حين سمعت أمس بوشكوف رئيس الوفد النيابي الروسي يتحدث بغضب بعد تجميد حق روسيا في الجمعية البرلمانية في مجلس أوربا، كان بودي أن أقول له: أين كنتم أيها الرفيق العزيز؟ فقد ذكر بوشكوف بازدواجية المعايير في أوربا وذكر الناس بما فعلته الدول الأوربية نفسها، التي جمدت عضوية روسيا، في خراب صربيا واحتلال العراق. ولم تكن هذه المرة الأولى التي تحدث فيها مسؤول روسي عن هذه الإزدواجية فقد سبق للرئيس الروسي بوتين أن ذكرمستمعيه بأن الولايات المتحدة لم تذهب لمجلس الأمن قبل أن تدمر صربيا ولا قبل أن تغزو العراق وتحتله..
لكننا نحن العرب، شأننا في ذلك شأن بقية المستضعفين في هذا العالم البائس، لا نحتاج للتذكير بما نعيشه ونعانيه منذ الحرب العالمية الأولى من معايير لا تخضع لقانون أو قاعدة. لكن من حقنا أن نسأل عن سبب حديث روسيا اليوم عن انعدام الأخلاق في أوربا في تعاملها مع العالم خارج حدودها حين كانت إما موافقة وإما ساكتة على إجراءات الصهيونية العدوانية في العالم بشكل عام وفي أرض العرب بشكل خاص. بل أن الاتحاد السوفيتي قد اعتمد سياسة وضع بموجبها حدوداً لا تتجاوزها الدول العربية في صراعها مع الصهيونية لكي تبقى الغلبة للدولة الصهيونية ويستمر تفوقها العسكري.
إن مما لاشك فيه هو أن روسيا الجديدة كانت حريصة جداً على اللحاق بالقطار الرأسمالي بعد إنهيار النظام الإشتراكي حين أسلمها الحزب الشيوعي السوفيتي للرتل الخامس داخل الحزب. ومن أجل أن تتمكن من دخول نادي الرأسمالية كان على روسيا أن ترضى بكل ما تفعله الصهيونية في أي مكان في العالم وأن تهادن حتى إذا لم تقتنع بشرعية أو عدالة ما يحدث…. وأكثر ما كانت تطمع فيه روسيا في تسعينات القرن الماضي هو أن يتركها أعداء الأمس كي تستمر هي في بناء المتهدم وإعادة روسيا لبعض قوتها الغابرة وموقعها في العالم.
وهكذا فإن روسيا صوتت على قرار مجلس الأمن بحصار العراق عام 1991، فكانت شريكاً في أكبر جرائم القرن العشرين حين فرض حكم إبادة على شعب العراق بقرار دولي..
وحين طال الحصار واصبح واضحاً لكل ذي عينين أن العراق في طريقه للإنهيار فقد أحست روسيا بالذنب على المشاركة في الجريمة ويبدو ذلك صريحاً أكثر من مرة في خطابات لافروف لمجلس الأمن والتي كان أوضحها ما قاله يوم 24 آذار 2000.
إلا أن الشعور بالذنب لم ينقذ طفلاً عراقياً واحداً من الموت بسبب المرض أو سوء التغذية التي نتجت عن حصار الإثني عشر عاماً. فروسيا لم تطلب يوما واحداً بشكل رسمي من مجلس الأمن رفع الحصار عن العراق رغم يقينها بأنه كان جريمة. فقد كانت مهادنة ومشاركة في الجريمة لأنها كانت تطمع في سكوت ورضى الصهيونية عنها.
وقد يقول قائل وماذا كان إعتراض روسيا أوعدم موافقتها على قرار لمجلس الأمن تطالب به الصهيونية سيفعل إذ أن هذه الأخيرة كانت ستفعل ما فعلت في كل حال كما حدث حين قررت غزو العراق رغم علمها بإستحالة حصولها على قرار لمجلس الأمن بذلك. والجواب على ذلك يكمن في حقيقة أن القانون الدولي القائم في العالم يجعل من الصعوبة الحديث عن جريمة ترتكب في عمل ينفذ بموجب قرار مجلس الأمن لكنه، أي القانون الدولي، لا يجد صعوبة في تجريم جريمة العدوان التي تتم دون قرار من مجلس الأمن.
ورغم أن لي رأياً مختلفاً حول مشروعية قرارات مجلس الأمن في أنها تنفي صفة العدوان عن العمل ذلك لأني أعتقد أن مجلس الأمن ليس فوق القانون مما يعني أنه يمكن أن يرتكب جريمة. لكني لا أعتقد أن هذا مكان عرض هذا الرأي وعسى أن أتوسع فيه في وقت آخر. لكن ما يكفينا هنا هو القبول بالواقع الذي أسلفت. فلو أن روسيا اعترضت على قرارات مجلس الأمن لأختلف الوضع الدولي إختلافاً كبيراً ولربما لم تكن لتجد نفسها وهي مضطرة للدفاع عن نفسها بهذا الشكل في قضية أوكرانيا رغم أنها لم تكن المسبب فيها.
ومن أجل توضيح ذلك فلي أربع وقفات مع أربعة أحداث.
غزو صربيا
حين قام حزب الأطلسي في 1999 بقصف صربيا وتدمير جيشها فإن روسيا ظلت متفرجة رغم أن بلداً صديقا وشعباً شقيقاً ومسالماً كان يدمر دون أن يعتدي على حلف الأطلسي والذي يدعي أنه قام لحماية أعضائه من العدوان. وكان على روسيا أن تقوم بواجبها كدولة عظمى ورئيس في مجلس الأمن في أن تدعو لعقد جلسة له لمناقشة العدوان على صربيا. وأن تستند لميثاق الأمم المتحدة في منع أية دولة مشتركة في العدوان على صربيا من التصويت. وهذا كان سيقود لمنع بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا من إستعمال حق النقض ضد مشروع التجريم واحتمال إتخاذ قرار من مجلس الأمن بأن العمل العسكري من قبل حلف الأطلسي كان عدواناً بموجب تعريف العدوان في القانون الدولي.
فلو قامت روسيا بهذا لأمكن لصربيا أن تطالب لاحقاً بكل ما يحق للمعتدى عليه أن يطالب به على وفق القانون…. وربما يؤيد ما أقول أن محكمة العدل الدولية قررت لاحقاً أن صربيا لم تقم بعملية إبادة ضد شعب كوسفو كما زعم الحلف الأطلسي أن سبب عدوانه على صربيا كان لمنع ابادة شعب كوسفو.
وهكذا وافقت روسيا على إطلاق يد حلف الأطلسي ليفعل ما يشاء وهو ما تتحمل نتائجه اليوم.
غزو أفغانستان
كانت دول العالم قد اتفقت عند نهاية الحرب العالمية الثانية على أن سيادة الدول فوق كل إعتبار فاصبح الغزو من أكبر الجرائم. لذا فإن غزو أفعانستان في تشرين الأول 2001 من قبل بريطانيا والولايات المتحدة كان جريمة بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم فيه وظلمه وإستبداده. إلا أن روسيا هذه المرة لم تقف متفرجة بل ساهمت في العدوان. فقد وافقت على قرار مجلس الأمن المرقم 1378 في 14 تشرين الثاني 2001 والذي عد الغزو الذي وقع على أفغانستان كأنه عمل من الشعب للتخلص من حكم طالبان. ثم أعقبت روسيا تلك المشاركة في موافقتها على القرار 1386 في كانون الأول 2001 والذي شكلت بموجبه بشكل نظامي قوة الإحتلال التي هيمن عليها لاحقا حلف شمال الأطلسي وسميت (إيساف) وما زالت تعمل حتى اليوم!
وهكذا دعمت روسيا إطلاق يد حلف الأطلسي في أفغانستان مما جعل الحلف يعتقد أن كل شيء أصبح مباحاً بعد زوال الإتحاد السوفيتي، وتدفع روسيا اليوم ثمن ذلك.
غزو العراق
كنت قد قلت أعلاه ان روسيا سكتت عن جريمة الحصار الظالم على العراق وقلت أنها ربما كانت معذورة لضعفها آنذاك. إلا أن الأمر تغير حين وقع غزو وإحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا عام 2003.
والجريمة التي ارتكبتها روسيا بعد الغزو أنها وافقت على قرار مجلس الأمن رقم 1483 في 22 أيار 2003 الذي أعطى الولايات المتحدة وبريطانيا سلطة حكم العراق محولاً بذلك العدوان الصارخ إلى شكل من الإنتداب!
وكان المتوقع من روسيا أن تصوت ضد مشروع القرار حتى يبقى الإحتلال مصنفاً على أنه عدوان على وفق قانونهم الدولي لعدم إكتسابه أية شرعية بالتخويل من قبل مجلس الأمن. ولو حدث هذا لكان كل ما وقع في العراق منذ ذلك اليوم يعد نتيجة للعدوان ولأختلفت الدنيا كما نعرفها ولأمكن لأية بقية من حكومة البعث أن تقاضي باسم القانون لا أن تقاضى وتطارد…
وهكذا أعطت روسيا غطاءً للصهيونية حين أطلقت يدها في العراق وكان بمقدورها بل لزاماً عليها أن تفعل غير ذلك.
غزو ليبيا
ويظن المتابع أنه بعد غزو صربيا وغزو أفغانستان وغزو العراق فإن روسيا تعلمت قواعد دخولها للنادي الرأسمالي الصهيوني. لكن هذا لم يقع فعلاً فما أن أخرجت الصهيونية غوغاء ليبيا، وهم أوحش غوغاء العرب، للشارع حتى سقطت روسيا في الفخ من جديد.
فسكتت على قرار مجلس الأمن رقم 1974 ليوم 17 آذار 2011 والذي فرض منطقة حظر طيران وخول الدول إتخاذ كافة الإجراءات المطلوبة لحماية المدنيين. فكانت النتيجة قصف ليبيا من قبل حلف الأطلسي والذي انتهى كما يعرف الجميع بنهاية ليبيا غير مأسوف عليها!
وإدعاء روسيا اليوم أنها لم تكن تعني بسكوتها أن يتحول التفويض لقصف وخراب وإحتلال ليبيا لا يقبله العقل. ذلك لأن لافروف نفسه كان قد خاطب مجلس الأمن عام 2000 موضحا ما فعلته منطقة حظر الطيران فوق العراق من خراب. فكيف يمكن له ألا يفهم ما تعنيه فرض منطقة مشابهة فوق ليبيا. بل ربما كان هناك أكثر من سبب لتوقع أن يقع في ليبيا أكثر مما وقع في العراق لأن منطقة حظر الطيران فوق العراق لم تحظ بقرار دولي بينما حظيت فوق ليبيا بقرار دولي.
أتعلمت روسيا الدرس؟
إن تصور روسيا أن قبولها في النادي الرأسمالي يعني أنها اصبح لها الحق أن تفعل ما يفعله الكبار في النادي تبين أنه وهم. فقد اعتقدت أنه ما دامت الولايات المتحدة غزت غرناطة بحجة أنها كانت تحمي عددا من السياح الأمريكيين، وما دامت بريطانيا قاتلت الأرجنتيين لأنهم طالبوا بجزيرة تبعد 200 ميل عن ساحلهم وخمسة عشر ألف ميل عن بريطانيا بحجة حماية البريطانيين الساكنين فيها، وما دامت فرنسا تتصرف في أفريقيا وكان تلك الأخيرة هي الحديقة الخلفية لها… فإنه قد يكون من حق روسيا أن تسترجع شبه جزيرة القرم التي كانت أغلب تأريخها جزءً من روسيا ويسكنها روس يريدون بإرادتهم العودة للوطن الأم!
فصعقت روسيا لرد الفعل الصهيوني، فاتهمت بانها المسؤولة عما يحدث في أوكرانيا حتى كان المستمع للأخبار يعتقد أن الإنقلاب الذي وقع في كييف ضد رئيس منتخب بالطريقة الديموقراطية التي تحاضر وتعظ بها الصهيونية، كان من تنظيم روسيا وليس من دول حلف الأطلسي الطامعة بساحل أوكرانيا على البحر السود وبفرض حزام أمني جنوب روسيا بعد فرضه غربها في بولندة ودول البلطيق!
وأكاد أشاهد بوتين يجمع مستشاريه ولافروف وحاشيته ليشرحوا له سر رد الفعل الصهيوني غير المتناسب. فهل شرح له أولاء ما يجري أم هل استنتجه هو؟
ذلك أن المبدأ الصهيوني الذي غاب عن روسيا هو ليس أن هناك إزدواجية في المعايير عند الصهاينة كما يقول الروس، بل هناك معيار واحد وهو أن الصهيونية لها وحدها الحق أن تفعل ما تشاء وليس لأحد آخر أن يفعل مثله إلا إذا وافقت هي عليه..فهي يحق لها أن تغير خريطة أوربا كلما شاء ذلك كما فعلت في البلقان حين رسمته من جديد…. أما إذا أراد الروس رسم حدودهم الجنوبية والتي كتبت في غفلة من الزمن فذلك مستحيل إذ أن تغيير الحدود لا يجوز إلا بموافقة الصهيونية وهو لا يختلف كثيرا عما فعلته في إقتطاع الكويت من العراق إثر الحرب العالمية الأولى لأنها شاءت أن تفعل ذلك وحين أراد العراق تعديل الخلل قامت باحتلال العراق وتخريبه دون رجعة.
إن دخول روسيا للنادي الرأسمالي لم يكن يعني أنها تتساوى مع الصهيونية في كل الحقوق.
فما الذي يجب على روسيا أن تفعله اليوم لترد على الإستخفاف الصهيوني بها؟ هذا ما يمكن له أن تفعله:
- تفك تعاملها بالدولار النفطي فوراً.
- تخلق بالإشتراك مع دول (بريكس) عملة جديدة لتكون بديلاً عن الدولار وهيمنته.
- تسعى لتأسيس نظام رأسمالي بريكسي ليكون موازياً ومنافساً للرأسمال الصهيوني مما سيعطي العالم متنفساً.
- تستحدث بالتعاون مع دول (بريكس) مصرفاً للتسوية لينافس مصرف التسوية الدولي (BIS) الذي أسسته الصهيونهة عام 1930 مصرفاً خاصاً ليصبح اليوم المصرف الذي يتحكم بالمصارف المركزية في العالم!
- تتوقف عن الإشارة للدول الصهيونية، كما يفعل لافروف في كل مناسبة، على أنهم شركاء روسيا لأنهم ليسوا حقاً شركاء لها إلا بمقدار ما توافق فيه روسيا على سياساتهم.
- إتخاذ مواقف ساسية مستقلة في ما يتعلق بقضايا العالم تراعي فيه روسيا مصالحها كما هو الحال بالنسبة لإيران وسورية وفلسطين وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وغيرها من مناطق العالم التي ما زالت الصهيونية تخطط فيها لمشاريع هيمنة.
ربما تكون روسيا، إذا فعلت، قد تعلمت الدرس وتوقفت عن دفع ثمن مهادنتها للرأسمالية الصهيونية.
عبد الحق العاني
12 نيسان 2014