يقع شريط جزيرة كوبا البالغ 110 ألف كم مربعاً في البحر الكاريبي على بعد 150 كم من الولايات المتحدة الأمريكية. وعانى شعب كوبا البالغ 11 مليوناً من الناس ما لم يعانه شعب في القرن العشرين، ربما باستثناء شعب العراق،لا لذنب سوى أنه يعيش جنب الدولة الظالمة عدوة البشرية وسيدة الإرهاب!
دخل الثائر فيديل كاسترو الذي كان قد تخلى عن مهنته في القانون ليقاتل الفساد مع رفاقه الثوار مدينة هافانا يوم 8 كانون الثاني 1959 بعد أن هرب منها “باتيستا” حاكمها المستبد والذي كان قد حولها إلى ناد كبير للقمار ومبغى يرتاده الأثرياء الأمريكيون للهو والعبث.
فثارت ثائرة الأمريكيين حكومة وشعباً على الكوبيين وكأنهم عادوا يتعاملون مع العبيد الذين كانوا يمرقون قبل قرن على سادتهم البيض. فأصدر الرئيس الأمريكي في آذار 1960 تفويضاً للمخابرات المركزية لقلب نظام الحكم الجديد في كوبا. فجرت في 14 نيسان 1961 محاولة الإنزال الفاشلة وسيئة الصيت في خليج الخنازير…… فاشتاط الأمريكيون غضباً بعد الفشل ففرضوا حصارا جائرا على كوبا شمل كل شيء حتى دواء الأطفال الذين ماتوا بالآلاف نتيجة ذلك ثم أجبروا النظم المتهرئة في أمريكا الجنوية وبقية العالم على حصار كوبا..
لكن كوبا المستضعفة لم تكن تمتلك الطائرات والصواريخ والسلاح المدمر من نووي وكيميائي وحيوي كما تمتلك الجارة المستبدة ولم يكن في كوبا نفط أو غاز كي تعيش عليه. فكل الذي كان لكوبا هو السكر وحتى هذا منعت أمريكا حلفاءها وعملاءها من شرائه.
وأدرك فيديل بعبقريته وحكمته النادرة أن خير سبيل للبقاء سيكون في إجتلاب حلفائه من الشيوعيين السوفيت لكوبا مما سيجبر الأمريكيين على التعامل مع واقع جديد. فجاء بقواعد الصواريخ الروسية للجزيرة ووقعت أزمة صواريخ كوبا المشهورة ذلك لأن الإستبداد الصهيوني لا يؤمن بالقاعدة الأخلاقية لتي تقضي بأن تحب للآخرين ما تحب لنفسك، فالصهيونية العالمية تعتقد أن لها الحق في نصب قواعد الصواريخ في تركيا المستعبدة على حدود روسيا لكن ليس من حق روسيا أن تنصب قواعد صواريخ على مقربة من الساحل الأمريكي…. لكننا نحن الأغبياء حين لا نفهم معنى الديموقراطية والقانون الدولي والعدالة التي وضعتها الصهيونية العالمية…
وكاد العالم في نهاية عام 1962 أن يدخل مواجهة نووية بين نيكيتا كروتشوف، الأوكراني صلب المراس، وبين كندي، زير النساء الطائش.. فتدخلت أطراف عدة وانتهت المواجهة بسحب الصواريخ الروسية من كوبا مع تعهد أمريكي بعدم غزو كوبا لاحقاً… وهكذا كان فانتصر كاسترو بكوبا الصغيرة والمستضعفة حين أحسن أن يلعب الكبار واحدهم بالآخر…. وحفظ كوبا من أي غزو كان لا بد أن يقع في العقود التي تلت.
لكن منع الغزو لم يكن ليعني وقف الحصار….فاستمر أطول حصار في التأريخ خمسين عاماً…. وقاسى الكوبيون أشد ظروف العيش…. وإذا وضعنا توافه الإتهامات عن أنعدام الحريات والتعبير عن الرأي في كوبا وكأن وجودها في غيرها قد غير شيئاً من بؤس الشعوب، أقول إذا وضعنا هذا جانباً فإن كوبا ثبتت ونجحت في ضمان عدم وقوع مجاعة وفي تحقيق تعليم مجاني لكل الشعب وفرص عمل معقولة وخدمة صحية مجانية لا تضاهيها دولة في العالم حيث إن كوبا تتصدر العالم اليوم في عدد الأطباء لنسبة السكان.كما أن كوبا قد صرفت جهداً لتطويرالأدوية الحيوية وقطاع الطب الحيوي حتى صارت في مقدمة دول العالم في تصدير مثل هذه الأدوية.
وأدرك كاسترو بفطنته السياسية المتميزة أن في كوبا أناسا تضرروا من الثورة وانهم ما زالوا يطمحون بعودة الأيام الخالية من تحكمهم وفسادهم وأن هؤلاء لا خير في بقائهم بين أهل كوبا إذ لا يرتجي منهم سوى الفساد والإفساد فأطلق لهم الحرية للهجرة إلى الولايات المتحدة فانتهت ولاية ميامي بأعلى تجمع للكوبيين المناوئين لكوبا فتخلصت كوبا منهم وابتليت أمريكا بهم!
وأخيرا إنتصرت كوبا على الهجمة الهمجية الصهيونية فأعلن الرئيس الأمريكي أن السياسة الأمريكة فشلت وأن الوقت حان لكي تغير أمريكا موقفها وتبدأ فعلاً بوقف العدوان على كوبا… وايا كانت بنود الأتفاق الذي سينتج فإن حقيقة واحدة ستسطع من بين كل ذلك وهي أن كوبا لم تعط أي تنازل حين صرح رئيسها بأن أي تقارب مع أمريكا لن يعني تخلي كوبا عن نهجها الماركسي الذي قاتلت من أجله قرناً بينما تخلت الولايات المتحدة عن نيتها في قلب نظام الحكم واعترفت بحق شعب كوبا أن يختار كما يشاء.
فانتصرت كوبا الماركسية وفشلت الرأسمالية الصهيونية المتكبرة!
فأين نحن من كل هذا؟ وهل تعلمنا شيئاً من تجارب الشعوب، وهل يمكن لنا أن نتعلم قبل فوات الأوان؟ أم أننا لم ولن نتعلم لأننا ألفنا الظلم وتطبعنا على قبول العبودية والذل؟
ولا بد أن أكثر من قائل سيقول ان أمرنا يختلف عن كوبا، إذ لا يجوز عقد هذه الموازنة بين مواجهة العرب للهجمة الصهيونية ومواجهة كوبا لهجمة صهيونية مختلفة. ولست من السذاجة أن أدعي أن هذا هو الحال وأن المعركة متطابقة في أهدافها وتفاصيلها… فكوبا ليست خزين نفط أو غاز ولا تمتد في بعدها الجغرافي بين الأطلسي والهندي ولا يمكن أن تشكل تهديداً لأمن القاعدة الصهيونية في إسرائيل .. هذا كله ليس عليه خلاف…. لكن قرب كوبا من الساحل الأمريكي وكونها الدولة الشيوعية الوحيدة في كل القارة الأمريكية شمالاً وجنوباً لا بد أن يؤرق الصهيونية على ما يمكن لهذه الثورة أن تحققه من تاثير مباشر على شعوب الأمريكتين.
وهذه الحقائق التي تتعلق بكوبا من باب المفارقة تقابلها حقائق موضوعية أخرى تتمثل في أن كون أرض العرب خزينا خيالياً للنفط والغاز يمكن أن يكون سبب قوة لهم لا ضعف لأنه من خلال ذلك الإمتلاك يمكن لهم طلب حقهم في أدنى حدود الكرامة لقاء مدهم العالم بما يحتاجه من طاقة….. كما ان إمتدادهم الجغرافي بين محيطين رئيسين وتحكمهم بمضايق بحرية مهمة يجب أن يكون سبباً للآخرين كي يعملوا على إسترضائهم لا إهانتهم وإذلالهم…
غير أن كل هذا ثانوي، لأن الأصل هو ليس في ظروف المعركة وأدواتها وما يواجه أطراف الصراع بل هو في تحقق الإرادة للمواجهة عند وقوع الهجمة. فالشعب الكوبي على ضعفه ومحدودية أدواته رفض أن يستسلم وثبت وكافح وانتصر ولو بعد خمسين عاماً…. أما نحن فماذا فعلنا!
– قسموا أرضنا ورسموا لنا حدود دول وهمية بعضها حتى على الرمل فسكتنا!
– جاؤوا بالأعراب ونصبوهم شيوخاً وأمراء وملوكاً وخلقوا لهم دولاً فتسابقنا لإستراضاء ودهم، لا لعنهم كما أمرنا ربنا!
– أخذوا نفطنا ودفعوا ما شاؤوا من قيمة ورقية له واحتفظوا بالمال فقبلنا اياديهم الكريمة لأنهم سمحوا لنا أن نأكل ونشرب وننكح!
– أخذوا كل فلسطين فأحسنا البكاء عليها لأننا سادة البكاء فها نحن مازلنا اليوم نبكي على الحسين الذي دخل الجنة قبل ثلاثة عشر قرناً!
– وحين ضامنا الضيم أسرعنا إلى مجالس تطييب الخاطر للشكوى فاستصدرنا القرارات ثم أصبحنا أفضل أهل الأرض في حفظ أرقام تلك القرارات فما من سياسي أو إعلامي عربي إلا ويحفظ أرقام العشرات منها يرددونها كالببغاوات!
– واشترينا السلاح وتفاخرنا به وإن كنا لا نحسن ونحن في “الدشداشة” قيادة الطائرة أو الدبابة، لكنه كان لا بد من شرائه لأنه مهم ولأنه يدعم صناعة السلاح الصهيونية!
– ولم تجتمع جيوشنا يوماً على قتال أحد كما اجتمعت على قتل أهل العراق!
– ولم تتفق أمتنا البائسة يوماً على شيء قدر إتفاقها على حصار شعب العراق المسكين وتجويعه لاثني عشر عاما!
– وما أن بدأ العالم يتحدث عن فشل الأمة لعربية بسبب سقوط حكامها حتى اكتشفنا أن الشعوب العربية أحقر من حكامها.
– فقتل أدعياء الإسلام في الجزائر ماية ألف مواطن!
– وصفق العراقيون للغزو الصهيوني واحتلال أرضهم لأنهم، أي أهل العراق، حريصون جداً على الديموقراطية!
– وقام همج ليبيا بتخريب بلدهم شر تخريب وتركوه مزقا!
– أما أهل سورية وهم سادة القتل منذ بني أمية فقد تفننوا في التفخيخ والتفجير والإبادة وقتل الصغار وادعوا أن ربهم، والذي لا يمكن عقلاً أن يكون له وجود، هو الذي أمرهم بذلك!
– ولم نكتف بما لدينا فأصبحنا نستزيد بشذاذ الآفاق من سقطة الأرض من كل بقاعها مدعين أننا نجاهد، لكن أحداً لم يخبرنا حتى اليوم ضد من هذا الجهاد ومن أجل ماذا، فالقدس مستباحة والبيت العتيق بيد أبرهة ونفطنا مسروق وأرضنا فيها أكبر قواعد الصهيونية في العالم، فهل الجهاد ضد هذا؟ أم هذا هو الذي افتعل الجهاد ليبقي الأمر على ما هو عليه؟
فهل فعل الكوبيون أيا من هذا؟ وهم “الكفرة” على وفق قواعد الإسلام فلا هم يقرؤون القرآن ولا يصلون خمسة أوقات ولا يزكون ولا يحجون، لكنهم لايقتلون بعضهم بعضاً ولا يفخخون المباني ولا يذبحون الأطفال ولا يعطون “السكر” مجاناً للصهاينة.
وهل وهل… الف سؤال لا بد أن يعبر في ذهن الإنسان العادي وهو يشهد هذا النصر العظيم الذي حققه شعب كوبا في ثباته وصبره في الشدة. لماذا لم نستطع نحن أن نفعل معشار ما فعله الكوبيون؟
هل إن العلة في الهجمة الصهيونية وحدها، أم انها ولا شك علة ذاتية كذلك. وأين أسبابها؟ هل هي في الثقافة الموروثة لألف عام؟
ولماذا لم تنجب الأمة العربية شبيهاً بفيديل كاسترو؟
أعجبٌ أن أسأل أمتي ما إذا كانت قد عقرت منذ عهد النبوة وأهلها؟
عبد الحق العاني
21 كانون الأول 2014