سواء أكان المشتركون في مؤتمرات جنيف أو فيينا أو موسكو صادقين في مساعيهم للوصول الى حل سلمي للحرب في سورية أم لم يكونوا، فإن هذه المؤتمرات جميعاً فريدة في التأريخ السياسي منذ الحرب العالمية الأولى. فلم يسبق أن عقدت المؤتمرات لتقرير مصير دولة لم تحتل دون مشاركتها هي في تلك المؤتمرات. وكأن هذه الحقيقة الغريبة لم تكف فزادوا عليها في أن يجتمع الذين يشاركون في حربها وخرابها لبحث مستقبلها! فهل يكون الجلاد طبيباً؟
لست أريد أن أخوض في بحث هذه المؤتمرات وأسباب عقدها وعبثية جهدها رغم كل ما يقوله “الخبراء”. لكني لو افترضت حسن النية عند جميع الأطراف فإني أرى أن الجميع غير قادرين على فهم أمور جوهرية تخص سورية وما فيها وما سينتج عن حربها. وحيث إن هذه الأمور من الأهمية بحيث أرى ان إغفالها سيؤدي الى انعدام الجدوى من هذه المؤتمرات، فلا بد من وقفة عند عدد منها.
الجيش السوري ودوره
لقد كشفت الحرب أن الفساد، عشية بدأ مشروع تفتيت سورية، كان قد أكل الحزب والحكومة وبعض أجهزة الدولة. إلا ان الجيش ورغم الانهيار الكبير في صفوفه والناتج عن انشقاقات واسعة تمكن أن يمتص الصدمة وأن يعيد ترتيب صفوفه ويتماسك ويمسك. ولا يمكن أن يكون هذا قد وقع بسبب تكاتف طائفة أو بخوف من سلطة أو بتأثير خارجي. فقد كان الوضع العسكري والأمني في سورية عشية التهديد الأمريكي بغزو سورية هشاً بشكل يجعل فيه أي انهيار عسكري كفيلاً بتحقيق انهيار الدولة بالكامل وإطلاق أيدي المخربين في سورية كما حدث وما زال يحدث في العراق وليبيا.
لكن هذا لم يحدث لأن بنية الجيش العربي السوري، كما ثبت لأي مراقب، تختلف كثيراً عن باقي الجيوش العربية إذ يبدو أنه كما يصف نفسه “جيش عقائدي”.
لقد تمكن الجيش السوري، وليس جهاز المخابرات، أن يحمي الدولة السورية ويبقي على ما أمكن منها في الفترة العصيبة ليعود اليوم فيعيد للدولة ما فقدته من سيادتها في السنوات الأربع الماضية. وقد دفع في سبيل ذلك ثمناً باهضاً في التضحيات والجراح والتحمل والصبر والثبات. وأمثلة ذلك كثيرة فحين كنا نشاهد في السنة الأولى مشاهد تشييع شهداء الجيش لم نعد نسمع حتى عن أسمائهم الآن لكثرتهم. أما عن الثبات والصبر فيكفي أن نتذكر أن مطار “كوريس” العسكري في ريف حلب والذي تم تحريره قبل أيام كان محاصراً لثلاثة أعوام!
لقد طحنت الحرب أبناء الجيش العربي السوري، كما يحلو له أن يسمي نفسه، وشدت أواصر الأخوة بين منتسبيه حتى أصبح الانتماء له هو العقيدة. وهذا الجيش اليوم هو أكبر مجموعة منظمة ومنضبطة في سورية. فهو أكبر من الحزب وهو أكبر من الحكومة. لكن الأهم من كل ذلك هو أن هذا الجيش هو الضحية وهو المخلص. فمن سأل الجيش السوري عن رأيه في مستقبل سورية؟ فقد يقول من يقول ان رأي الجيش السوري ستمثله الحكومة السورية. لكن هذا ليس ثابتاً ولا يمكن القول به لأن أحداً لم يسأل الجيش. فحين يتحدث بوغدانوف عن وجود سبعة عشر جماعة معارضة ستدعى لبحث مستقبل سورية دون أن يعرف أحد ما حجم تمثيل هذه الجماعات في الشعب السوري، فلا بد للمراقب أن يسأل بوغدانوف: من سيمثل رأي مائتين وخمسين ألفاً من منتسبي الجيش العربي السوري؟ وإذا كان لأية عصبة من أفراد أن يعقدوا المؤتمرات كي يدعوا تمثيل شريحة من الشعب السوري فإن الذي قدم الغالي في الدفاع عن سورية لا بد أن يمثل ثقلاً جماهيرياً يفوق مجموع المعارضة أضعافا مضاعفة! إن للحرب حقوقاً وحق الجيش السوري في انتصاره على الإرهاب يجب أن يكون في قمة الحقوق التي تحفظها أية اتفاقية بين الأطراف.
فلا يمكن أن يغيب عن هذا الجيش العقائدي أن الهدف الأول لما يحدث في سورية هو حل الجيش السوري كما حدث للجيش العراقي وذلك خدمة لإسرائيل كما اعترف بذلك وزير خارجية فرنسا السابق. وحتى لو لم يكن لهذا الجيش رابط عقائدي، كما أعتقد أن لديه، فإنه يكفي لمنتسبي الجيش السوري أن يلقوا نظرة خاطفة للعراق ليروا ما حل برفاقهم من منتسبي الجيش العراقي من ضياع. وهذا يعني أن الجيش السوري، سواء أكان يقف كله خلف بشار الأسد ام لم يكن، سوف يرفض أي تحديد لسلطاته وتقليل دوره في قيادة وحماية سورية فهو الوصي لأنه وقف مع سورية حين كان الآخرون متفرجين أو خارج الحدود.
إن أي اتفاق يعقده الكبار لا يأخذ رأي الجيش السوري في الحسبان لا يمكن له أن ينجح!
نظام حكم الشعب “الديموقراطية” وهْمٌ
ما انفك الداعون لمؤتمرات جنيف أو فيينا أو لقاءات موسكو يتحدثون عن أن الهدف السياسي لها هو العمل على قيام نظام سياسي يعتمد حكم الشعب الذي يعبر عنه باللفظة اليونانية “ديموقراسي” والتي تعني “حكم الشعب”. ولعل من السخرية أن من بين أدعياء هذا الهدف لسورية عدد من العرب الذين لا يؤمنون ولا يعملون به حين يتعلق الأمر بأنفسهم أو بدولهم كما هو الحال بعدد من “عقل” دول مجلس التعاون الخليجي والتي بين نظمها السياسية ونظام حكم الشعب سنوات ضوئية، لكنهم مع ذلك يمتلكون الوقاحة للادعاء بأنهم يسعون لإقامة نظام سياسي في سورية يمثل الشعب السوري.
لكن الحقيقة التي لا يفهمها حتى المخلصون من الدعاة لمؤتمرات السلام من أجل سورية، هي أن تحقيق نظام حكم الشعب في سورية هو وهم. وهذه المقولة لها سببان. أولهما سبب عام يتعلق ببنية العقل العربي وهو أمر لا يمكن أن يعطى حقه في أسطر أو مقال واحد. لكن يكفي وصفه هنا بالقول بان العقل العربي بشكل عام يحمل في جذوره صفات البداوة المتخلفة والتافهة في الفردية غير القابلة على التعايش مع الاختلاف وغير القابلة بالتنوع لأنها، أي الصفة البدوية، غير منتمية ولا يمكن لمن لا ينتمي أن يبني دولة. فالمدنية انتماء والعربي الذي لا ينتمي لا يمكن له أن يساهم في بناء دولة. والذي لا يفهم هذه الحقية ما عليه إلا أن ينظر لما حدث في دول مجلس التعاون الخليجي وليقل لي أي منها يشكل اليوم دولة.
فقد سقطت المدينة عندما دخلتها البداوة والقرية وهذا ما حدث في حواضر العرب في القرن العشرين في كل من بغداد ودمشق والقاهرة والتي ما زالت تعاني من الهجمة البدوية القروية عليها وتدفع ثمن ذلك بالتراجع والتخلف الاجتماعي والسياسي والذي صبغ عقودها الخمسة الماضية.
أما السبب الثاني بعدم جدوى الحديث عن مستقبل نظام حكم الشعب في سورية فهو خاص بالصراع القائم في سورية. ذلك لأن الصراع في سورية هو في حقيقته بين عقيدتين: قومية ودينية، وما سواه من لغط فهو ثانوي. فالمشروع القومي في جوهره، وليس بالضرورة بسلبيات ممارساته والتي ليس مكان بحثها هنا، هو مشروع بناء الدولة العلمانية العربية المستقلة العادلة والموحدة بكل ما يمكن أن يحمله هذا التعريف من تفرعات. وقد قاد الهدف لبناء دولة كهذه أن يقوم أعداء الأمة الموجودين قبل قيام هذا المشروع، أو ربما ان المشروع قام بسبب وجود هؤلاء الأعداء، بكل ما يمكن لهم القيام به لإعاقة قيام هذه الدولة، ولعل هدم أول محاولة للوحدة بين مصر وسورية في عام 1961 خير دليل على ذلك. والأمة العربية، التي خرجت من سبعة قرون من الحكم العثماني المظلم والذي قد يكون من الكرم وصفه بالمتخلف، كانت في بداية القرن العشرين واحدة من أكثر أمم الأرض أمية حتى إن مدينة مثل بغداد لم يكن فيها مدرسة عربية واحدة رغم ان العثماني كان يدعي الإسلام والعربية لغته الكريمة، واللغة التركية لا يليق حتى أن تقاس بالعربية. وهكذا فإن أي مشروع سياسي قومي لا بد أن يكون حصراً بالنخبة التي تتبناه مما جعل هذه النخبة تزداد قناعة بسلامة استقلالها بالقرار والقيادة واعدة الجمهور بالفوز والنصر والسلام. وقد عزز قناعة قادة المشروع القومي في سورية بنجاعة انفرادهم بالسلطة أن الثورة في أي مكان آخر في العالم نجحت على يد النخبة مع استبعاد الآخرين، أي ان قادة المشروع القومي في سورية الذين انفردوا بالسلطة لم يكونوا وحدهم من آمن بنظام حكم الفئة وطبقه دون نظام حكم الشعب، وهو ما فعلته النظم الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وغيرها. فالدكتاتورية مبدأ وضع أسسه الرومان آباء أوربا الحديثة وليس غيرهم.
أما العقيدة الدينية التي مضى عليها خمسة عقود وهي تصارع المشروع القومي في سورية، وليس ما يدعيه قادتها كذباً لخداع العقول الساذجة في أنه صراع مع العلويين، فهي تسعى لبناء دولة إسلامية سنية بكل ما تعنيه الدولة الدينية المذهبية. ويستمد قادة مشروع الدولة السنية في سورية مشروعيتهم من الدولة الإسلامية التي قامت منذ يوم قبض الرسول الأكرم (ص) حتى عام 1924 حين أعلن كمال أتاتورك نهاية الخلافة الإسلامية. إن عقيدة إقامة دولة إسلامية تستند لفقه أهل السنة والجماعة تعني أن الدولة المرجوة تؤمن بان لها حق إلهي ومن كان له حق إلهي فلا يمكن أن يسأل آخر عن رأيه.
وهذا يكشف بوضوح أن الصراع القائم في سورية هو بين طرفين يؤمن كل منهما بحقه بالقيادة السياسية منفرداً. فلا القومي سيسمح بمشاركة الإسلامي ولا الإسلامي يمكن له أن يرتضي بالدولة العلمانية التي قام عليها المشروع القومي.
فكيف سيتمكن دعاة مؤتمرات السلام لسورية التوفيق في هذا المستحيل؟ ليس لدي شك أن هناك آراءاً في سورية تختلف عن الطرفين المتصارعين. ولكن هذه الآراء حتى إذا ضمت آلاف الأشخاص لا يمكن لها أن تحرك دبابة أو توقفها. فما الذي سيفعله العشرات بل حتى الآلاف الذين يمكن لبوغدانوف أن يجمعهم في مؤتمر أو ساحة؟
إن الصراع في سورية لن ينتهي إلا بانتصار أحد المشروعين القومي أو الديني لاستحالة التوفيق بين الإثنين. وأيا كان المنتصر فإن بقية القوى السياسية ستصبح ثانوية لا قيمة لها ولا دور. إن من لا يفهم هذه الحقيقة لا يقدر حتى على المساهمة في تقديم حل للحرب في سورية!
المرارة والثأر
لقد تركت السنوات الماضية، وهي توشك أن تكون خمساً، مرارة لم تعرفها أية دولة في عالمنا المعاصر حين قامت قرية بقتل، أو حصار، سكان قرية جارة لها بسبب الانتماء المذهبي أو العرقي. ولا يمكن لأي مراقب حتى إذا كان إسلامياً أن يقول إن الدولة القومية في سورية هي التي بدأت هذه الأعمال الوحشية. ذلك لأن الدولة السورية كانت عشية الحرب الي شنت عليها في غنى عن خلق أزمة داخلية، فلا يوجد حاكم في العالم، مهما كان ساذجاً، أن يعتدي على شعبه الوديع فليس لديه ما يكسبه من ذلك سوى خلق الفوضى والتي لا يمكن أن تخدم حكمه.
إن القتل والذبح على الهوية والحصار والقصف اليومي للقرى الآمنة والذي يقوده الإسلاميون أيا كانت مسمياتهم قد خلق من المرارة ما لا يمكن للمؤتمرات أن تزيلها. فإذا أضفنا لذلك أن الثأر من صفات البداوة الأصيلة والمترسخة في العقل العربي والذي أسلفنا أنه سبب من أسباب التخلف، فإن رغبة عارمة للثأر والانتقام تسود الشارع القومي والذي يعتقد أنه اعتدي عليه دون وجه حق. ويدرك الجميع هذه الحقيقة. فكيف يمكن لأي اتفاق سلام أن يقنع الإسلامي بأنه سيكون في مأمن على نفسه بعد الذي فعله؟
وليس أمر الثأر والانتقام يقف عند سورية ذلك أن شريحة كبيرة من الشعب السوري وأخص منهم العلويين والجعفرية من الشيعة يرون أن حملة القتل والعدوان عليهم جرت بتحريض وتمويل وإعلام من الحركة الوهابية بمشاركة رسمية وفردية من عدد من دول مجلس التعاون الخليجي. وهم لن يسكتوا بمجرد انتهاء الحرب في سورية. فكما استطاعت دول الخليج أن تجند الناس من أطرف الأرض لتبعثهم لقتل الشيعة في سورية فإن هؤلاء الشيعة سيعمدون بعد وقف الحرب في بلدهم لتنظيم أنفسهم وتنفيذ أعمال ثأر ضد دول الخليج التي ساهمت في قتل أبنائهم وتخريب مدنهم وقراهم. ولن تكون أعمال الانتقام تلك من باب الثأر حسب بل ستكون حاجة سياسية لمنع تلك الدول التي قامت بالعدوان على سورية علانية من التفكير مجدداً أن بإمكانها إعادة اللعبة وأن عدم تدخل مجلس الأمن لمنع ذلك العدوان ليس كافياً وحده لتمكين أشباه الدول من التحكم بمصير ومستقبل الدول الأخرى. وقد بدأت حتى وسائل الإعلام الغربية مؤخراً وبعد هجمات باريس باتهام السعودية وقطر علناً بدعم المجموعات الإرهابية التي تتغطى بغطاء الإسلام.
فهل يفهم دعاة مؤتمرات السلام هذه الحقيقة؟ وإذا فهموها فكيف يمكن للحاضرين في أي مؤتمر من تحديد تيار الثأر والانتقام هذا؟ فاذا كانت مخابرات أوربا مجتمعة لم تقدر على منع عشرين شخصاً من ترويع باريس، فأي مؤتمر أو أي قوة عالمية ستمنع ألف شيعي من هدم الدوحة على رؤوس أهلها انتقاما لما فعله عملاء الأخيرة في الفوعة وجبلة ونبل والزهراء وعذرة العمالية؟
عبد الحق العاني
21 تشرين الثاني 2015