نظرة في السياسة الداخلية في انكلترة
تمر انكلترة بشكل خاص وبريطانيا بشكل عام في مرحلة إعادة اصطفاف سياسي لم يسبق أن مرت به منذ عقود بل ربما لأكثر من قرن مما سيكون له أثر كبير على مستقبل البلد وعلاقاته الأوربية بل على المسرح السياسي والعسكري الدولي كله.
وهذا الحديث طويل جداً في جذوره وأسبابه لكني سوف أعرض أمرين يؤشران للمرحلة المقبلة:
وأولهما الإستفتاء حول البقاء في الإتحاد الأوربي أو عدمه،
والثاني ما جاء في خطاب العرش الأخير عند افتتاح دورة البرلمان ما يتعلق بموقف بريطانيا من حقوق الإنسان.
وهما مترابطان ومتعلقان أحدهما بالآخر مما يشكل حالة واحدة يمكن النظر اليها كذلك لمعرفة ما يجري في السياسة البريطانية من تغير جذري لا يعرف أحد ما سيؤول اليه!
لم يكن الرئيس الفرنسي شارل ديغول منحازاً أو متعصباً حين قرر عام 1959 مع المستشار الألماني أديناور أن أوربا الموحدة يجب أن تتم بدون بريطانيا لأن هذه الأخيرة ما أن دخلت مشروع التقارب الأوربي حتى جاءت بالولايات المتحدة فتخرب المشروع.
لذا فقد عمل طيلة سلطته على استبعاد بريطانيا عن التقارب الأوربي السياسي. وحيث إنه كان يعلم أن ذلك لا يتم ما دام حلف الأطلسي قائماً فقد أخرج فرنسا من الحلف لتحجيم الدور الأمريكي بكليته في أوربا.
لكن ما أن رحل ديغول عن المسرح السياسي الفرنسي عام 1969 حتى تتابع الصهاينة على حكم فرنسا وتسابقوا في خدمتها. فأعادوا فرنسا بقوة لحلف شمال الأطلسي وساهموا في مشاريع الغصب والإستكبار الصهيوني في العالم.
ففتحت الباب أمام بريطانيا لتدخل النادي الأوربي الناشط والواعد. فأسرع رئيس وزراء بريطانيا أدوارد هيث الذي ترأس حكومة المحافظين بين عامي 1970 و 1974 بالتفاوض للدخول في السوق الأوربية المشتركة (والدة الإتحاد الأوربي الحالي).
وتم ذلك ودخلت بريطانيا السوق المشتركة 1973.
ورغم انه ليس في الدستور البريطاني إجراء يدعو للإستفتاء على أية قضية لأن سلطة البرلمان مطلقة إلا أن رئيس الوزراء العمالي، هارولد ولسون، أجرى عام 1975 إستفتاء على الدخول في السوق المشتركة فكان له ذلك بموافقة أغلبية تجاوزت الثلثين.
وتعاقبت الحكومات من الحزبين الرئيسين على حكم بريطانيا. ونعم الإقتصاد البريطاني بانتعاش واضح بعد ازمة سبعينيات القرن الماضي. ولا يمكن لأحد أن يحكم اليوم ما إذا كانت بريطانيا ستكون في أفضل حال لو أنها بقيت خارج أوربا مما آلت اليه داخلها. ذلك لأن الإقتصاد ليس علماً يخضع لقوانين واضحة كما هو الحال في العلوم الطبيعية.
ومر العالم منذ 1975 بأحداث كثيرة وانتهى النظام الشيوعي وتوسع الإتحاد الأوربي بضم عدد كبير من الدول من بينها دول ما كان يعرف بأوربا الشرقية ونشأ في بريطانيا شعور، قد لا يكون مسوغاً، بأن أوربا أكثر حاجة لبريطانيا من حاجة هذه الأخيرة لأوربا مما يعني أن من حق بريطانيا أن تنتزع من أوربا إمتيازات جديدة أبعد من مجرد احتفاظها بعملتها المستقلة خارج العملة الأوربية الموحدة.
وقد اعتقد ديفيد كامرون حين وصل لرئاسة الوزراء أن بمقدوره أن ينتزع من أوربا الكثير من الإمتيازات دون أن تتحمل بريطانيا أياً من الإلتزامات والأعباء الناتجة عن أي اتحاد. فلجأ للإبتزار مهدداً أوربا بأنه سوف يلجاً لإستفتاء الشعب حول البقاء في أوربا وعليه فإن على أوربا أن تعطيه ما يمكنه من دعوة شعبه للتصويت على البقاء في الإتحاد الأوربي. وبعد مفاوضات شاقة عاد ليبشر قومه أنه نجح في المفاوضات وحصل على امتيازات جديدة وأن عليهم أن يصوتوا في الإستفتاء للبقاء في الإتحاد.
لكن الإبتزاز سلاح ذو حدين. فقد اكتشف كامرون أنه لم يكن يعرف قوة الجناح داخل حزب المحافظين الحاكم والمعارض لبقاء بريطانيا في الإتحاد. وان سبب سكوت أعضاء هذا الجناح الرافض أثناء مفاوضته كان لقناعتهم أن المفاوضات كانت ستفشل لأن أوربا ما كانت لتعطيهم مطالبهم التعجيزية في الحصول على كل شيء دون تقديم أي تنازل! واصطف مع هذا الجناح المعارض أعضاء حزب استقلال المملكة المتحدة الذي نشأ على أساس عنصري يدعو لتحجيم أي هجرة لبريطانيا.
ثم انحدر النزاع لمستوى متدن في أخلاقياته… فلجأت وزيرة في حكومة كاميرون للكذب وكشف عمدة لندن السابق عن جهالته وتفاهته. ووظف العنصريون قضية الهجرة وضخموها رغم أن بريطانيا لا يصلها معشار ما يصل باقي أوربا من مهاجرين.
ولو ان كامرون كان يتوقع هذا الحال لما دعا للإستفتاء. لكن هذا حال الأغبياء والمغامرين. وحين واجهته حقيقة وقوة الخلاف داخل حكومته فإنه سمح لأعضاء حكومته أن يصوتوا ويدعوا الآخرين للتصويت كما يشاؤون… وهذه حالة نادرة في تأريخ السياسة البريطانية إذ ان القاعدة هي أن الحكومة متحدة ومسؤولة مجتمعة عن سياساتها لا أن يكون لها أكثر من موقف سياسي من قضية خطيرة كهذه.
ولا يعرف أحد كيف سيصوت البريطانيون في استفتاء لا يعرف أحد فيه حقيقة ما ستؤول اليه بريطانيا إذا تركت الإتحاد حيث يدور الحديث حول أمور تحرك الغرائز لا العقل. لكن أيا كانت النتيجة فإن أكبر إعاة اصطفاف سياسي سوف تتبع التصويت.
فإذا فاز كامرون بالحصول على تصويت بالبقاء فإن عدداً من أبرز أعضاء حزبه ومنهم وزراء في الخط الأمامي سيستقيلون أو يخرجون من الحزب بالكامل. أما إذا خسر كامرون الإستفتاء وصوت البريطانيون للخروج من الإتحاد فإن كامرون سوف يستقيل من رئاسة الوزراء ومن الحزب وسوف يخرج معه عدد كبير من أنصاره. وهذا يعني أن حزب المحافظين سوف ينقسم فعلياً لحزبين محافظ معتدل ومحافظ متطرف وسيكون الحزب بعد الإستفتاء حزب الجناح الفائز فيه. وهذا ولا شك قد يكون أكبر انقسام عرفه الحزب في تأريخه.
وسوف ينعكس هذا على الإنتخابات المقبلة خصوصاً وإن جيرمي كوربن زعيم حزب العمال الذي فاز بزعامة الحزب بتصويت أعضاء الحزب، رغم رفض أعضاء مجلس العموم العماليين لزعامته، كوربن سوف يجد صعوبة جدا في جمع الدعم الذي يحتاجه للظهور بمظهر الزعيم القادر على الفوز بالإنتخابات ورئاسة الوزارة المقبلة…
فكيف ستكون عليه السياسة البريطانية في حالة كهذه؟
أما المؤشر الثاني للتغير السياسي المقبل في بريطاينا فقد جاء في خطاب الملكة حين أعلنت أن من التشريعات العام القادم سيكون قانون لائحة الحقوق. وأهمية هذا التشريع المقترح هو أنه سوف يغير قانون حقوق الإنسان الذي عرفه الناس في بريطانيا في العقود الماضية.
وهذا متعلق بعض الشيء بهدف عدد من الساسة المحافظين للتخلص من الضمانات التي منحتها العلاقة مع أوربا للمواطن في بريطانيا. لكنه يجري بمعزل عن نتيجة الإستفتاء ويمكن أن يتحقق أيا كانت نتيجة ذلك الإستفتاء، وذلك لأن حقوق الإنسان في بريطانيا تمتد جذورها حتى قبل ولادة السوق المشتركة. فقد وقعت بريطانيا على ميثاق حقوق الإنسان الأوربي عام 1951 وأصبح يحق للمواطن البريطاني أن يلجأ لمحكمة حقوق الإنسان الأوربية بعد أن يستنفد كل إجراءات التقاضي أمام المحاكم البريطانية. واستمر هذا الحال حتى شرع قانون حقوق الإنسان لعام 1998 حين أصبح بمقدور المواطن الطلب في كل قضية إخضاعها لقانون حقوق الإنسان وهو إجراء يلزم المحكمة إعطاء الأولوية لهذا الإعتبار قبل غيره.
وقد شكل هذا التطور مشكلة حقيقية للمؤسسة السياسية الحاكمة ذلك لأن المؤسسة تعودت أن تفعل ما تشاء دون تدخل من القضاء حتى أن القاعدة القانونية تقول إن قضايا سياسة الدولة ليست من اختصاص القضاء وأن رأي المدعي العام ليس عرضة حتى للمراجعة القضائية. لكن محكمة حقوق الإنسان الأوربية غيرت ذلك كثيرا فجاءت بأحكام أغضبت المؤسسة الحاكمة فارتفعت الأصوات مطالبة بتحديد سلطة هذه المحكمة ولا يمكن عمل هذا إلا عن طريق تغيير قانون حقوق الإنسان الذي يجيز ربط أية قضية بالقانون واللجوء للمحكمة الأوربية أو إعتماد أحكامها سوابق ملزمة للمحاكم البريطانية. لذا فإن المتوقع هو أن تقوم الحكومة البريطانية بتشريع قانون جديد يدعي حماية الحقوق المدنية وتلغي قانون حقوق الإنسان القائم وتخرج المواطن في بريطانيا من حماية محكمة حقوق الإنسان الأوربية.
وحين يحدث هذا فإن حياة المواطن العادي سوف تتغير حيث تعود المؤسسة الحاكمة لتفعل ما تشاء. أما الوافدون إلى بريطانيا فسوف يكونون تحت رحمة طغيان المؤسسة الحاكمة…
وماذا سيفعل الاتحاد الأوربي إثر ذلك إذا فعلته بريطانيا وهي داخل الإتحاد؟
هذه مؤشرات لما سيحدث في بريطانيا في السنوات القليلة القادمة.
وليس العرب بعيدين عن نتائج ما سيؤول اليه إعادة الأصطفاف السياسي في بريطانيا لأن أي تغير جوهري في تركيبة الحزبين الحاكمين الرئيسين سوف ينعكس على سياسة بريطانيا فيما يتعلق بالعالم العربي. فإذا صعد رصيد العنصريين الإنكليز المتمثل في حزب استقلال المملكة المتحدة فإنه قد يزيد من التفرقة ضد العرب في بريطانيا لكنه سوف يضعف الهيمنة الصهيونية على المؤسسة الحاكمة في لندن.
كما ان احتمال تمكن جيرمي كوربن من حزب العمال وابعاد عصابة توني بلير الصهيونية سوف يقلل من تمكنها تسخير القوة العسكرية البريطانية لخدمة مشاريعها كما فعلت في غزو العراق وحل جيشه وهدم مؤسساته.
لكن هذا حديث له وقت آخر.
عبد الحق العاني
28 أيار 2016
ماذا بعد الاستفتاء؟
البرلمان غير ملزم بالعمل به قانونيا
فهل من الممكن تجاهل نتيجة الاستفتاء
رغم ان الإستفتاء ليس أجراءً معروفاً في الدستور البريطاني لكن مجلس العموم شرع قانونا لإجراء استفتاء حول البقاء في الإتحاد الأوربي. فكيف سيكون بامكانه تجاهل نتيجة قانون شرعه هو؟ إن من الصحيح القول بأن مجلس العموم قادر على تجاوز أي شيء لأنه السلطة العليا لكن عليه أن يشرع قانونا يلغي بموجبه نتيجة الإستفتاء وهو ما أشك أنه سيفعله!