إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)
قل: رأيتهم يتكلم بعضهم مع بعض إذا كانوا جماعة رجال، ورأيتهن تتكلم بعضهن مع بعض لجماعة النساء
ولا تقل: رأيتهم يتكلم أحدهم مع الآخر للجماعة من الرجال، ولا رأيتهن تتكلم إحداهن مع الأخرى للجماعة من النساء
وذلك لأن كلمة “بعض” تدل على الواحد والواحدة إذا كانت غير مكررة فإذا كررت دلت على الجماعة. ويراد بالواحد والواحدة ما له حيز منفصل ومقدار معلوم وجسم غير متصل، كالإنسان والنخلة واليوم والسنة، والإنفصال طبيعي كجسد الإنسان واصطلاحي كاليوم والسنة، فإذا قلت: رأيت بعض أصدقائي في بعض الأيام فمعنى ذلك عند فصحاء الأمة العربية أنك رأيت أحد أصدقائك في أحد الأيام. قال الله تعالى في التنزيل العزيز: “ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين”. قال “قرأه” ولم يقل غير ذلك فهم واحد. وقال تعالى: “وإذ أسر النبي الى بعض أزواجه حديثاً فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرَّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّاني العليم الخبير”، قال “نبّأت به” للواحدة. وقال تعالى: “قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين”، أي يلتقطه أحد رجال السيارة اي القافلة، وحسبك استعمال القرآن، وإن أحببت الإزدياد من الشواهد فإني لا أحسبك إلا سامعاً قول لبيد:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
فقد أراد ببعض النفوس نفسه بالبداهة، وقول بشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وقول أبي دلامة:
أقاد الى السجون بغير ذنب كأني بعض عمال الخراج
فبشار أراد ببعض الحي إحدى نسائه وأبو دلامة أراد ببعض عمال الخراج أحدهم.
ولا تستعمل مع أحدهما إلا الآخر ولا مع إحداهما إلا الأخرى، فهذا كلام الفصحاء، قال تعالى:”واتلُ عليهم نبأ ابني آدم إذ قربا قرباناً فتُقُبّل من أحدهما ولم يُتَقبّل من الآخر”. وقال تعالى: “فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى” ولم يقل فتذكر إحداهما الثانية لأنه خارج عن كلام العرب الفصحاء فإن استبدلت بفصاحة القرآن غيرها فأنت وما تريد. (م ج)
قل: مشيتُ حتّى أعيَيْتُ
ولا تقل: مشيتُ حتى عَيَيْتُ
كتب الكسائي: “وتقول: مشيت حتى أعيَيْتُ بالألف ولا تقول عَيَيْت، إنما يقال في الأمر الذي ينسد عليك، فيقال: فلانٌ عَيِيٌّ بأمره من العِيِّ، قال الشاعر:
تَزَحزَحي عَنَّي يا برذونهْ
إنَّ البراذينَ إذا جَرَيْنَهْ
مع العِتاقِ ساعَةً أعْيَيْنَهْ”. إنتهى
وكتب ابن منظور في اللسان:
“ويقال في المَشْي: أَعْيَيْت وأَنا عَيِيّ؛ ……. وعبارة التهذيب: أعييت إعياء، قال: وتكلمت حتى عييت عياً، قال: وإذا طلب علاج شيء فعجز يقال: عييت وأنا عيي. قال النابغة: عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ من أَحد قال: ولا يُنْشَدُ أَعْيَتْ جواباً؛ وأَنشد لشاعر آخر في لغة من يقول عيي: وحتى حسِبْناهْم فوارِسَ كَهْمَسٍ، حَيُوا بعدما ماتُوا من الدَّهْرِ أَعْصُرَا ويقال: أَعْيا عليَّ هذا الأَمرُ وأَعْياني، ويقال: أَعْياني عَيَاؤه؛ قال المرَّارُ: وأَعْيَتْ أَن تُجِيبَ رُقىً لِرَاقِ قال: ويقال أَعْيا به بعيره وأَذَمَّ سواءٌ…..والإعْياءُ: الكَلال؛ يقال: مَشَيْت فأَعْيَيْت، وأَعيا الرجلُ في المَشْيِ، فهو مُعْيٍ؛ وأَنشد ابن بري: إنّ البَراذِيِنَ إذا جَرَيْنَهْ ، مَعَ العِتاقِ ساعَةً، أَعْيَيَنَهْ قال الجوهري: ولا يقال عَيَّانٌ.”
قل: نَغَقَ الغراب
ولا تقل: نَعَقَ الغرابُ
وكتب إبن قتيبة: “(يقولون) نَعَقَ الغراب ” وذلك خطأ، إنما يقال نغق – بالغين معجمة – فأما نعق فهو زَجْر الراعي الغنم.”إنتهى
ووافق الجوهري ابن قتيبة فكتب في الصحاح:
“نَغَقَ الغراب يَنْغِقُ نَغيقاً، أي صاح.” إنتهى
لكن العرب استعملت “نعب ينعب” لفعل صياح الغراب كما جاء في قول النابغة في قصة الإقواء المروية في قوله الأول في البيت:
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغراب الأسودُ
فحين وضح له الإقواء أعاد صياغة البيت فقال:
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك تنعاب الغراب الأسودِ
فما هو الفرق بين “نغق” و “نعب”؟ وقد انفرد الفيروزابادي من بين معاجم العرب في الرد على هذا دون توضيح فكتب في القاموس:
“نَغَقَ الغُرابُ يَنْغِقُ نَغيقاً: صاحَ، أو نَغَقَ: في الخَيْرِ، ونَعَبَ: في الشَّرِّ.”
وقد يكون هذا مراد النابغة حين تحدث عن “تنعاب” الغراب أنه كان في الخير وليس في الشر.
قل: اشتريت منه سِلْعَة جيدة
ولا تقل: اشتريت منه سَلْعَة جيدة
كتب الزبيدي: ويقولون لما بيع من المتاع “سَلْعَة” (بفتح أوله)، والصواب “سِلْعَة” بكسر أوله، والجمع “سِلَع” و “سِلعات” ويقال أسلع الرجُلُ إذا كثُرت سِلعتُه، وأنشد المبرد:
وقد يُسلَعُ المرءُ اللِّئيم اصطناعُه ويعتَلُّ نقدُ المرءِ وهو كَريمُ” إنتهى
وكتب الجوهري في الصحاح:
“السِلْعَةُ: المتاعُ.
والسِلْعَةُ الضَوَاةُ، وهي زيادة تحدث في الجسد كالغدّة، تتحرَّك إذا حُرِّكَتْ، وقد تكون من حِمَّصَةٍ إلى بطيخة.
والسَلْعَةُ بالفتح: الشَجَّةُ.” إنتهى
وقد يكون هذا الأخير هو المعنى الذي أراده شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري بكلمة “سلع” حين قال في قصيدته في ذكرى المتنبي:
وبالسَّلَعِ النوافر في عروق كأنّ بكل واحدة سناناً
قل: لا أكلمه أبداً
ولا تقل: لا أكلمه قط
وكتب الحريري “ومن أوهامهم أيضا في هذا الفن قولهم: لا أكلمه قط وهو من أفحش الخطأ لتعارض معانيه وتناقض الكلام فيه وذاك أن العرب تستعمل لفظة قط فيما مضىمن الزمان، كما تستعمل لفظة أبداً فيما يستقبل منه فيقولون: ما كلمته قط ولا أكلمه أبداً، والمعنى في قولهم: ما كلمته قط، أي فيما انقطع من عمري، لأنه من قططت الشيء، إذا قطعته، ومنه قط القلم، أي قطع طرفه.
ومما يؤثر من شجاعة علي رضي الله عنه أنه كان إذا اعتلى قد، وإذا اعترض قط، فالقد قطع الشيء طولاً، والقط قطعه عرضاً، ولفظة قط هذه مشددة الطاء، وهي اسم مبني على الضم مثل حيث ومنذ، وأما قط بتخفيف الطاء، فهو اسم مبني على السكون مثل قد، وكلاهما بمعنى حسب.
وقرأت في أخبار الوزير علي بن عيسى أنه رأى كاتباً يبري بمجلسه قلما فأنكر ذلك عليه وقال: مالك في مجلسي إلا القط فقط
وقد تدخل نون العماد على قط وقد، مع ضمير المتكلم المجرور كما قال الراجز في قط:
امتلأ الحوض وقال قطني **
أي قد بلغ من الامتلاء إلى الحد الذي لو كان له نطق لقال حسبي.
ومما أنشدته من أبيات المعاني:
إذا نحن نلنا من ثريدة عوكل ** فقدنا لها ما قد بقى من طعامها
أراد هذا الشاعر بقوله: فقدنا، أي فحسبنا.
ثم استأنف فقال: لها ما قد بقى من طعامها، أي لا نرزؤها به لاستغنائنا عنه واكتفائنا بما نلنا منه.”
قل: صِيامُ عاشُوراء كَفّارةُ سَنَةٍ
ولا تقل: صِيامُ عاشُورى كَفّارةُ سَنَةٍ
كتب البستي: “قولُهُ، صلّى اللهُ عليه وسلّم: “صِيامُ عاشُوراء كَفّارةُ سَنَةٍ”. عاشوراء ممدودٌ، والعامَّةُ تَقْصرُهُ. ويُقالُ: ليسَ في الكلامِ (فاعُولاء)، ممدودٌ إلاَّ عاشُوراء. هكذا قالَ بعضُ البصريين، وهو اسمٌ إسلامي لم يُعْرَفُ في الجاهليّةِ.” إنتهى
وكتب ابن منظور في اللسان:
” وعاشُوراءُ وعَشُوراءُ، ممدودان: اليومُ العاشر من المحرم، وقيل: التاسع. قال الأَزهري: ولم يسمع في أَمثلة الأَسماء اسماً على فاعُولاءَ إِلا أَحْرُفٌ قليلة. قال ابن بُزُرج: الضّارُوراءُ الضَّرّاءُ، والسارُوراءُ السَّرَّاءُ، والدَّالُولاء الدَّلاء……وقال ابن الأَعرابي: الخابُوراءُ موضع، وقد أُلْحِقَ به تاسُوعاء.
وروي عن ابن عباس أَنه قال في صوم عاشوراء: لئن سَلِمْت إِلى قابلٍ لأَصُومَنَّ اليومَ التاسِعَ؛ قال الأَزهري: ولهذا الحديث عدّةٌ من التأْويلات أَحدُها أَنه كَرِه موافقة اليهود لأَنهم يصومون اليومَ العاشرَ، وروي عن ابن عباس أَنه قال: صُوموا التاسِعَ والعاشِرَ ولا تَشَبَّهُوا باليهود.” إنتهى
ولا أدري صحة نسب الحديث لإبن عباس فإن كان حقاً لهو فهو دليل جهالة لا علاقة لها بدين الله ذلك لأن اليوم العاشر من محرم كان من أعظم ايام بني إسرائيل الذين رفعهم الله في القرآن مكاناً لم يرفع أحداً اليه في قوله “ولقد اخترناهم على علم على العالمين”. فلماذا يستنكف ابن عباس عن تقديس يوم عظيم عند من رفعهم الله وهل يقلل من قدسية ذلك اليوم “وذكرهم بأيام الله” أن اليهود الذين لعنهم الله في الكتاب أتخذوه عيداً؟ إذا كان من روى الحديث يعتقد ذلك فلا علاقة له بدين الله.
قل هذا دمٌ عبيطٌ
ولا تقل: هذا دمٌ غبيطٌ
كتب المقدسي: “ويقولُ بَعْضُهُم: دَمٌ غَبِيطٌ، بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ. وصوابُهُ: عَبِيطٌ، بعَيْن غير مُعْجَمَةٍ، للطرِيّ.” إنتهى
وكتب ابن فارس في المقاييس:
“العين والباء والطاء أصلٌ صحيح يدلُّ على شِدّةٍ تُصيبُ من غير استحقاق.
وهذه عبارةٌ ذكرها الخليل، وهي صحيحةٌ منقاسة. فالعَبْط: أن تُعبَط النّاقةُ صحيحةً من غير داءٍ ولا كَسْر. قالوا: والعَبِيط: الطرِيُّ من كلِّ شيء…….. ومن ذلك الدّم العَبِيط: الطرِيّ.”إنتهى
أما الغبيط فله أكثر من استعمال وليس منها الطري كما يراد في حال وصف الدم. ومنها ما كتبه الجوهري في الصحاح:
” والغَبيطُ الرُحْلُ، وهو للنساء يُشدُّ عليه الهودج؛ والجمع غُبُطٌ.”
وهو ما أراده امرئ القيس في معلقته حين قال:
تَـقُـولُ وقَـدْ مَـالَ الـغَـبِـيْـطُ بِـنَـا مَعا عَقَـرْتَ بَعِـيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْـزِلِ
قل: هذا الأمر يمس كرامتي
ولا تقل: هذا الأمر يمس بكرامتي
وكتب اليازجي: “يقولون هذا الأمر يمس بكرامتي ولا معنى لهذه الباء لأن الفعل متعد بنفسه والصواب يمس كرامتي.” إنتهى
ولتوضيح الفصيح في استعمال الفعل “مس” كتب الجوهري في الصحاح:
” مَسِسْتُ الشيء، بالكسر: أمَسُّهُ مَسًّا، فهذه اللغة الفصيحة….وحكى أبو عبيدة: مَسَسْتُ الشيءَ بالفتح أمُسُّهُ بالضم.”
قل: عَلمَ أنَّ الخبرَ قد شاعَ
ولا تقل: عَلم بأنَّ الخبر قد شاعَ
وكتب عبد الهادي بوطالب: يُقْحَم حرف الباء غلطاً بعد بعض الأفعال فيُقال: “علِمَ بأن الخبر قد شاع” و “قال بأن الاحتفال وقع يوم كذا” و”ذكر بأنه توصل بالاستدعاء” أو “ادعى بأنه لم يتوصل به” و”أخبر بأن فلانا ًكان حاضراً” “وشَهِدَ بِأَنَّ” “وشَهِدَ بِأَنْ” كما تُقْحَم الباء بعد أفعال أخرى.
والصواب حذف الباء. فنقول: “علم أن الخبر شاع” و”قال إن الاحتفال” و”ذكر أنه توصل” و”ادعى أنه لم يتوصل” و”أخبر أن فلاناً” “وشَهِدَ أَنَّ” “وشَهِدَ أَنْ”.
وفي المشرق العربي يجري كثيرا على الألسنة والأقلام إقحام الباء بعد كلمة تفكير وما اشتق منه فيقال: “فكرتُ بكَ”. و”إني أفكر بالقيام بهذا الأمر”. و”لي تفكير بخصوص كذا” والصواب في جميع ذلك استعمال “في” بدلا من الباء. وقد جاء في القرآن: “أَوَ لَمْ يتفكروا في أنفسهم” “ويتفكرون في خلق السموات والأرض”.
ولأن الباء تُقْحَمُ خطأ بدون موجب فقد أطلقتُ عليها الباء الطُّفَيْلِيّة. لكن الباء لابُدَّ منها في “أقرَّ بأنه”. “واعترف بأنه”. “وآمن بأنه أخطأ”، لأنها هنا تقوم بتعددية الفعل. وإذا كان الفعل غير لازمأي متعدياً فلا لزوم لاستعمالها وهو ما جاء في القرآن: “فاعلم أنه لا إله إلا الله” “وأيوب إذ نادى ربه أني مسَّني الضر” ونقول في الشهادتين: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله” ولا نقول: ” أشهد بأن لا إله إلا الله، وبأن محمداً رسول الله”.
قل: نصبوا أجهزة تَنَصُّت
ولا تقل: نصبوا أجهزة تَصَنُّت
كتب خالد العبري: “يستعمل الكثير منا كلمة “التَّصنُّت” قاصدين بها استراق السمع والتجسس على كلام الآخرين، وهذا الأصل “صَنَتَ” لم يرد عن العرب بهذا المعنى أو بمعنى قريب منه قط. إنما الذي ورد “نَصَتَ و أنصَتَ” ومصدره “الإنصات”. يقول المولى عز وجل “وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون”، ويقول “وإذ صرفنا اليك نفراً من الجن يستمعون فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قضي ولوا الى قومهم منذرين”. فالصواب أن نقول “التَّنَصُّت” والفعل منه: “تَنَصَّتَ” على وزن تَفَعَّلَ المزيد بالتاء والتضعيف.”
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….
عبد الحق العاني
27 شباط 2015