إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)
قل: نرجو تزويدنا بآرائكم حول هذا الموضوع
ولا تقل: نرجو تزويدنا بمرئياتكم حول هذا الموضوع
شاع في مراسلات بعض الدوائر الرسمية إستعمال عبارة “مرئيات” ويراد بها “آراء”. ولا أدري كيف وصل إستعمال هذه العبارة هذا التداول الواسع حيث إن استعمال “آراء” وهي جمع “رأي” لم تشبه شائبة وهو معبر وواضح فمن عدل عن الواضح للغامض في القول؟ ولماذا؟ فماذا تعنيه “مرئيات” وهل تعطي معنى أوسع وأعم من “آراء”؟ فهذا ابن فارس كتب في المقاييس في باب “رأي”:
“الراء والهمزة والياء أصلٌ يدلُّ على نظرٍ وإبصارٍ بعينٍ أو بصيرة. فالرَّأي: ما يراه الإنسانُ في الأمر، وجمعه الآراء”.
أما المرئي والمرئية فلم يرد عن العرب أنها استعملت قط لتعني الآراء.
فكتب ابن منظور:
“وقال ابن السكيت: يقال من الرِّئة رَأَيْته فهو مَرْئيٌّ إِذا أَصَبْته في رِئَته.” وهو ولا شك ليس ما يراد هنا.
وجاء في العباب الزاخر:
“النِّسبة إلى امْرِئٍ: مَرَئيٌّ -بفتح الراء-، ومنه المَرَئيُّ الشاعر، وكذلك النسب إلى امرئ القيس؛ وإن شِئتَ امرئيٌّ”. وهو كذلك ليس ما يراد هنا.
ولعل من المفيد التوقف عند ما أورده ابن منظور في باب “عوج” في اللسان حين كتب:
“وفي التنزيل: لا ترى فيها عِوَجاً ولا أَمْتاً؛ قال ابن الأَثير: قد تكرر ذكر العِوَج في الحديث اسماً وفعلاً ومصدراً وفاعلاً ومفعولاً، وهو، بفتح العين، مختص بكل شخص مَرْئيٍّ كالأَجسام، وبالكسر، بما ليس بمَرْئيٍّ كالرأْي والقوْل”.
ونجد فيما ذكره ابن الأثير الدليل على عدم جواز استعمال “مرئي” بمعنى “رأي” ذلك لأنه ذكر أن المرئي هو للأجسام أما الرأي والقول فليس بمرئي. وهكذا فإن من يستعل “مرئي” يريد بها الرأي فأنه يخطئ الهدف لأن الرأي والقول لا يمكن لهما أن يكونا مرئيين.
وكتب ابن منظور في موضع آخر في باب “محا” من اللسان ما يزيد في توضيح استعمال العرب لمعنى “مرئي”:
“فإِن قلت: إِنَّ الأَعلام أَكثر وقوعها في كلامهم إِنما هو على الأَعيان المرئِيَّاتِ، فالريح وإِن لم تكن مرئية فإِنها على كل حال جسم، أَلا ترى أَنها تُصادِمُ الأَجرام، وكلُّ ما صادَمَ الجِرْم جِرْمٌ لا مَحالة، فإِن قيل: ولم قَلَّتِ الأَعلام في المعاني وكثرت في الأَعيان نحو زيد وجعفر وجميع ما علق عليه علم وهو شخص؟ قيل: لأَن الأَعيان أَظهر للحاسة وأَبدى إِلى المشاهدة فكانت أَشبه بالعَلَمِية مما لا يُرى ولا يشاهد حسّاً، وإِنما يعلم تأَمُّلاً واستدلالاً، وليست من معلوم الضرورة للمشاهدة”. فأشار الى أن العرب لا تشير بالمرئي إلا للأجسام فلا يصح أن نشير للرأي أو القول على أنه مرئي.
يبدو مما تقدم ان استعمال “مرئيات” حين يراد بها “آراء” إنما هو خطأ وتكلف ليس له أي مسوغ. فاعدل عنه للصواب وقل: زودونا بآرائكم حول الموضوع.
قل: الدأب والديدن والشاكلة والطريقة والسُّنَّة والجديلة
ولا تقل: الروتين بمعنى الإستمرار على فعْل فِعل واحد
والروتين كلمة فرنسية لها عدة معان منها الإستمرار على عمل بعينه كأنه عادة وهو المراد هنا، وقد سمت العرب ذلك الدأب والديدن والشأن والهجيري والعادة والوتيرة والمذهب والطريقة والشاكلة والسّنة. وأخفها في هذا المعنى “الدأب والشاكلة”. قال ابن فارس في المقاييس: “الدال والهمزة والباء أصل واحد يدل على ملازمة ودوام، فالدأب العادة والشأن قال الفراء: الدأب أصله من دأبت إلا أن العرب حولت معناه الى الشأن…. والدائبان الليل والنهار”. وقال الزمخشري في أساس البلاغة: “يقال فعل ذلك دائباً ومن المجاز: هذا دأبك أي شأنك وعملك قال تعالى “كدأب آل فرعون” واليل والنهار يدأبان في اعتقابهما…. وقال تعلى “وسخر الشمس والقمر دائبين”.
وجاء في لسان العرب: “الدَّأْبُ: العادَة والـمُلازَمَة. يقال: ما زال ذلك دِينَكَ ودَأْبَكَ، ودَيْدَنَكَ ودَيْدَبُونَكَ، كلُّه من العادَة….. والدَّأْبُ والدَّأَب، بالتَّحْرِيك: العادةُ والشَّأْن….. وفي الحديث: عليكم بقيامِ الليلِ، فإِنه دَأْبُ الصالحِينَ قَبْلَكم….. وقوله، عز وجل: مثلَ دَأْبِ قومِ نوحٍ؛ أَي مِثلَ عادةِ قوم نوحٍ، وجاءَ في التفسير: مثلَ حالِ قَومِ نوحٍ. الأَزهري: قال الزجاج في قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَون؛ أَي كشأْنِ آل فِرْعون، وكأَمـْرِ آل فِرْعون؛ كذا قال أَهل اللغة….. وكلُّ ما أَدَمْتَه فقد أَدْأَبْتَ”. فالأداب هو الإدامة.
وأخف من الدأب للروتين كلمة الشاكلة، قال تعالى: “قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا” قال الجوهري في الصحاح” “كل يعمل على شاكلته أي جديلته وطريقته ووجهته”.
وقال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين في ترجمة ابراهيم بن عبد الله الحسني، قتيل باخمرا: “كان ابراهيم بن عبد الله جارياً على شاكلة أخيه محمد في الدين والعلم والشجاعة والشدة”.
وجاء في كتاب الخليفة الراضي العباسي الخاص بابن أبي عون: “ولما ورث أمير المؤمنين ميراث أوليائه وأحله الله محل خلفائه اقتدى بسنتهم وجرى على شاكلتهم في كل أمر قاد الى مصلحة ودفع ضرر وعاد على الإسلام وأهله بمنفعة”.
وجاء في رسالة الحاتمي في وصف المتنبي: “ويأبى إلا ازوراراً ونفاراً وجرياً على شاكلة خلقه المشكلة”. فاللغة العربية غنية لا تحتاج الى “الروتين” وعندها الدأب والشاكلة وغيرهما، وليست الروتين كلمة صناعية ولا طبية ولا فنية حتى يتعصب لها هذا التعصب. (م ج)
قل: قد نَقَهَ فلانٌ من المرض
ولا تقل: قد نَقِهَ فلانٌ من المرض
وكتب الكسائي: “ويقال: قد نَقَهَ فلان من المرض بفتح القاف، ونَقِهتُ الحديث إذا فهمته، بكسر القاف. قال الشاعر:
يا أيّها البدرُ الكريمُ الأروعْ
انْقَهْهُ عنِّي ما أقولُ واسمَعْ
ومنه قولهم:فلانٌ لا يَفقَهُ ولا يَنقَهُ”. بمعنى لا يفهم ولا يفقه.” انتهى
وخالف الجوهري الكسائي فكتب في الصحاح:
“نَقِهَ من مرضه بالكسر نَقَهاً، وكذلك نقه نُقوهاً، فهو ناقِهٌ، إذا صحَّ وهو في عقب علَّته……. ويقال أيضاً: نَقِهَ الكلامَ نَقَهاً، ونَقَهَهْ بالفتح نَقَهاً، أي فهمه.”
أما ابن فارس فقد أخذ برأي الكسائي فميز بين الإثنين فكتب في المقاييس:
“ونَقَهَ من المَرَض نُقُوهاً: أفاق، فهو نَاقِهٌ……. ويقولون: نَقِهَ الحديثَ مثل فهم، بكسر القاف، فرقاً بينه وبين الأوّل.” إنتهى
قل: هو في طور النُّقْهِ
ولا تقل: هو في طور النَّقَاهَةِ
وشاع خطأ آخر من ذلك الخلط حين يقول الناس “هو في طور النقاهة” يريدون به “النُّقْه”. فلم يسمع من العرب استعمالهم “نقاهة” في البرء من المرض، فقد جاء في لسان العرب في باب “نقه”:
“ونَقِهْتُ الخبرَ والحديثَ، مفتوح مكسور، نَقْهاً ونُقُوهاً ونَقاهةً ونَقَهاناً وأَنا أَنْقَهُ. قال ابن سيده: نَقِهَ الرجل نَقَهاً واسْتَنْقَهَ فَهِمَ.”
أما حين استعمل الفعل “نقه” سواء بالفتح أم بالكسر لإفادة الإفاقة من المرض فقد جاء المصدر كما في اللسان:
“ونَقِهَ من مرضه، بالكسر، ونَقَهَ يَنْقَهُ نَقْهاً ونُقُوهاً فيهما: أَفاق وهو في عَقِبِ علَّتِهِ.”
وهكذا يبدو واضحاً أنه لم يسمع عن العرب استعمال “نقاهة” مصدر الإفاقة من المرض بينما جاءت مصدراً في فهم الحديث.
فقل إن الرجل في طور النِّقُوه” أو “النُّقْه” ولا تقل هو في طور “النقاهة”.
قل: أمدَدته بالمال والرجال
ولا تقل: مَدَدته بالمال والرجال
وكتب إبن قتيبة: و” أمْدَدْتُه بالمال والرجال ” و “مَدَدْتُ دَوَاتي بالمِداد” قال الله عزّ وجلّ: “والبحرُ يَمُدُّهَ منْ بعدِهِ سبعةُ أبحر هو من المِداد، لا من الإمدادِ و ” مَدَّ الفُرَاتُ “، و ” أمدَّ الجرحُ ” إذا صارت فيه مِدَّةٌ.” إنتهى
وكتب ابن فارس في المقاييس:
“الميم والدال أصلٌ واحدٌ يدلُّ على جَرِّ شيءٍ في طول، واتّصال شيء بشيء في استطالة. تقول: مدَدْت الشيءَ أمدُّه مَدَّاً.”إنتهى
وقال عز من قائل في مد: “والبحر يَمُدُّه من بعده سبعة أبحر”، وقال في أمد “وامددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون”.
قل: أَبَاد الله غَضْرَاءَهُم
ولا تقل: أَبَاد الله خَضْرَاءَهُم
وكتب إبن السكيت: “ويقال: أَبَاد الله غَضْرَاءَهُم، أي خيرهم وغضارتهم، ويقال: بنو فلان مَغْضُورون، إذا كانوا في غضارة من العيش، قال الأصمعي: ولا يقال خَضْرَاءَهُم، قال: والغَضْرَاء طينة خَضْرَاء علكة.” إنتهى
وقد اختلف أهل اللغة في هذا الدعاء. فقد شاع أنه “أباد الله خضراءهم” وجمع ابن منظور ذلك الخلاف في لسان العرب فكتب:
“وقولهم: أَباد اللهُ خَضْراءَهُمْ أَي سوادَهم ومُعظَمَهُمْ، وأَنكره الأَصمعي وقال: إِنما يقال: أَباد الله غَضْرَاءَهُمْ أَي خيرهم وغَضَارَتَهُمْ، واخْتُضِرَ الشيءُ: أُخذ طريّاً غضّاً…….وقال الزمخشري: أَباد الله خضراءهم أي شجرتهم التي منها تفرعوا، وجعله من المجاز….. وقال ابن سيده: أَباد الله خَضْرَاءَهُم، قال: وأَنكرها الأَصمعي وقال إِنما هي غَضْراؤُهم….. وقال ابن الأَعرابي: أَباد الله خضراءهم أَي سوادهم ومعظمهم…… والخُضْرَةُ عند العرب: سواد…..وقال أَحمد بن عبيد: أَبادَ اللّه خَضْراءَهم وغَضْراءَهم أَي جماعتهم.” وفوق كل ذي علم عليم!
قل: فعل غيره من الناس ذلك
ولا تقل: فعل الغير ذلك
وكتب الحريري: “ويقولون: فعل الغير ذلك، فيدخلون على غير آلةالتعريف، والمحققون من النحويين يمنعون من إدخال الألف واللام عليه، لأن المقصود في إدخال آلة التعريف على الاسم النكرة أن تخصصه بشخص بعينه، فإذا قيل: الغير، اشتملت هذه اللفظة على ما لا يحصى كثرة، ولم يتعرف بآلة التعريف، كما أنه لا يتعرف بالإضافة، فلم يكن لإدخال الألف واللام عليه فائدة، ولهذا السبب لم تدخل الألف واللام على المشاهير من المعارف مثل دجلة وعرفة وذكاء ومحوة لوضوح اشتهارها والاكتفاء عن تعريفها بعرفان ذواتها.
ونظير هذا الوهم قولهم: حضرت الكافة، فيوهمون فيه أيضا على ما حكاه ثعلب فيما فسره من معاني القرآن، كما وهم القاضي أبو بكر بن قريعة حين استثبت عن شيء حكاه، فقال : هذا ترويه الكافة عن الكافة والحافة عن الحافة ، والصافة عن الصافة، والصواب فيه أن يقال: حضر الناس كافة، كما قال سبحانه وتعالى: “ادخلوا في السلم كافة” لأن العرب لم تلحق لام التعريف بكافة كما لم تلحقها بلفظة معا ولا بلفظة طرا.
ومن حكم لفظة كافة أن تأتي متعقبة، فأما تصديرها في قوله تعالى: “وما أرسلناك إلا كافة للناس” فقيل: إنه مما قدم لفظه وأخر معناه وإن تقدير الكلام: وما أرسلناك إلا جامعا بالإنذار، والبشارة للناس كافة، كما حمل عليه قوله تعالى: “وغرابيب سود” على التقديم والتأخير، لأن العرب تقدم في هذا النوع لفظ الأشهر على الأغرب، كقولهم: أبيض يقق، وأصفر فاقع، وأسود حالك.
وقيل إن كافة في الآية بمعنى كاف، وإلحاق الهاء به للمبالغة كالهاء في علامة ونسابة. ومن أوهامهم مما يدخلون عليه لام التعريف والوجه تنكيره قولهم: فعل ذلك منالرأس لأن العرب تقول: فعله من رأس، من غير أن تلحق به الألف واللام.”
قل: حَرَصْتُ على الشيءِ
ولا تقل: حَرِصْتُ على الشيءِ
كتب الضبي: “وتقول: حَرَصْتُ على الشيءِ أحرِصُ. ولا تقل: حَرِصْت.” إنتهى
ولم يعرف عن العرب قولهم “حَرِصْتُ” فقد كتب الجوهري في باب “حرص” في الصحاح:
” الحِرْصُ: الجَشَعُ…… وقد حَرَصَ على الشيء يَحْرِصُ بالكسر، فهو حَريصٌ.” إنتهى
وقال العزيز الغفار في ماضي الفعل: “وما أكثر الناس ولو حَرَصْتَ بمؤمنين” وقال عز من قائل في مضارعه: “إنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ”.
قل: هناك رُجحانٌ لتوسيع مفهوم الإرهاب
ولا تقل: هناك رَجحانٌ لتوسيع مفهوم الإرهاب
وكتب عبد الهادي بوطالب: في برنامج تلفزي خليجي سمعت أحد المناظرين يقول: “أخذ يبدو أن هناك رَجَحَاناً لتوسيع مفهوم الإرهاب إلى حد إدماج مقاومة الاحتلال فيه”. والصواب رُجْحَان.
رَجَحَ يَرْجَحُ رُجوحاً ورُجْحاناً ورَجاحةً فهو راجح الشيءُ ثَقُل، أو اكتمل، أو زاد على غيره، أو غلب على غيره وفاقه. ونقول: “رجَحت إحدى كَفَّتي الميزان على الأخرى”.
والراجح هو ما يزيد من الأحكام قيمةً على سائرها. فنقول: “يعمل الفقهاء بالراجح لا بالمرجوح ويفضلون الأرجح (أيالأكثر قيمة) أي يقدِّمونه في الاستِدْلال على الراجح”.
ولم يَرِدْ في مصدر رَجَح رَجَحان. وإنما جاء في كلمات هَذَيَان، وغثَيَان، وشَنَآن على سبيل المثال.
قل: يجب أن لا تفعل كذا
ولا تقل: لا يجب أن تفعل كذا
وكتب اليازجي:”ويقولون لا يجب أن تفعل كذا أي يجب أن لا تفعل ولا يخفى الفرق بين نفي الوجوب ووجوب النفي فإنه على الأول يبقى الفعل جائزاً وبخلافه على الثاني كما يظهر بأدنى تأمل”.
وكتب عبد الهادي بوطالب: وهذا تعبير آخر يشيع فيه الخطأ إذ يقول البعض: “لا يجب أن نشتغل بهذا الموضوع” بدلا من القول: “يجب ألاَّ نشتغل بهذا الموضوع”. والفرق بين التعبيرين واضح: إن تعبير “يجب ألاَّ نفعلَ كذا” يعني تركَ الفعل وجوباً والنهيَ عنه. بينما تعبير: “لا يجب أن نفعل” يعني أن الفعل المتحدَّث عنه غير واجب بل هو جائز أو مقبول.
عبد الحق العاني
12 كانون الثاني 2015