إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)
قل: بُهِتَ الرجلُ يبهَتُ فهو مَبهُوت
ولا تقل: بَهَتَ الرجل يبهَتَ
ونأخذ مما كتب ثعلب في باب “فُعِلَ” بضم الفاء ما يلي: “عُنِيتُ بحاجتك بضم أوله أعنى بها، وقد أُولِعْتُ بالشيء أولَعُ به، وقد شُغِلْتُ عنك فأنا مشغول، وقد شُهِرَ بين الناس، وقد ذُعِرَ فهو مذعور، وقد طُلَّ دمُهُ فهو مطلول، وقد غُبِنَ الرجل في البيع غَبْناً، وقد هُزِلً الرجل يهزل، وقد نُكِبَ الرجل فهو منكوب إذا أصابته نكبة، وقد رُهِصَت الدابة فهي مرهوصة ورهيص، وقد عُقِمَت المرأة إذا لم تحمل فهي عقيم، وأغْميَ على المريض فهو مغمىً عليه، وقد رُكِضَت الدابة فهي مركوضة وركيض، وقد شُدِهْتُ عنك وأنا مشدوهٌ أي شُغِلْت، وقد بُرَّ حجُّكَ فهو مبرور.” إنتهى
وقال عز وجل في تحدي إبراهيم (ص) لعدو الله: “قال ابراهيم فان الله ياتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فَبُهِتَ الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين”.
قل: أقبلت الفرسُ تُركَضُ
ولا تقل: أقبلت الفرسُ تَركُضُ
كتب الحريري: “ويقولون: رَكض الفرس بفتح الراء وقد أقبلت الفرس تَركض بفتح التاء، والصواب أن يقال: رُكض بضم الراء، وأقبلت تُركض بضم التاء، وأصل الركض في اللغة تحريك القوائم، ومنه قوله تعالى: “اركض برجلك” ولهذا قيل للجنين، إذا اضطرب حياً في بطن أمه: قد ارتكض.
ومن أبيات المعاني المشكلة:
قد سبق الجياد وهو رابض وكيف لا يسبق وهو راكض
والمراد به أن أمه سبقت الجياد حين أجريت وهي حامل به، وأضاف السبق إليه لاتصاله بأمه، وأشار بركضه إلى تحريك قوائمه في مربضه ومقره، وقد توهم بعضهم أن الركض لا يستعمل إلا في الخيل، وليس كذلك، بل يقال: ركض البعير برجل، إذا رمح، وركض الطائر، إذا حرك جناحيه، ثم ردهما على جسده في الطيران، كما قال سلامة ابن جندل:
أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب أودى وذلك شأن غير مطلوب
ولى حثيثا وهذا الشيب يطلبه لو كان يدركه ركض اليعاقيب
يعني باليعاقيب ذكر الحجل، وهو جمع يعقوب. ويروى: ركض اليعاقيب بالضم والفتح، فمن رفعه جعله فاعل يدرك، وأراد به أن هذا الطائر على سرعة طيرانه لا يدرك الشباب إذا ولى فكيف يدركه غيره، ومن رواه بالنصب نصبه بفعل مضمر تقديره ولى يركض ركض اليعاقيب، وجعله من صلة صفة الشباب، وجعل فاعل يدركه ضمير الشيب المستتر فيه، ويصير في البيت تقديم وتأخير، تصحيحه ولى الشباب حثيثا يركض ركض اليعاقيب، هذا الشيب يطلبه لو كان يدركه.
وللعامة وبعض الخاصة عدة أوهام في إسناد الفعل إلى من فعل به، يماثل وهمهم في قولهم: ركضت الفرس، وقولهم: قد حَلَبتْ ناقته كثيراً، ولم تَحلبْ شاته إلا لبناً يسيراً، فيسندون الحلب إلى المحلوبة، وهو موقع بها. ووجه القول: كم حَلَبتَ ناقتك، وكم تحلب حلوبتك وما أشبه ذلك.” إنتهى
وكتب صاحب القاموس: “رَكَضَ الدابةَ يَرْكُضُها رَكْضاً: ضرَب جَنْبَيْها برجله……. وفلان يَرْكُضُ دابّتَه: وهو ضَرْبُه مَرْكَلَيْها برِجْليْه، فلما كثر هذا على أَلسنتِهِم استعملوه في الدوابِّ فقالوا: هي تَرْكُضُ، كأَنّ الرَّكْضَ منها.” وكتب الجوهري في الصحاح: “ومنه قوله تعالى: “ارْكُضْ بِرِجْلِكَ”. الفرسَ برِجلي، إذا اسْتَحْثَثْتَهُ ليعدو، ثم كَثُرَ حتَّى قيل: رَكَضَ الفرسُ، إذا عدا…… وليس بالأصل، والصوابُ رُكِضَ الفرسُ على ما لم يسمَّ فاعله، فهو مَرْكوضٌ.”
قل: هذا يكفي في البيان وهو كاف في البيان
ولا تقل: هذا يكفي للبيان وهو كاف للبيان
كتب مصطفى جواد: “لأن التقدير هو “هذا يكفي الحاجة أو المراد أو الغاية في البيان” فالمفعول محذوف مقدر وليس المراد بالتعبير هذا أن الشيء يكفي البيان أي يغني عنه كقوله تعالى “وكفى الله المؤمنين القتال”. تقول “هذا السلاح كاف في القتال” ولا تقول “هذا السلاح كاف للقتال”. لما ذكرت لك من المعنى “هذا السلاح مغن عن القتال” قياساً على الآية الكريمة وهو ضد المراد وعكس المقصود بالتعبير.”
قل: يَنْضُبُ ماء البئر في الصيف
ولا تقل: يَنْضَبُ ماء البئر في الصيف
ونأخذ مما جاء في كتاب فائت صحيح ثعلب في “باب فَعَلَ يَفعُلُ” ما يلي: “نَضَبَ الماءُ يَنْضُبُ، ونَصَلَ الخِضَابُ يِنْصُلُ، وغَفَلتُ أغْفُلُ، ورَغَمَ اللهُ أنفَهُ يَرْغُمُ، وجَمَدَ الماء يَجْمُدُ، وذَبَلَ العودُ يَذْبُلُ، وخَثَرَ الشيء يَخْثُرُ، وضَمَرَ جسمهُ يَضمُرُ، وسَعَلَ الرجل يَسْعُلُ، وكمنَ يَكْمُنُ، وطَعَنَ يَطعُنُ، ولمسْتُ الشيء ألمُسُه، وجَسَرْتُ على الشيء أجْسُرُ، وطَمَثَت المرأة تَطْمُثُ، وكَعَبَت الجارية تَكْعُبُ، وسَبَغَ الثوبُ يَسْبُغُ، وشَدَّ الرباط يَشُدُّه.”
قل: والله لأفْعَلَنَّ
ولا تقل: والله أفْعَلُ
وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “وتقول واللهِ أفْعَلُ إذا أردت النفيَ لا أن “لا أفعل”، فإن أردت الإيجابَ قلت: والله لأفْعَلَنَّ أو إني لفاعلٌ، ولا يجوز سوى ذلك.”
قل: عرض له كذا فدهش وذهل
ولا تقل: عرض له كذا فاندهش وانذهل
وكتب اليازجي:”ويقولون عرض له كذا فاندهش وانذهل لم يحك مثال انفعل هذين الحرفين وإنما يقال دهش من باب تعب وذهل من باب منع وهي اللغة الفصحى”.إنتهى
قل: دَهِش فلان يَدهَش دَهَشاً واعتراه دَهَش
ولا تقل: دَهِش دَهشة واعترته دَهشة بهذا المعنى
وكتب مصطفى جواد: “وذلك لأن مصدر الفعل “دهش” وهو الدهش وهو قياسي وسماعي مثل فَرِح فَرَحاً وغَضِب غَضَباً ومَرِض مَرَضاً وفَرِق فَرَقاً وعَدِم عَدَماً وما لا يحصى لكثرته. قال مؤلف اللسان ناقلاً: “ودهِشَ الرجلُ، بالكسر، دَهَشاً: تحيّر. ويقال: دُهِشَ وشُدِهَ، فهو دَهِشٌ ومَشْدُوه شَدْهاً. قال: واللغةُ العالية دَهِشَ على فَعِلَ، وهو الدَّهَش، بفتح الهاء.والدَّهَشُ مثلُ الخَرَقِ والبَعَل ونحوه…. الدَّهَشُ: ذهابُ العقل من الذَّهَلِ والوَلَهِ وقيل من الفزع ونحوه، دَهِشَ دهَشاً، فهو دَهِشٌ، ودُهِشَ، فهو مَدْهوش، وكَرِهَها بعضهم، وأَدْهَشَه اللَّه وأَدْهَشَه الأَمرُ.”
ويجوز استعمال “الدَّهشة” مصدراً للمرة الواحدة كقولك “ما هذه أول دَهشة أدهشها” ويجوز استعمال “الدِّهشة” بكسر الدال مصدراً للهيأة كقولك “دَهِش دِهشة هائلة”، وكلاهما من المصادر القياسية.”
قل: اشتريتُ سِكِّيناً من السَّكّان
ولا تقل: اشتريتُ سِكِّيناً من السَّكّاك
كتب الزبيدي: “ويقولون لبائع السكاكين “سَكَّاك” والصواب “سَكَّان”، يقال: ذَهبت الى السَّكّانين. فأمَا “السَّكّاك” فبائع السِّكّكِ التي تُفْلَحُ بها الأرضون.” إنتهى
وكتب الفيروزأبادي في القاموس: “والسِّكِّينُ: م، كالسِكِّينةِ، ويُؤَنَّثُ، وصانِعُها: سَكَّانٌ وسَكاكينِيٌّ.”
قل: هُوَ ذو نَفْعٍ و ضَرٍّ
ولا تقل: هُوَ ذو نَفْعٍ و ضُرٍّ
كتب الزبيدي: “ويقولون هو ذو نفعٍ و ضُرٍّ فيضمون (الضاد)، والصواب “ضَرٍّ” بالفتح، فيقال: ضَرَّه يَضُرُّهُ ضَرَّاً وضَاره يَضيرَهُ ضَيْراً. ويقال: لا ضَرَراً عليك ولا ضِرَاراً ولا ضَارُورة عليك ولا ضَيْر.
أمَا “الضُّرُّ” بالضم فهو السَّقمُ، قال الله عز وجل “وإن يمسسك الله بضُرّ فلا كاشف له إلا هو”.
قل: لا تُضارُون في رؤيته
ولا تقل: لا تُضارُّون في رؤيته
وكتب البستي: “قولُهُ، صلّى الله عليه وسلّم: “لا تُضارُونَ في رُؤيتِهِ”. يُروَى بالتخفيف، أي لا يصيبكم ضَيْرٌ، وتُضارُّون، مشدَّد، من الضِّرارِ، أي لا يُضارّ بعضُكم بعضاً بأنْ تتنازعوا فتختلفوا فيه فيقع بينكم الضِّرارُ. ومثلُهُ: “تُضَامُونَ في رُؤْيتِهِ، وتُضامُّونَ”. الأُولى خفيفة، من الضَّيْمِ. والأخرى مشدّدة، مِن التّضامِّ والتداخُلِ.”
قل: هي أرضٌ بَوْرٌ
ولا تقل: هي أرضٌ بُوُرٌ
وكتب المقدسي: “ويقولون: أَرْضٌ بُورٌ، للتي لم تُزْرَعْ. وصوابُهُ: بَوْرٌ، بفتحِ الباءِ. وجَمْعُ بَوْرٍ: بُورٌ.” إنتهى
وكتب ابن فارس في المقاييس: ” الباء والواو والراء أصلان: أحدهما هَلاك الشّيء وما يشبِهُه من تعطُّلِهِ وخُلُوِّه. والآخَر ابتلاءُ الشّيء وامتحانُه. فأمّا الأوّل فقال الخليل: البَوَار الهلاك…… ومنه دَارَ البَوَارِ [إبراهيم 28]، وأرضٌ بَوَارٌ ليس فيها زَرع. قال أبو زياد: البَور من الأرض الَمَوَتان، التي لا تصلح أن تُستَخْرَج.”
وكتب صاحب اللسان: “وبارَهُ بَوْراً وابْتَارَهُ، كلاهما: اختبره……….. وفي الحديث أَن داود سأَل سليمان، عليهما السلام، وهو يَبْتَارُ عِلْمَهُ أَي يختبره ويمتحنه؛ ومنه الحديث: كُنَّا نَبُورُ أَوْلادَنا بحب عَليٍّ، عليه السلام.
وفي حديث علقمة الثقفيّ: حتى والله ما نحسب إلاّ أَن ذلك شيء يُبْتارُ به إِسلامنا.”
قل: هذا بَابٌ يَعْسُرُ سَدُّهُ
ولا تقل: هذه بَابٌ يَعْسُرُ سَدُّهُا
وكتب عبد الهادي بوطالب: “يستعمل البعض خطأ لفظ الباب على أنه مؤنث. والأصح تذكيره. فنقول: “وصل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي إلى الباب المسدود. لا المسدودة” وفي القرآن: “ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه” ولم يقل دخلتموها. ويقال: “هذا بَابٌ يَعْسُرُ سَدُّهُ” ويقال في لغة السياسة والاقتصاد: “سياسة الباب المفتوح” كما كان يطلق على القصر العثماني باستنبول اسم (الباب العالي).”
قل: فعلته لحيازة الأجر
ولا تقل: فعلته لإحازة الأجر
وكتب الحريري: “ويقولون: فعلته لإحازة الأجر، والصواب أن يقال: لحيازة الأجر، بدليل أن الفعل المشتق منه حاز، ولو كانت الهمزة أصلاً في المصدر لالتحقت بالفعل المشتق منه، كما تلتحق بأراد المشتق من الإرادة، بأصاب المتفرع من الإصابة. فلما قيل في الفعل: حاز، علم أن مصدره الحيازة مثل خاط الثوب خياطة وصاغ الخاتم صياغة وحاد عن الحرب حيادة. وحكى الأصمعي قال: سألت بعض الأعراب عن ناقته فأنشد:
كانت تقيد حيث تنزل منزلا ** فاليوم صار لها الكلال قيودا
لن تستطيع عن القضاء حيادة ** وعن المنية أن تصيب محيدا
القوم كالعيدان يفضل بعضهم ** بعضا كذاك يفوق عود عودا
فأما قولهم في المثل: أساء سمعاً فأساء جابة، فالجابة هاهنا هي الاسم، والمصدر الإجابة، وهذا المثل يضرب لمن يخطئ سمعاً فيسيء الإجابة، وأصله أنه كان لسهيل بن عمرو ابن مضعوف، فرآه إنسان ماراً فقال له: أين أمك يريد أين قصدك فظن أنه يسأله عن أمه، فقال: ذهبت تطحن، فقال: أساء سمعاً فأساء جابة. ونظير الجابة في كلامهم الطاقة والطاعة والغارة، ومصادر أفعالها الإطاقة والإطاعة والإغارة.”
قل: هو ذو قرابتي
ولا تقل: هو قرابتي
وكتب الحريري: “ويقولون: هو قرابتي، والصواب: أن يقال: ذو قرابتي كما قال الشاعر:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ** وذو قرابته في الحي مسرور
وأورد ابو بكر محمد بن القاسم الأنباري هذا البيت في مساق حكاية هي من طرف الأعاجيب وعبر التجاريب فروى بإسناده إلى هشام بن الكلبي قال: عاش عبيد بن شرية الجرهمي ثلاثمائة سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، ودخل على معاوية بالشأم وهو خليفة، فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت، فقال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتاً لهم، فلما انتهيت إليهم، اغرورقت عيناي بالدموع، فتمثلت بقول الشاعر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور ** فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد ** حتى جرت لك أطلاقا محاضير
فلست تدري وما تدري، أعاجلها ** أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيرا وارضين به ** فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ** إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ** وذو قرابته في الحي مسرور
قال: فقال لي رجل: أتعرف من يقول هذا الشعر قلت: لا، قال: إن قائله هذا الذي دفناه الساعة وأنت الغريب الذي يبكي عليه ولست تعرفه وهذا الذي خرج من قبره هو أمس الناس رحماً به، وأسرهم بموته. فقال له معاوية: لقد رأيت عجباً، فمن الميت قال: عثير بن لبيد العذري، وقيل: عثمان بن لبيد العذري، وفي كتاب المعمرين أن الميت حريث بن جبلة.”
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….
عبد الحق العاني
15 آذار 2016