إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)
قل: مبارك لكم هذا الغلام
ولا تقل: مبروك لكم هذا الغلام
شاع بين عامة الناس ودخل في الكتابة والإعلام إستعمال لفظة “مبروك” لتعني “مبارك”. كما يحدث حين يبارك أحدهم للآخر فيقول له على سبيل المثال “مبروك لكم الغلام الجديد”، وهو يريد أن يقول “مبارك لكم هذا الغلام الجديد”. وهذا من شنيع القول لا يصح في العربية ولا تقبله الأّذن العربية السليمة. ذلك لأن “مبروك” يقاس على انه إسم مفعول من الفعل برك لكن اسم المفعول كما يتعلم طالب الثانوية هو “الإسم الذي يشتق من الفعل المبني للمجهول للدلالة على وصف من وقع عليه الفعل، ولا يصاغ اسم المفعول إلا من الأفعال المتعدية”، ومن ذلك: أُكل فهو مأكول وشُرب فهو مشروب ووُعد فهو موعود.
لكن الفعل برك فعل لازم غير متعد وعرفه ابن فارس في المقاييس بقوله:
“الباء والراء والكاف أصلٌ واحدٌ، وهو ثَباتُ الشيءِ، ثم يتفرع فروعاً يقاربُ بعضُها بعضاً. يقال بَرَك البَعيرُ يَبْرُكُ بُرُوكاً. قال الخليل البَرْك يَقَعُ على ما بَرَك مِن الجِمال والنُّوق على الماء أو بالفلاة، من حرِّ الشمس أو الشِّبع، الواحد باركٌ، والأنثى باركة.”
وهذا سبب أن لفظة “مبروك” لم تأت في أي من معاجم العربية حيث إن العرب لا تشتق اسم المفعول من الفعل اللازم إذ لا معنى لوقوع الفعل على الشيء الذي لا وجود له أصلاً.
وكتب الجوهري في الصحاح:
“والبَرَكَةُ: النماءُ والزيادةُ…… والتَبْريكُ: الدعاءُ بالبَرَكَةِ…….. وطعامٌ بَريكٌ، كأنه مبارَكٌ……… ويقال بارَكَ الله لك وفيك وعليك، وبارَككَ…….. وقال تعالى: “أن بورِكَ مَنْ في النارِ. الله، أي بارَكَ، مثل قاتَلَ وتَقاتَلَ، إلاَّ أن فاعَلَ يتعدّى وتفاعل لا يتعدّى”.
فيكون “مبارك” اسم المفعول من الفعل “بارك”. وهو المطلوب هنا.
وقد أدرك النصارى الإستعمال السليم. فما زلت أذكر من صباي صديق العمر عماد خدوري وهو يقرأ الصلاة في أول الدرس وفي آخره مردداً في السيدة العذراء (ع) “مباركة أنت في السماء ومبارك ثمرة بطنك يسوع”. فأتذكر كيف كان العراق حين كان الطالب المسلم الولادة والنشأة مثلي يلتحق بمدرسة اقامها الآباء اليسوعيون في العراق فيمكن لهم ولأبناء النصارى في العراق من أداء شعائرهم الدينية في حرية تامة ثم أقيس ذلك بما آل اليه العراق الآن على يد ظلمة الجهل وتخلف “اللطامة” و”الصحوة” و”البيشمركة”!
قل: رأيت أضواءاً وطفت أنحاءاً وعرضت آراءاً وعددت أسماءاً
ولا تقل: رأيت اضواءَ وسمعت أنباءَ وطفت أنحاءَ
فهذه الأسماء وأمثالها من أسماء الجنس الثلاثية مصروفة أي قابلة للتنوين في أنواع الإعراب الثلاثة: الرفع والنصب والجر إذا كانت نكرات كما جئت بها في الأمثلة. أما الأسماء الممدودة الممنوعة من الصرف فهي المختومة بألف تأنيث مفردة كانت أو جمعاً، فالمفردة مثل عذراء وسوداء وحسناء والجمع مثل أنبياء وعقلاء وأوداء وأعزاء.
وأما “أشياء” فقد منعت من الصرف أي التنوين كقوله تعالى “لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم” لأنهم اختلفوا في أصل كلمة “شيء” أثلاثية هي أم رباعية” ومجيئها ممنوعة من الصرف في القرآن الكريم يدل على أن أصلها رباعي ثم اختصرت، كأن يكون أصلها “شييء” مثل “نبي” فجمعت على “أشيياء” مثل أنبياء ثم اختصرت فقيل “أشياء” لثقل أشيياء على اللسان ويقيت ممنوعة من الصرف للدلالة على أصلها. وقيل جُمع الشيء أيضاً على “أشاوي” و “أشايا” و “أشاوات” و “أشياوات” وقلب الهمزة واواً يدل على أن الأصل رباعي وأنها لمد ألف التأنيث. (م ج)
قل: جلستُ على شاطئ النهر
ولا تقل: جلست على شط النهر
وكتب الكسائي: “وتقول: جلست على شاطئ النهر بالألف، والدليل على ذلك، قول الله تعالى: “من شاطئ الواد الأيمن”. والشط بغير ألف هو السنام، قال الشاعر:
كأن تحت ثوبها المُنْعَطِّ
إذا بدا منها الي تُغَطّي
شَطَّاً رميت فوقه بِشَطِّ
لم يعلُ في البطنِ ولم يَنْحَطِّ”.
وخالف الجوهري الكسائي في هذا فكتب في باب شطأ:
“شَطْ، الزَرْعِ والنباتِ: فِراخُهُ، والجمع: أشطاءُ…… وقد أَشْطَأَ الزَّرعُ: خرج شَطْؤُهُ. قال الأخفش: في قوله تعالى: “أَخْرَجَ شَطْأَهُ” أي طَرَفَهُ. أبو عمرو: شطَأت الناقة شَطْأً، شَددْتُ عليها الرَحْلَ………….. وشاطئُ الوادي: شَطُّهُ، وجانبُهُ.” فعرف الشاطئ بالشط ما يعني أن الشط أصل عنده.
ووافقه صاحب القاموس فكتب:
“والشَّطُّ: شاطئ النَّهرِ…. ج: شُطوطٌ، وشُطَّانٌ، بضمِّهما، وجانب السَّنامِ، أو نِصفُهُ”
ومهما كان الصحيح فإن أهل العراق ما زالوا، كما كانوا في عهد الكسائي، يستعلمون كلمة “الشط” يريدون بها جانب النهر، فتسمع العراقي اليوم يقول “رايح للشط”.
قل: صعدنا إلى صَفْحِ الجبل
ولا تقل: صعدنا إلى سَفْحِ الجبل
وكتب إبن قتيبة: و”هو صَفْح الجبل” لوجه الجبل، مثل صفح الوجه، ومنه الحديث أن موسى صلى الله عليه وسلم “مر وهو يلبِّي وصِفَاحُ الرَّوْحَاء تُجاوبه” ولا يقال سَفْح إلا لما سَفَحَ فيه الماء، وهو أسفل الجبل، فأما السفح الذي ذكره الأعشى في قوله ” ترتَعِي السَّفْح ” فإنه موضع بعينه.”
قل: مَلِلْتُ من الشيء
ولا تقل: مَلَلْتُ من الشيء
كتب الضبي: “وقد مَلِلْتُ من الشيء، أي: ضَجِرْتُ منه، مَلالاً. ولا تقل: مَلَلْتُ. إنما يقال: مَلَلْتُ الخبزَ في النار.”إنتهى
وكتب الجوهري في الصحاح:
“مَلِلْتُ الشيءَ بالكسر، ومَلِلْتُ منه أيضاً مَللاً ومَلَّةً ومَلالَةً، إذا سئمتَهُ.”
واضاف ابن فارس في المقاييس:
“الميم واللام أصلانِ صحيحان، يدلُّ أحدهما على تقليب شيء، والآخر على غَرَضٍ من الشَّيء.فالأوَّل مَلَلْتُ الخُبزة في النّار أمُلُّها مَلاًّ، وذلك تقليبك إيَّاها فيها…… والمَلَّة: الرَّماد أو التُّرابُ الحارّ……… ويقال: أطعمنا خبزَ ملّةٍ وخبزةً مليلاً………. وباتَ يتملمَلُ على فِراشه، أي يَقْلَق ويتضَوَّر عليه، حتَّى كأنَّه على مَلَّة؛ والأصل يتملّل”.
قل: رُفِعَ عن أُمَّتي الخَطأُ والنِّسْيانُ
ولا تقل: رُفِعَ عن أُمَّتي الخَطأُ والنَّسْيانُ
كتب البستي: “وقولُهُ، صلّى الله عليه وسلّم: “رُفِعَ عن أُمَّتي الخَطأُ والنِّسْيانُ”. العامَّةُ يقولونَ: النّسَيَان، على وَزْنِ الغَلَيَان. وإنَّما هو النِّسْيانُ، بكسر النون ساكِنة السين. والخَطَأُ مهموزٌ غير ممدودٍ. يُقالُ: أَخْطَأَ الرجلُ خَطَأً إذا لم يُصِبِ الصوابَ أو جَرَى منه الذَّنْبُ وهو غير عامِدٍ. وخَطِئَ خَطيئةً، إذا تَعَمّدَ الذَّنْبَ. قالَ اللهُ تعالى: “ومَنْ يكسِبْ خطيئةً أو إثْماً ثم يَرْمِ بهِ بريئاً فقد احتملَ بُهتاناً وإثْماً مُبِيناً”.
قل: هذه تجارِبُ الأمم
ولا تقل: هذه تجارُبُ الأمم
وكتب عبد الهادي بوطالب: ويتسرَّب إلى العربية من لهجاتها المحلية كلمات يَنطِق بها البعضُ خطأً كما يُنطَق بها في اللهجات التي يصفها البعض بالعامية. ومن بينها كلمة تجارُب (بضم الراء) كما يُنطَق بها في اللهجة المصرية. وهي جمع تجرِبة (بكسر الراء) ولا يأتي الجمع من تجرِبة على وزن تفاعُل (تجارُب) لكن من ينطقون بالكلمة مضمومة الراء في الجمع يقولون خطأ كذلك “تجرُبة” في المفرد. والصواب تجرِبة(على وزن تفعِلة كتَكْمِلة) وتجارِب (على وزن تفاعِل). واللهجة المصرية تميل في عدد من الكلمات إلى وضع الضمة بدلا من الكسرة أو الفتحة. إذ يقال
التُّجارة (بضم التاء) بدلا من التِّجارة (بكسر التاء). كما تضع اللهجة المصرية الضمة بدل الفتحة على أول الكلمة في لفظ خَسارة، إذ يقال خُسارة.
وتجرِبة بكسر الراء على وزن تَفْعِلة مصدر قياسي مثَلها مثَل تعبِئة، وتقوية، وتزكية. لكن صيغ مصدر فعل هَلَك على وزن تهلُكة بضم اللام. وهذا نادر: “ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلُكة” (قرآن كريم).لكن وزن تَهلِكة بكسر اللام ورد في مصدر هلك أيضا. ولأن مصدر تفعُلة نادر فقد سماه بعض النحاة اسم مصدر وليس مصدراً فهذا وزنه هو تَفْعِلة. وقرأ الخليل بن أحمد الفراهيدي مؤلف أول معجم عربي اسمه “العين” وواضع علم العروض التهلُكة في الآية أعلاه بكسر اللام.
قل: أضيف الشيء إليه
ولا تقل: إنضاف الشيء إليه
كتب الحريري: “ويقولون: انضاف الشيء إليه وانفسد الأمر عليه، وكلا اللفظين معرة لكاتبه والمتلفظ به إذ لا مساغ له في كلام العرب ولا في مقاييس التصريف. ووجه القول أن يقال: أضيف الشيء إليه وفسد الأمر عليه والعلة في امتناع انفعل منهما أن مبنى فعل المطاوعة المصوغ على انفعل أن يأتي مطاوع الثلاثية المتعدية كقولك: سكبته: فانسكب وجذبته فانجذب، وقدته فانقاد، وسقته فانساق، ونظائر ذلك، وضاف وفسد، إذا عديا بهمزة النقل فقيل: أضاف وأفسد صارا رباعيين فلهذا امتنع بناء انفعل منهما. فإن قيل: نقل عن العرب ألفاظ من أفعال المطاوعة بنوها من انفعل فقالوا: انزعج، وانطلق، وانقحم، وانحجر، وأصولها أزعج وأطلق وأقحم وأحجر فالجواب عنه أن هذه شذت عن القياس المطرد، والأصل المنعقد كما شذ قولهم: انسربالشيء المبني من سرب، وهو لازم والشواذ تقصر على السماع، ولا يقاس عليها بالإجماع.”
قل: أجلي القوم عن المكان
ولا تقل: إنجلى القوم عن المكان
وكتب اليازجي: “ويقولون إنجلى القوم عن المكان أي خرجوا منه ولا يأتي انجلى بهذا المعنى والصواب جلوا وأجلوا وقيل أجلوا من الخوف وأجلوا من الجدب وهذا أوان جلائهم بالفتح.” إنتهى
ولا بد أن يتذكر من تابع هذه السلسلة أن أستاذنا العالم الجليل مصطفى جواد له رأي في أفعال المطاوعة إختلف فيه مع علماء العربية وعاب على الجوهري استعماله للفعل (انطرد). فكتب رحمه الله “ان (انفعل) في اللغة يصاغ لرغبة الفاعل في الفعل، إرادية كانت كانصرف وانطلق وانحاز وانضم، أو طبيعية كانجاب الغيم وانقشع واندفن النهر، لا بتأثير مؤثر خارجي وهو ما سموه المطاوعة ونحن لا نطاوعهم فيها”. وهذا يفسر ما ذهب اليه اليازجي دون أن يشرحه.
فقد كتب صاحب القاموس في باب جلا:
” جَلاَ القَوْمُ عن المَوْضِعِ، و~ منه جَلْواً وجَلاءً، وأَجْلَوْا: تَفَرَّقُوا”.
وكتب الجوهري في الصحاح:
” وانْجَلى عنه الهمُّ، أي انكشفَ”.
فيكون اليازجي موافقاً لجواد في أن القوم ليسوا راغبين في الجلاء مما يمنع اشتقاق فعل المطاوعة (انجلى) لوصف جلائهم خلاف الحال مع الهم الذي ينجلي برغبته.
قل: قَوَّمْتُ البضاعةَ تَقويما
ولا تقل: قَيَّيَمتُ البضاعةَ تقييما
وكتب مصطفى جواد: “يقال “قوّمت البضاعة أو ما جرى مجراها، أقوّمها تقويماً” أي عيّنت قيمتها أعينها تعييناً. ولا يشتق الفعل من القيمة فمن الخطأ المبين قولهم “قيمت البضاعة وتقييم البضاعة.”
واضاف عدنان النحوي قائلاً:”الفعل: قَوَّمَ، ولها معنيان: قَوَّمَ السلعة: قَدَّر قيمتها. وقَوَّمته: أي عدلته فهو قويم ومستقيم.. والقيوم: الذي لا نِدَّ له. ومصدر قَوَّم في جميع الحالات تقويم فلا يوجد تقييم فنقول: قَوَّم السلعة تقويما…… وقوَّم الأمر أي عدله تقويما.فكلمة تقييم خطأ لا يجوز استعماله.”
إلا ان الأستاذ الفاضل ابراهيم السامرائي خالف جواد فكتب:
“وقرأت: “جهود مكثّفة لتقييم نتائج الاستفتاء “. ……….ثم إن (التقييم) معناه تعيين قيمة الشيء، وهذا المصدر للفعل (قيَّم) جديد، وقد أخذ الفعل والمصدر من الاسم (قيمة)، وتوهّم الآخذون أن الياء في (قيمة) حرف أصلي فأثبتوه في الفعل والمصدر.
وحقيقة اللفظ أن (قيمة) وزان (فِعلة) من الفعل (قام يقوم)، والياء فيها من الواو، ولذلك حين احتاج المعربون في القرون التي خلت إلى حساب القيمة وضبطها جعلوا الفعل مزيداً وأثبتوا الواو فقالوا: قوَّم السلعة، أي أعطاها قيمتها وسعرها.
على أن هذا قد هجر في الاستعمال في عصرنا واستُبدل به (التقييم) في المعنى نفسه، وجُعل (التقويم) خاصاً بدلالة أخرى، وكأنه بمعنى (التربية)، يقال: تقويم الأحداث. على أنك تجد (التقويم) مفيداً شيئاً من معناه القديم كأن يقال تقويم نتائج الامتحانات العامة.
عبد الحق العاني
16 كانون الأول 2014