إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)
قل: ثبت ذلك بدلالة كذا وكذا، وهذا ثابت بدلالة كذا وكذا
ولا تقل: بدليل كذا وكذا
وذلك لأن موضع هذا موضع المصدر أو ما يقوم مقامه وهو إسم. فأنت تقول: ثبت هذا بدلالة ما قدمنا من القول كما تقول: ثبت الحق بشهادة فلان وأنت لا تقول: ثبت الحق بشاهد فلان لأن فلاناً هو الشاهد.
قال ابو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة: “فإن الحد راجع الى
واضعه ومنقيه بدلالة أنه يضعه ويفصله ويخلصه ويسويه ويُصلحه”.
وقال ابو الفتح ابن جني في كتابه سر صناعة الإعراب: “لأن التذكير هو الأصل بدلالة أن الشيء مذكر وهو يقع على المذكر والمؤنث”. هكذا كان يقال في القرن الرابع للهجرة وفيما قبله ثم نشأ قولهم “بدليل كذا وكذا” ومن المؤسف أننا نرى هذا الخطأ كثيراً في كتب النحويين الذين عليهم المعول في حفظ اللغة من اللحن والسبب في شيوعه في كتبهم كونهم من الأعاجم العائشين في بلادهم فإذا غلط بعضهم قادوه في غلطه. (م ج)
وكتب عبد الهادي بوطالب: “يقع خطأ في ضبط الدال المشددة، فيكسرها البعضويفتحها البعض، ولكل منهما معنى خاص به.فالدَّلالة بفتح الدال آتية من فعل دَلَّ بمعنى أشار وأَرشد. فنقول: “دلَّه على الطريق” أي أرشده إليه. واسم الفاعل من فعل دَلَّ هو الدَّالُّ (بتشديد اللام). وقد ورد في القول المشهور: “الدَّالُّ على الخير كفاعله”. وجاء في القرآن في ذكر سليمان: “ما دَلَّهُم على موتِه إلا دَابَّةُ الأرضِ تأكل مِنْساتَه”.أما في الدَّلالة (بفتح الدال وتشديده) فقد قيل: “دَلالة المَبنَى تدلُّ على دَلالة المعنى”. وبعض المعاجم اللغوية ذكرت كلمة دِلالة (بكسر الدال) مع كلمة دَلالة مصدرين ولكن منهجيتي تجعلني أنصح بالاقتصار على استعمال الدَّلالة بالفتح في الإشارة والإرشاد، واستعمال كلمة الدِّلالة (بكسر الدال) لبيان حِرْفة الدَّلال أو أجرته.
والدَّلاَّل هو من يحترف الوساطة بين البائع والمشتري، أو من يُعلِن عن الأثمان في سوق الدِّلالة. وفي المعنى الأول يصبح مقتربا من كلمة سمسار، أي الذي يتوسط لإنجاز صفقة البيع.”انتهى
وحين قرأت هذا عجبت كيف يمكن لمن يجعل نفسه عالماً بالعربية أن يمنع العرب من هذا الثراء في لغتهم فيسلبهم ما عرفه العرب وقبلوه سمعاً وقياساً منذ القدم؟ فقد كتب ابن منظور في اللسان:
“دَلَّه على الشيء يَدُلُّه دَلاًّ ودَلالةً فانْدَلَّ: سدَّده إِليه، ودَلَلْته فانْدَلَّ؛ قال الشاعر: ما لَكَ، يا أَحمقُ، لا تَنْدَلُّ؟ وكيف يَنْدَلُّ امْرُؤٌ عِثْوَلُّ؟…… وقد دَلَّه على الطريق يَدُلُّه دَلالة ودِلالة ودُلولة، والفتح أَعلى.” فأجاز الإثنين. ثم قال في موضع آخر من الباب نفسه:
“والدَّلاَّل الذي يجمع بين البَيِّعَيْن، والاسم الدَّلالة والدِّلالة، والدِّلالة: ما جعلته للدَّليل أَو الدَّلاَّل.”
وكتب الجوهري في الصحاح:
” وقد دَلَّهُ على الطريق يَدُلُّهُ دَلالَةً ودِلالَةً ودُلولَةً، والفتح أعلى.”
وكتب ابن فارس في المقاييس:
” هو بيِّن الدَّلالة والدِّلالة”.
وهكذا يبدو أنه لا يصح للكاتب أن يدعو عرب اليوم لنبذ ما أقره السابقون من تنوع اللسان وثروته.
قل: سَخِرتُ من فلان
ولا تقل: سَخِرتُ بفلان
وكتب الكسائي: ” وتقول سَخِرتُ من فلان بالميم ولا تسخر منه. ولا يقال سخرت بفلان بالباء. قال الله جل وعزَ “لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم”. إنتهى
إلا ان الفيروزأبادي خالف ذلك فكتب في القاموس:
” سَخِرَ منه وـ به، كفَرِحَ، سَخْراً وسَخَراً وسُخْرَةً ومَسْخَراً وسُخْراً وسُخُراً: هَزِئَ”.
وأخذ عنه ابن منظور فكتب في القاموس:
” سَخِرَ منه وبه سَخْراً وسَخَراً ومَسْخَراً وسُخْراً، بالضم، وسُخْرَةً وسِخْرِيّاً وسُخْرِيّاً وسُخْرِيَّة: هزئ به.”
لكن الجوهري وافق الكسائي فكتب في الصحاح:
” سَخِرْت منه أَسْخَرُ سَخَراً بالتحريك، ومَسْخَراً وسُخْراً بالضم”. فلم يقل بجواز القول “سخر به”.
وعلق ابن فارس في المقاييس على ذلك بقوله:
“ومن الباب: سَخِرت منه، إذا هزئت به.
ولا يزالون يقولون: سخِرت به، وفي كتاب الله تعالى: فإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُون.” وكأنه عاب عليهم قولهم “سخرت به”.
ولا أدري من أين جاء الفيروزأبادي بقوله “سخر به”؟ حيث إنه لم يأت بشاهد واحد من شعر العرب استعمل فيه الحرف “به” مع الفعل “سخر”. والعربية لغة سماع فكيف أجاز لنفسه ذلك دون شاهد؟
هذا إلى جانب أن القرآن الكريم وهو فصل الخطاب لم يأت إلا بالحرف “من” مع الفعل “سخر”، فقال عز من قائل: “فيسخرون منهم سخر الله منهم” وقال العزيز الغفار “إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون” وقال عز من قائل “لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم”.
قل: أبصرَتُ بعيني
ولا تقل: بَصُرتُ بعيني
كتب إبن قتيبة: ” بَصُرْتُ ” من البصيرة أي: علمتُ. قال الله عزّ وجلّ: “بَصُرْتُ بما لم يَبْصُروا بِهِ”، و ” أَبْصَرْتُ ” بالعين.”
وكتب الجوهري في الصحاح:
” وبَصُرْتُ بالشيء: عَلِمْتُهُ. قال الله تعالى: “بَصُرْتُ بما لم يَبْصُروا به”……. وأَبْصَرْتُ الشيءَ: رأيته.”
وكتب ابن فارس في المقاييس:
” الباء والصاد والراء أصلان: أحدهما العِلْمُ بالشيء…… يقال بَصُرْتُ بالشيءِ إذا صِرْتَ به بصيراً عالماً، وأبْصَرتُه إذا رأيتَه”.
قل: سُرِرْتُ برؤية فلان
ولا تقل: سُرِرْتُ برؤيا فلان
كتب الحريري: ويقولون سررت برؤيا فلان إشارة إلى مرآه، فيوهمون فيه، كما وهم أبو الطيب في قوله لبدر بن عمار، وقد سامره ذات ليلة إلى قطع من الليل:
مضى الليل والفضل الذي لك لا يمضي
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
والصحيح أن يقال: سررت برؤيتك، لأن العرب تجعل الرؤية لما يرى في اليقظة، والرؤيا لما يرى في المنام، كما قال سبحانه إخباراً عن يوسف عليه السلام: “هذا تأويل رؤياي من قبل”.
ويجانس هذا الوهم قولهم: أبصرت هذا الأمر قبل حدوثه. والصواب فيه أن يقال: بصرت بهذا الأمر لأن العرب تقول: أبصرت بالعين، وبصرت من البصيرة، ومنه قوله تعالى: “قال بصرت بما لم يبصروا به” وعليه فسر قوله تعالى: “فبصرك اليوم حديد”، أي علمك بما أنت فيه اليوم نافذ، وإلى هذا المعنى يشار بقولهم: هو بصير بالعلم.”
قل: حَسَرتُ العمامة على رأسي
ولا تقل: حَسِرتُ العمامة على رأسي
وكتب إبن السكيت: “ويقال: قد حَسَرت العمامة على رأسي، وحَسَرت كمي عن ذراعي أحسِره حَسْرًا، وقد حَسِر الرجلُ يَحْسَرُ حَسَرًا وحَسْرة، إذا تلهف على ما فاته.” إنتهى
وتوسع ابن منظور في ذلك فكتب في اللسان:
“حَسَرَ عن ذراعيه، وحَسَرَ البَيْضَةَ عن رأْسه، وحَسَرَتِ الريحُ السحابَ حَسْراً. الجوهري: الانحسار الانكشاف. حَسَرْتُ كُمِّي عن ذراعي أَحْسِرُه حَسْراً: كشفت………. حَسِرَتِ الدابة حَسَراً إِذا تعبت حتى تُنْقَى، واسْتَحْسَرَتْ إِذا أَعْيَتْ. قال الله تعالى: ولا يَسْتَحْسِروُن ….. وفي التنزيل: ينقلب إِليك البصر خاسئاً وهو حَسِيرٌ؛ قال الفراء: يريد ينقلب صاغراً وهو حسير أَي كليل كما تَحْسِرُ الإِبلُ إِذا قُوِّمَتْ عن هُزال وكَلالٍ”. ثم قال في موضع آخر من الباب نفسه: “وحَسِرَ يَحْسَرُ حَسَراً وحَسْرَةً وحَسَراناً، فهو حَسِيرٌ وحَسْرانُ إِذا اشتدّت ندامته على أَمرٍ فاته؛ وقال المرّار: ما أَنا اليومَ على شيء خَلا، يا ابْنَة القَيْن تَوَلَّى بِحَسِرْ، والتَّحَسُّر: التَّلَهُّفُ.”
قل: الحرب خَدْعَةٌ
ولا تقل: الحرب خُدْعَةٌ
كتب البستي: “قولُهُ، صلّى الله عليه وسلّم: “الحَرْبُ خَدْعَةٌ”. اللغةُ العاليةُ: خَدْعَة، مفتوحة الخاء. قالَ أبو العباس: وبَلَغَنا أَنَّها لغةُ النبي، صلّى الله عليه وسلّم. والعامَّةُ ترويه: خُدْعَة. قالَ الكسائيّ وأبو زيدٍ: يُقالٌ أيضاً: خُدَعَة، مضمومة الخاء مفتوحة الدال.” إنتهى
وكتب الجوهري في الصحاح:
“خَدَعَهُ يَخْدَعُهُ خَدْعاً وخِداعاً أيضاً، أي ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم والاسم الخديعَةُ.”
أما ابن منظور فكتب حول “خدعة” ما يلي:
“في الحديث: الحَرْبُ خَدْعةٌ وخُدْعةٌ، والفتح أَفصح، وخُدَعةٌ مثل هُمَزة. قال ثعلب: ورويت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، خَدْعة، فمن قال خَدْعة فمعناه من خُدِع فيها خَدْعةً فزَلَّت قدَمُه وعَطِبَ فليس لها إِقالة؛ قال ابن الأَثير: وهو أَفصح الروايات وأَصحها، ومن قال خُدْعةٌ أَراد هي تُخْدَعُ كما يقال رجل لُعْنةٌ يُلْعَن كثيراً، وإِذا خدَعَ الفريقين صاحبه في الحرب فكأَنما خُدعت هي؛ ومن قال خُدَعة أَراد أَنها تَخْدَعُ أَهلها كما قال عمرو بن مَعْدِ يكرب: الحَرْبُ أَوَّلُ ما تكونُ فَتِيَّةً، تَسْعَى بِبِزَّتِها لكلِّ جَهُول.”
قل: حار الرجل في الأمر
ولا تقل: إحتار الرجل في الأمر
وكتب اليازجي:”ويقولون إحتار في الأمر من الحيرة ولم يسمع افتعل من هذا وإنما يقال حار يحار فهو حائر وحيران وحيرته فتحير.”
وأخذ عدنان النحوي ذلك فكتب: “حارَ يحارُ حَيرَة وحَيْراً وحَيَرَاً وحَيَرَنَاً وكذلك: تَحَيَّر واستحارَ، فهو حَيران وحائرُ. والخطأ قول بعضهم: إحتارَ، فهذا اللفظ وهذا الإشتقاق لا نجده في المعاجم ولا في المراجع ولا في لغة العرب.ولذلك نقول: حار الرجل في أمرة حيرة شديدة.”
وأصاب اليازجي في نفيه أن يكون قد سمع عن العرب قولهم “افتعل” من “حار”. فكتب ابن منظور في اللسان في باب “حير”:
“حار بَصَرُه يَحارُ حَيْرَةً وحَيْراً وحَيَراناً وتَحيَّر إِذا نظر إِلى الشيء فَعَشيَ بَصَرُهُ…..وتَحَيَّرَ واسْتَحَارَ وحارَ: لم يهتد لسبيله…..وحارَ يَحَارُ حَيْرَةً وحَيْراً أَي تَحَيَّرَ في أَمره؛ وحَيَّرْتُه أَنا فَتَحَيَّرَ.”إنتهى
أما قوله تعالى “إنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ” فهو من الحور، وهو كما أوضح ابن فارس في المقاييس:
“الحاء والواو والراء ثلاثة أصول: أحدها لون، والآخَر الرُّجوع، والثالث أن يدور الشيء دَوْراً.فأما الأول فالحَوَر: شدّةُ بياض العينِ في شدّةِ سوادِها. قال أبو عمرو: الحَوَر أن تسودَّ العين كُلُّها مثلَ الظباء والبقر…….. وأمّا الرجوع، فيقال حارَ، إذا رجَع. قال الله تعالى: إنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ.”
ورغم أن الفعل الثلاثي هو نفسه “حار” إلا أنه في تصريفه بهذا المعني يكون “حار يحور” وليس “حار يحار”. فكتب ابن منظور في هذا:
“الحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء، حارَ إِلى الشيء وعنه حَوْراً ومَحاراً ومَحارَةً وحُؤُورواً: رجع عنه وإِليه”.
قل: أعطيت فلاناً
ولا تقل: أعطيت لفلان
كتب خالد العبري: “نقول أحياناً: أعطيت لكل إنسان حقه ونقول: أعطيت لعلي ثوباً” بتعدية الفعل “أعطى” الى مفعوله الأول باللام، وهذا خطأ وصوابه أن الفعل “أعطى” يتعدى الى مفعولين من دون الحاجة الى حرف جر في كليهما، أي أن هذا الفعل ينصب مفعولين مباشرة، من دون الحاجة الى حرف جر، نصباً ظاهراً.
فالصواب أن نقول: أعطيت كل إنسان حقه وأعطيت علياً ثوباً، فالمولى عز وجل يقول في كتابه العزيز “قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى” ولم يقل: أعطى لكل شيء خلقه”.
عبد الحق العاني
29 كانون الأول 2014