجُهُ الإنسانُ للعيشِ قبلَ أن يحتاجَ حُرِّيةَ الكلمةِ المزعومة.
ثُمَّ سكتتْ وسائلُ الإعلامِ عن تغطيةِ ليبيا فلم تَعُدْ تتصدرَ الإخبارَ كما كان برغمِ أن ما يحدثُ فيها اليومَ من ظُلمٍ وخَرابٍ اسوءُ بكثيرٍ مما كان يحدثُ في عهد مُعَمَّرٍ القذافي. ويَكشفُ هذا الصمتُ حقيقةَ أن الهدفَ من غزوِ ليبيا وخرابِها لا عَلاقَةَ له بشعبِ ليبيا وخيرِهِ ومُستقبلِه!
فماذا كان الهدفُ من غزوِ ليبيا إذن؟
أرى هدَفينِ لغزو ليبيا، ليسا منفصلينِ كهدفٍ نهائيِّ ولكنهما قد لا يبدوانِ كذلكَ.
والهدفانِ هُما: أولاً خرابُ وتفتيتُ سورية وثانياً تحجيمُ وإضعافُ المانيا!
ولا بدَّ أن كثيرينَ ممن يقرؤنَ أو يسمعونَ هذا سيسألونَ: ما علاقةُ خرابِ سورية باضعافِ ألمانيا؟
هذا ما سأحاولُ أن أبينَهُ اليوم.
ما الذي تسعى له الصهيونية العالمية
كَتَبَ لي يوماً أحدُ الكُتابِ الفلنديين سائلِاً عن استعمالي لعبارةِ “الصهيونية العالمية”. فأجبتُهُ بان الصهيونيةَ العالميةَ تعني أعلى مَراحلِ الإستكبارِ (الإمبريالية) الرأسمالي، وهذا الإستكبار هو حركةٌ عالميةٌ ليسَ لهُ وطَنٌ ثابتٌ يتخذُ مَوطنا مُتغيراً بتغيرِ الزمانِ ويتحركُ ضِمنَ مَصلحةٍ واحدةٍ هي خِدمةُ راسِ المال. وقد غدت الصهيونيةُ الممثلَ السياسيَّ له منذُ بدايةِ القرنِ العشرين. إن فهم ما أعنيهِ بعبارةِ الصهيونيةِ العالميةِ مُهمٌ للقارئ لأنه سيرى منه كيفَ أبني نظرتي حولَ الهدفِ من غزوِ ليبيا.
فقد أصبحَ التحكمُ بالرأسمالِ العالميِّ هدفاً في حّدِّ ذاتِه. لأنِّ من يتحكمْ بالمالِ يحكمْ العالمِ. وهذه الحقيقةُ قادتْ لنزاعاتٍ أو صراعاتٍ داخلَ المعسكرِ الراسماليِّ للهيمنةِ عليه. فمن هُمُ المتصارعونَ على الهيمنة؟
ولدت الصهيونيةُ كحركةٍ سياسيةٍ في لندن وفيها نشأتْ وفيها ما زالت. أي ان لندن كانت وما زالت عاصمةَ الصهيونيةِ العالمية ففيها تُرسمُ الخِططُ وان كانت تنفذُ أحيانا كثيرةً في واشنطون. وقد اقتنعتْ المؤسسةُ السياسيةُ في لندن أن مصلحتَها متفقةٌ بالكاملِ مع الراسمالِ اليهوديِّ العالميِّ الذي بدوره يتحكمُ بسوقِ المالِ والإقتصادِ الرأسماليِّ بشكلٍ مطلق. وحين أقولُ ذلك فإني لست ألقي الكلامَ على عواهنِهِ أو استند لخبرٍ من هنا أو مقالٍ من هناك، بل أقولُ هذا لأن المصارفَ تحكُمُ الإقتصادَ العالميَّ والمصارفُ هذه تملكها عوائلُ مثل عائلةِ “روتشايلد” وجُلُّها من اصلٍ يهودي. ويكفي دليلا على أنها تحكمُ اقتصادَ العالمِ هو أن نتذكرَ ما حدثَ عامي 2008 و 2009 حينَ انهارَ النظامُ المصرفيِّ الرأسمالي. فالذي حدثَ هو أن حكوماتِ النظامِ الراسماليِّ سارعتْ كايِّ موظفٍ أجيرٍ الى انقاذِ المصارفِ من حسابِ ضرائبِ المواطنِ العاديِّ، فلا هذا المواطنُ البسيطُ سألَ لماذا تُستعملُ ضريبته لإنقاذِ المصارفِ ولا تلك الحكوماتُ تَحَرَّتْ عن الأزمةِ ومن سببها أو من افتعلها ولماذا وكيف! فلماذا لم تحاسبْ الحكوماتُ اصحابَ المصارف ومديريها عن الخللِ الذي قادَ للإنهيار؟ بل إن الأدهى من كل ذلك أن أولئك المديرين نالوا أجورهُم واكرامياتِهم السنويةَ رغم الفشلِ والخيبةِ وتحمل كلَّ ذلك المواطنُ العادي الذي لا دخلُ له بالأزمة.
وقد لا يعرفُ الكثيرونَ أن ما يمثلُ المصرفَ المركزيَّ الأمريكيَّ الذي يتحكم بالدولارِ وهو الذي بدوره يتحكمُ بعُمُلاتِ أكثرِ دولِ العالم، هذا المصرفُ ليس ملكَ الدولةِ في الولاياتِ المتحدةِ بل هو مؤسسةٌ خاصةٌ يمتلكها رأسُ المالِ اليهودي!
إن هيمنةَ المصارفِ على الإقتصادِ العالميِّ قادت لأزَمَاتِ النظامِ الرأسماليِّ التي فجرتْ حربينِ عالميتينِ وتُهددُ بحربِ ثالثة.
فاذا تركنا جانبا اللغوَ الإعلاميَّ والعواطفَ عما حدثَ لليهودِ في المانيا تمكنا أن ندركَ أن الصراعَ بين النازيةِ والراسمالِ اليهوديَّ كان من أجلِ الهيمنةِ على الإقتصادِ الأوربيِّ وبالتالي على الإقتصادِ العالميِّ، واذا كانت النازيةُ قد اتخذتْ موقفاً معادياً من اليهودِ فذلكَ لم يجرِ بمعزلٍ عن موقفِ الرأسمالِ اليهوديِّ من النازيةِ. إذ لم يكن “هتلر” في حقيقةِ الأمرِ معادياً للإنكليزِ كما يُصورُ اليومَ بل كانَ في قرارةِ نفسهِ يعتقدُ ان بالإمكانِ الإتفاقَ مع الإنكليز حولَ تقاسمِ النظامِ الرأسماليِّ. إذ انه كان يَعِدُّ الشيوعيةَ عَدُوّهُ الحقيقيَّ لأنه كان راسمالياً حقيقياً مما جعله يُعاديْ الإشتراكيةَ. ولهذا عَقَدَ اتفاقا مع رئيسِ وزراءِ بريطانيا شامبرلين عام 1938 بعدمِ الإعتداءِ واعتقدَ بموجبِهِ أنه سيتمكنُ من الإنصرافِ لهدمِ الشيوعيةِ بمباركةٍ بريطانيةٍ لقاء تعهدِهِ الضمني لها بعدمِ التعرضِ لمصالحها النفطيةِ في الشرقِ الأوسطِ.
ومرةً أخرى يُظهرُ الإعلامُ الصهيونيُّ مقدرتَهُ على تزييفِ التأريخِ ذلك لأن أغلبَ أهلِ الأرضِ يعتقدونَ بما يقرؤونَ ويشاهدونَ في أن ألمانيا أعلنت الحربَ على بريطانيا وكان على هذه الأخيرةِ أن تَضحيَّ للدفاعِ عن نفسها. إنما حقيقةُ الأمرِ هي أن آخرَ ما كان يفكرُ به هتلر هو أن تطعنَهُ بريطانيا بعد إتفاقِ ميونيخ فتعلنَ عليهِ الحربَ وهكذا فعلت.
لكن هتلر فَشِلَ في تقديرِ قوةِّ الصهيونيةِ في التحكمِ بلندن. وهذا الفشلُ في التقديرِ كان واحداً من عواملِ هزيمتهِ وهزيمةِ المانيا المدمرةِ.
اضعاف المانيا باللاجئين
واليوم عادتْ ألمانيا، كما فعلتْ بعد دمارِ الحربِ العالميةِ الأولى، لتكونَ أقوى اقتصادِ في اوربا من حيثُ الكفاءةِ والكفايةِ والإبداعِ والتطويرِ والإدارةِ. ولم تفعلْ ألمانيا ذلك بجهلٍ سياسيٍّ أو بمعزلٍ عن ادراكٍ عبرَ دروسِ التأريخ. فقد أدركتْ أن صراعَها مع الرأسمالِ اليهوديِّ سوفَ يتفجرُ كلَّ مرةٍ حاولتْ فيه هي اي المانيا أن تتفتحَ عن طاقاتِها الإنتاجيةِ والإبداعية، لذا سعتْ وما زالتْ تسعى لتوطينِ فكرةِ الإتحادِ الأوربيِّ والذي نجحَ في منعِ قيامِ حربٍ مدمرةِ كالحربينِ السابقتينِ اللتين دَمرتا ألمانيا.
ونجحتْ ألمانيا في دعمِ الإتحادِ الأوربيِّ حتى إذا كان ذلك بتضحياتٍ من جانبها لدعمِ اقتصاداتِ أوربية كسلى أو بدائية لمنعِ قيامِ حلفٍ أوربيٍّ يهددُ وجودَها من جديد. وأدركتْ المانيا كما أدركتْ فرنسا عند تأسيسِ الإتحادِ الأوربيِّ أن دخولَ بريطانيا غيرُ مرحبٍ به لأنها أي بريطانيا اسيرةُ الراسمالِ اليهوديِّ والذي يهددُ في أي يومٍ أمنَ ومستقبلَ المانيا. لذلك منعَ الرئيسُ الفرنسيُّ “شالز ديغول” دخولَ بريطانيا للإتحادِ وظلَّ المنعُ قائماً حتى رحلَ ديغول ووصلَ الصهيونيُّ “بومبيدو” للرئاسةِ الفرنسية.
يومَها كان الإقتصادُ البريطانيُّ في أزمةٍ حقيقةٍ ونجحَ رئيسُ الوزراءِ البريطانيِّ “أدورد هيث” بادخالِ بريطانيا للإتحادِ الأوربيِّ وكان يُعرفُ يومها بالسوقِ المشتركة. فحدثَ الإنتعاشُ الإقتصاديُّ البريطانيُّ ليس بمعجزةِ وعبقريةِ الإنكليز وانما بفضلِ الإدارةِ الألمانيةِ للإتحاد.
ولم يغبْ عن الصهيونيةِ حقيقةُ قوةِ الإقتصادِ الألمانيِّ وخطرُ ذلك على هيمنتِها. إلا أن الصهيونيةَ العالميةَ كانت مطمئنةً بشكل ما الى حقيقةِ أن ألمانيا منزوعةُ السلاح وهي تعتمدُ في حاجتها للدفاعِ على بريطانيا والولايات المتحدةِ وكلاهما اسيرُ الصهيونيةِ العالمية، وليس كما يقوله “شومسكي” بأن الصهيونيةَ هي أسيرةُ الإستكبارِ الأمريكي.
لكن الإقتصادَ القويَّ مُخيفٌ. لذا بدأت الصهيونيةُ تفكرُ في سُبلِ تحجيمِ واضعافِ المانيا أولاً والإتحادِ الأوربيِّ بالتبعيةِ ثانياً. والطريقُ الأمثلُ لإضعافِ المانيا هو في إعادةِ تجرِبَةِ سقوطِ روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية حين تَمَّ غزوُها بقبائلِ “الفاندلز” المتخلفينَ الذين دخلوا الأمبراطوريةَ بكثافةٍ عاليةٍ فامتصوا خيرَها دون انتاجٍ وأضعفوها حتى آلت للسقوطِ بتدخل عواملَ أخرى.
فكان قرارُ غزوِ ليبيا.
إن النتيجةَ المباشِرِةِ لغزوِ ليبيا هي ان الغاءَ الدولةِ الليبيةِ يعني أن حدودَها الجنوبيةِ والشَماليةِ أصبحتْ مفتوحةً ومستباحةً. وهكذا جيء بالجياعِ والمتخلفينَ والعاطلينَ من افريقيا وآسيا وأرضِ العربِ وتم دفعهم عن طريقِ موانئْ ليبيا باتجاه أوربا. وهم وإن كانوا لا يَحطونَ في ألمانيا مباشرةً إلا أن أغلبهم سينتهونَ في ألمانيا. وهم قومُ يستهلكونَ ولا ينتجون الا قليلاً، سيشكلونَ عبئاً اقتصاديا واجتماعياً وسياسياً على ألمانيا. يكفيْ أن نتذكرَ أن المانيا استقبلت في العام الماضي وحده اكثر من 800 ألفِ لاجئٍ أفريقي واسيوي! فكم لاجئٍ استقبلتْ بريطانيا؟
خراب سورية
كنتُ قد كتبتُ أكثرَ من مرةٍ عن هدفِ الصهيونيةِ العالميةِ في الهيمنةِ على أرضِ العربِ والذي يتمثلُ في تفتيتِ الدولةِّ القوميةِّ العربيةِ بحلِّ جيوشِها وتحويلِها الى دولِ طوائف. وحدثَ هذا في العراق وليبيا بغزوٍ مباشرٍ للبلدين بعد أن حولوا جيشَ مصرَ لجيشِ تُجارٍ فاسدين!
ولم يُمكنْ غزوُ سوريةَّ لأسبابٍ تتعلقُ بتوازنٍ دُوليٍّ منعَ ذلك. لذا كان اسلوبُ تحريكِ غوغاءِ المسلمين، تحتَ كلِّ مسمياتِها من اخوانٍ أونصرةٍ أو داعشِ أو اي من الحركات الأخرى التي أظْهرتْ حِقداً على الجِنسِ البشريِّ يَخجلُ الحيوانُ المتوحشُ أن يوصفَ به.
وقد تطلبَ قيامُ العمليةِ العسكريةِ ضِدَّ حكومةِ البعثِ في سوريةَّ تموينَ وتسليحَ هذه الغوغاء. ولم تكن هناك مشكلةٌ في توفيرِ المالِ، فالى جانبِ ما وفرهُ الأفرادُ الحاقدونَ على العروبةِ من أعرابِ الجزيرةِ والكويتِ والإماراتِ وقطر فإن أكثرَ حكوماتِ دولِ مجلسِ التعاونِ الخليجيِّ ساهمتْ مباشرةً بدعمِ العمليةِ العسكريةِ!
لكن ما أن حُلتْ مشكلةُ التموينِ حتى بدتْ الحاجةُ لسلاحٍ متطورٍ وبكمياتٍ كبيرة. وحَلتْ ليبيا هذه المشكلةَ. فقد كدسَ معمرُ القذافي سلاحاً يكفي لتسليحِ أكثرَ من جيش. فاذا اسقطَ النظامُ في ليبيا اصبحَ السلاحُ بيدِ المنتصر. وهكذا قامتْ طائراتُ الولاياتِ المتحدةِ وقطر وتركيا بشكلٍ خاصٍ بتحريكِ اسطولٍ جويٍ لنقلِ سلاحِ ليبيا الى تركيا كي يُسلمَ على وفقِ خططٍ معدةٍ للمجموعاتِ الإرهابيةِ في سورية.
وهكذا أصبحَ بيدِ ارهابيِّ سوريةَّ من السلاحِ ما كان سيتعذرُ تزويدُه من شركاتٍ أوربيةٍ أو أمريكيةٍ معروفةٍ دون أن تتعرضَ تلك الشركاتُ للحرجِ أو حتى للمُساءلةِ القانونية. فامتلكَ الإرهابيون في سوريةَّ ولأولِّ مرةٍ في تأريخِ عملِ العصاباتِ المسلحَةِ في العالمِ ليسَ اسلحةً خفيفةً أو متوسطةً بل اسلحةَ جيوشٍ نظاميةٍ من دباباتٍ وسياراتٍ مدرعةٍ وصواريخَ والغامٍ وكثير ٍغيرِها. فاذا ضُمَّ لذلك أجهزةُ الإتصالِ المتطورةِ التي تنتجها الصهيوينةُ فان مُسلحي سوريةَّ اصبحوا يمتلكون أكثرَ مما تمتلكه جيوشُ العديدِ من الدول.
إن جيشَ سوريةَّ لم يفتتْ لكنه أضعفَ لحدٍ اصبحَ فيه لا يُشكل قلقاً للصهيونيةِ وهو وان كان لم ينته كما انتهى جيشُ العراقِ إلا أن في اضعافِه لهذا الحّدِّ تَحققَ جزءٌ مهمٌ من المشروعِ الصهيونيَّ لأرضِ العرب.
ولهذين السببين غُزيتْ ليبيا.
عبد الحق العاني
9 أيلول 2017