إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)
قل: هو يفعل ذلك آونة ويفعله بين أوان وآخر
ولا تقل: هو يفعل ذلك بين آونة وأخرى
كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن “الآونة” جمع أوان والأوان هو الوقت والحين وبعض الزمان فجمع الأوان على آونة قريب من جمع زمان على أزمنة ودواء على أدوية وسماء على أسمية وشراب على أشربة وقباء على أقبية وطعام على أطعمة وما يطول تعداده. والسبب في ورود هذا الجمع على افعلة وجود حرف العلة ثالثاً في الإسم الرباعي فلا فرق بين الألف كمثال وأمثلة، والياء كرغيف وأرغفة، والواو كعمود وأعمدة. ولا فرق بين المفتوح الأول كطعام وأطعمة والمكسورة كنظام وأنظمة والمضمومة كفؤاد وأفئدة. فإذا قلنا: هو يفعل ذلك آونة وكانت الآونة جمع أوان كان معنى الجملة: هو يفعل ذلك أحياناً ومثله قولنا: هو يفعل ذلك بين أوان وآخر. أما قولهم “هو يفعل ذلك بين آونة وأخرى” فتفسيره: هو يفعل ذلك بين أحيان وأخرى وفي العبارة اضطراب وإخلال بمنطق التأليف، فلا حاجة الى الجمع مع أن المراد هو الإفراد.”
قل: قَدِمَ جَميعُ الحاج
ولا تقل: قَدِمَ سَائْرُ الحاج
كتب الزبيدي: ” يقولون قدم سائِرَ الحاج واستوفى سائِرَ الخراج فيستعملون “سائِراً” بمعنى الجميع. وهي في كلام العرب بمعنى “الباقي”. ومنه قيل لما يبقى في الإناء “سؤر”. والدليل عليه قول النبي (ص) لغيلان حين أسلم وعنده عشر نسوة “اختر أربعاً منهن وفارق سائرِهن” أي من بقي بعد الأربع اللاتي تختارهن.
ومنع بعضهم من استعماله بمعنى الباقي الأقل. والصحيح استعماله فيما كثر أو قل، لأن الحديث “إذا شربتم فاسْئِروا”، أي ابقوا في الإناء بقية ماء، وأنشد سيبويه:
تَرَى الثَّور فيها مُدْخِلَ الظِّلِّ رأسَه وسائِرُه بادٍ الى الشمس أجْمَعُ”
وكتب الحنفي: “ذكر الجوهري لفظ “السائر” في سير بمعنى الجميع بعد ذكره في “سأر” معنى الباقي. ولهج الناس بتخطئته، منهم: الحريري والزبيدي، وابن هشام حيث قال: لا أعلم أحداً من أئمة اللغة ذكر أنّها بمعنى الجميع إلاّ صاحب الصحاح، وهو وَهْمٌ. ونقل المولى حسن الحلبي روَّح الله روحه عن بعض أئمة اللغة في “حاشية التلويح” أنّه بمعنى الجميع، ثم قال: والحقّ أنّ كِلا المعنيين ثابتٌ لغةً. وفي القاموس: والسائرُ الباقي لا الجميعُ كما تَوَهّمَ جماعاتٌ، أو قد يُسْتَعْمَلُ له، ومنه قولُ الأحوص:
فَجَلَتْها لنا لُبابَةُ لمّا وَقَذَ النومُ سائِرَ الحُرَّاسِ”
قل: يامن ياهذا وشائم
ولا تقل: تيامن ياهذا وتشاءم
وكتب الحريري: “ويقولون لمن أخذ يمينا في سعيه: قد تيامن ولمن أخذ شمالا: قد تشاءم، والصواب أن يقال فيهما: يامن وشاءم، وأن يقال للمسترشد: يامن يا هذا وشائم، أي خذ يمينا وشمالا، فأما معنى تيامن وتشاءم فأن يأخذ نحو اليمن والشأم، فإذا أتاهما قيل: أيمن وأشأم، كما يقال: أنجد وأتهم، إذا أتى نجدا وتهامة، وقد يقال في معنى آخر: تيمن الرجل إذا توسد يمينه.
ويكنى به أيضا عمن مات لأنه إذا مات أضجع على يمينه، ومنه ما أنشده
ثعلب في معانيه:
إذا المرء علبى ثم أصبح جلده ** كرحض غسيل فالتيمن أروح
ومعنى علبى تشنجت علباؤه. وهي العصبة في العنق، وأراد هذا الشاعر أنه إذا انتهى في الهرم إلى هذا الحد فالموت أروح له.”
قل: هو رجل مشؤوم
ولا تقل: هو رجل مشوم
وكتب الحريري: “ويقولون: هو مشوم، والصواب أن يقال: مشؤوم بالهمز، وقد شئم إذا صار مشؤوماً، وشأم أصحابه إذا مسهم شؤم من قبله، كما يقال في نقيضه يمن، إذا صار ميمونا، ويمن أصحابه إذا أصابهم يمنه.
واشتقاق الشؤم من الشأمة وهي الشمال، وذاك أن العرب تنسب الخير إلى اليمين والشر إلى الشمال، ولهذا تختار أن تعطي بيمينها وتمنع بشمالها، وعليه فسر قوله تعالى: “إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين”، أي تصدوننا عن فعل الخير وتحولون بيننا وبينه.
ومن كلام العرب فلان عندي باليمين، أي بالمنزلة الحسنة، وفلان عندي بالشمال أي بالمنزلة الدنية. وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله:
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ** فأفرح أم صيرتني في شمالك
وقيل: أراد به: أجعلتني مقدماً عندك أم مؤخراً، لأن عادة العرب في العدد أن تبدأ باليمين، فإذا أكملت عدة الخمسة وثنت عليها الخمس من اليمين نقلت العدد إلى الشمال. ومما يكنى عنه بالشمال قولهم للمنهزم: نظر عن شماله، ومنه قول الحطيئة:
وفتيان صدق من عدي عليهم ** صفائح بصرى علقت بالعواتق
إذا فزعوا لم ينظروا عن شمالهم ** ولم يمسكوا فوق القلوب الخوافق
وقاموا إلى الجرد الجياد فألجموا ** وشدوا على أوساطهم بالمناطق
واختلف المفسرون في تأويل أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، فقيل:
كنى بالفريقين عن أهل السعادة وأهل الشقاوة، وقيل: بل المراد بأصحاب الميمنة المسلوك بهم يمنة إلى الجنة، وبأصحاب المشأمة المسلوك بهم شأمة إلى النار. وقيل: إن أصحاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم، وأصحاب المشأمة هم المشائيم عليها.
والمشائيم جمع مشؤوم، ومنه قول الشاعر:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ** ولا ناعب إلا ببين غرابها
وللنحويين كلام في جر ناعب، وخلاصته أن الشاعر توهم دخول الباء في مصلحين، ثم عطف عليه، كما أخذ زهير بمثل ذلك في قوله:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ** ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
فجر لفظة سابق لتوهمه دخول الباء في مدرك المعطوف عليه. “
قل: هذه خَصْلَةٌ حسنة في الرجل
ولا تقل: هذه خُصْلَةٌ حسنة في الرجل
وكتب عبد الهادي بوطالب: “الخَصْلة هي خُلُق في الإنسان سواء كان حسناً أو قبيحاً. والنطق بالخاء مضمومةً غير صحيح. لأن الخُصلة تعني قطعة من الشَّعَر. وتجمع على خُصَل. وهو جمع قياسي إذ فُعْلة (بضم فاء الكلمة وسكون عينها) تجمع على فُعَل (بضم فاء الكلمة وفتح عينها). وتُجمع الخَصلة (بفتح الخاء) جمع تكسير على خِصال (بكسر الخاء).
ونقول: “في فلان خَصْلة ذميمة هي أنه لا يكتم سراً”. و”في الآخر خَصْلَة حميدة هي الوفاء لأصحابه”. و”فلان ذو خِصال حميدة”. وفي الحديث: “يشيب ابن آدم وتَشِبُّ فيه خَصْلتان: الحرص على الدنيا وطول الأمل”. وجاء في الحديث أيضاً: “وكانت فيه خَصْلةٌ من خِصال النفاق”.” إنتهى
ولا أظن أن عالم لغة، كما وصف نفسه، يمكن أن يقع في الخطأ الشائع في استعمال “أو” بعد سواء. إذ أن السليم هو استعمال “أم”، فكان عليه أن يقول “سواء كان حسناً أم قبيحاً”. لكنها قد تكون هفوة الطابع لا الكاتب.
قل: هو عدو شديد العداوة
ولا تقل: هو عدو لدود
وكتب اليازجي: “ويقولون هو عدو لدود وهو ألد أعداء فلان يريدون باللدود الشديد العداوة وهو خلاف المعروف في استعمال العرب لأن اللدود عندهم بمعنى الذي يغلب في الخصومة يقال لده يلده ……وهو رجل لدود ويقال خصم ألد إذا كان شديد الخصام لا يذعن للحجة ومأخذه من اللديد وهو صفحة العنق لأن المخاصم ينصب لديديه عند الخصام.”
قل: خصم الدّ وخصوم لُدّ
ولا تقل: خصوم الدّاء
وكتب مصطفى جواد: “قال صاحب لسان العرب نقلاً عن أئمة اللغة: “يقال: رجل أَلَدُّ بَيِّنُ اللَّدَد شديد الخصومة؛ وامرأَة لَدَّاء وقوم لُدٌّ. وقد لَدَدْتَ يا هذا تَلُدُّ لَدَداً. ….. وقوله تعالى: وتنذر به قوماً لُدّاً؛ قيل: معناه خُصَماءُ عُوج عن الحق.” وقال في موضع آخر: “والأَلَدُّ الخَصِمُ الجَدِلُ الشَّحِيحُ الذي لا يَزيغُ إِلى الحق، وجمعه لُدّ ولِدادٌ؛ ومنه قول عمر، رضي الله عنه، لأُم سلمة: فأَنا منهم بين أَلْسِنَةٍ لِدادٍ، وقلوب شِداد، وسُيوف حِداد.”
وأقول أنا: ليس اللداد جمعاً للألد وورد في قول عمر (رض) لا يعني أنه جمع ألدّ والصحيح أن اللداد جمع لديد، قال في لسان العرب أيضاً “ورجل شديد لديد”. وقد وردت في قول عمر (رض) المذكور ثلاثة جموع واحد فمفرداتها أيضاً على وزن واحد فاللداد جميع لديد والشداد جمع شديد والحداد جمع حديد.
ويجوز لنا أن نجمع اللديد على ألدّاء كشديد وأشدّاء وعزيز وأعزّأء ووديد وأودّأء. واللديد صفة ومشتقة من الفعل الرباعي “لادّه يُلادّه لِداداً ومُلادة”. قال في اللسان: “ما زلت ألادّ عنك اي أدافع”. فمن يرد الألداء فليختر اللديد وإلا فليقل “الخصوم اللد” كما قال الله تعالى “وتنذر قوماً لُدّا”. (م ج)
قل: أبدأ به أوّلُ
ولا تقل: أبدأ به أوّلاً
كتب الحريري: “ويقولون ابدأ به أولاً، والصواب أن يقال: ابدأ به أوَّلُ بالضم، كما قال معن بن أوس:
لعمرك ما أدري وإني لأوجلُ على أينا تعدو المنية أوَّلُ
وإنما بني أول هاهنا لأن الإضافة مرادة فيه، إذ تقدير الكلام: ابدأ به أول الناس، فلما اقتطع عن الإضافة بني كأسماء الغايات التي هي قبلُ وبعدُ ونظائرهما، ومعنى تسمية هذه الأسماء بالغايات، أي قد جعلت غاية للنطق، بعدما كانت مضافة، ولهذه العلة استوجبت أن تبنى، لأن آخرها حين قطع عن الإضافة صار كوسط الكلمة، ووسط الكلمة لا يكون إلا مبنياً، وإنما بنيت على الضمة لأنها في حالة الإضافة تعرف تارة بالنصب وأخرى بالجر، فخصت عند البناء بالضم الذي خالف حركتي إعرابها، ليعلم به أنها مبنية لا معربة.
على أن أول إذا أعرب لا يصرف لأنه على وزن أفعل وهو صفة، ولهذا قالوا: كان ذلك عاماً أول، وما رأيته مذ أول من أمس، ولم يسمع صرفه إلا في قولهم: ما تركت له أولاً ولا آخرا، فجعلوه في هذا الكلام اسم جنس، وأخرجوه عن حكم الصفة، وأجروا هذا الكلام بمعنى ما تركت له قديماً ولا حديثاً.
ومن مفاحش ألحان العامة إلحاقهم هاء التأنيث بأول فيقولون الأولة كناية عن الأولى، ولم يسمع في لغات العرب إدخالها على أفعل الذي هو صفة، مثل أحمر وأبيض، ولا على أفعل الذي هو للتفضيل نحو أفضل وأول، والعجب أنهم في حال صغرهم ومبدإ تعلمهم، يقولون: جمادى الأولى فيلفظون بالصحيح، فإذا نبلوا ونبهوا أتوا باللحن القبيح.
ونظير أول في المبنيات على الضم أنك تقول: انحدر من فوق، وأتاه من قدام واستردفه من وراء، وأخذه من تحت، فتبنى هذه الأسماء على الضم، وإن كانت ظروف أمكنة، لاقتطاعها عن الإضافة، وعلى ذلك قول الشاعر:
ألبان إبل تعلة بن مساور ** ما دام يملكها علي حرام
لعن الإله تعلة بن مساور ** لعنا يصب عليه من قدام
أراد من قدامه، فلما حذف الضمير منه واقتطعه عن الإضافة بناه على الضم.”
قل: يُقدَّر عددُهم بزُهاء ألف
ولا تقل: يُقدَّر عددُهم بزَهاء ألف
وكتب عبد الهادي بوطالب: “اسم مُعْرَبٌ يضاف إليه ما بعده مجروراً. مَثَله في ذلك مَثَل “نَحْو”. وهو أيضا يدل على التقريب. وأصله مقدار الشيء. لكنه يُستعمَل في التقريب مَثلَه مَثَل حَوالَيْ، ونَحْو. نقول: “يُقدَّر عددُهم بزُهاء ألف”.
وقد جاء في الحديث:” سأل رسول الله: كم كانوا؟ فقيل: زُهاءَ ثلاثمائة”، أي قَدْر ثلاثمائة. وجاء في بعض المعاجم اللغوية كسر الزاي منه، لكن فتحها خطأ، والأفضل النطق بالضم لشيوعها.
وتُطْلق كلمة زُهاء أيضا على العدد الكثير. وقد جاءت بهذا المعنى في الحديث:” إذا سمعتم الناس يأتون من قِبَل المشرق أُولي زُهاء يُعجَب الناس من زِيِّهم فقد أظلَّت الساعة”. وأُولي زُهاء تعني: أولِي عدد كثير.”
قل: نصب عموداً لدعامة بيته
ولا تقل: نصب عاموداً لدعامة بيته
وجاء في ملحق مفردات أوهام الخواص ومن أوهامهم المشينة أنهم يزيدون حرفا أو ينقصون حرفا من الكلمة كما يفعل العوام.
فمن أمثلة الزيادة تسميتهم للخشبة القائمة وسط الخباء، وكذلك للعصا ولدعامة المنزل وأشباهها مما يعتمد عليه عاموداً، وهذا وهم، والصواب أن يقال: عمود وعماد، والجمع أعمدة وعمد، ومنه قول الشاعر يكنى عن الخباء:
وما أهل العمود لنا بأهل ** ولا النعم السآم لنا بمال
وقال أبو كبير الهذلي بمعنى العصا:
يهدي العمود له الطريق إذا هم ** ظعنوا، ويعمد للطريق الأسهل
واسم الجمع عَمَد، ومنه قوله تعالى: “الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش”.
والخباء المعمد: المقام على أعمدة، ومنه قول طرفة بن العبد:
وتقصير يوم الدجن، والدجن معجب ** ببهكنة تحت الخباء المعمد
ومن أمثلة إنقاص حرف أنهم يجمعون خضرة وخضراء على خضروات، ويعنون البقول الخضراء، فيوهمون. والصواب أن يقال: خضراوات، لأن العرب تقول لهذه البقول خضراء، وهي لا تريد لونها وإنما اسمها، لذا صار هذا اللفظ اسماً لها وليس صفة، ولو أنه كان صفة لكان جمعه على خُضْر بإسكان الضاد نحو أزرق وأصفر وأحمر، فإنها تجمع على زُرْق وصُفْر وحُمْر، ومنه قول الشاعر:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وكل مهموز الآخر نحو صحراء وبطحاء وخضراء تقلب همزته في الجمع واواً، فيقال: صحراوات وبطحاوات وخضراوات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ليس في الخضراوات صدقة يعني به الفاكهة الرطبة والبقول.”
قل: أجابه عن سؤاله
ولا تقل: أجابه على سؤاله
كتب خالد العبري: “والسبب أن أجابه عن سؤاله تعني أنه لبى طلبه فيما يخص سؤاله فـ “عن” هنا أفادت الإيضاح والإنابة والكشف، وهذه معان لا تفيدها “على” في هذا السياق.
يقول الجوهري في الصحاح: “الجواب معروف يقال أجابه وأجاب عن سؤاله والمصدر الإجابة”. ويقول ابن منظور في لسان العرب: “والإجابة رجع الكلام تقول أجابه عن سؤاله.”
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….
عبد الحق العاني
15 شباط 2016