ليس سراً أن في إيران صراعاً حقيقياً بين قوتين سياسيتين… وليس سراً أن عدداً من العارفين بحقيقة هذا الصراع يودون عدم الخوض فيه خوفاً من تخويف الناس…
لكن الإشارات أصبحت أكثر من التلميح فقد خرجت للعلن وهي تكشف عن حقيقة هذا الصراع ، وتكشف أن الصراع ليس كما يدعي البعض حول الإسلوب في التعامل مع قضايا إيران الداخلية والخارجية، بل هو في جوهر المبادئ.
فحين أحيى السيد الخميني نظرية “ولاية الفقيه” فإنه خلق في ظلها موقفاً سياسياً لم تألفه مؤسسة المرجعية الشيعية…..فقد إعتادت هذه المؤسسة، بأغلبيتها وليس بكليتها، على مهادنة السلطة السياسية والابتعاد ما أمكن عن التدخل في الشأن السياسي… وهذا ما درجت عليه في العراق وفي قم بشكل اساس… وذلك ما جعل السيد الخميني على خلاف مع المرجعية الشيعية في العراق وإيران بشكل عام… وحين نضج الوضع السياسي للثورة الشعبية في إيران فإن الخميني إستطاع إستقطاب رفض المستضعفين لنظام الشاه ووضعه في خدمة مشروعه السياسي لتطبيق دولة “ولاية الفقيه” رغم كل كبار المرجعية… بل إن الحقيقة هي أن الخميني في مجد إنتصاره كان أقوى من رجال المرجعية الشيعية في العرق وإيران مجتمعين لا منفردين!
وهكذا كانت الثورة الإسلامية في إيران في عقدها الأول قوة لا تبارى ولا تنازع… ووجد رجال الدين في إيران أنفسهم مضطرين للسير في ركابها ولو على مضض… وبطبيعة أية ثورة شعبية لا بد أن يدخلها دخلاء ومنافقون ومتاجرون..وهكذا كان الأمر في إيران…..وقد قدمت حماقة العراق الكبرى في غزو إيران أكبر خدمة للثورة الفتية حين وحدت الدولة المتهاوية بعد أن حركت الشعور القومي الفارسي بالخطر القادم من العرب والذين سبق لهم أن أساؤوا للفرس أكثر من مرة.. فهم أي العرب كانوا سبب سقوط الدولة الساسانية المتحضرة قبل إسلام فارس.. كا انهم، أي العرب، كانوا قتلة سبط النبي بعد إسلام فارس..وفي كلا الحالتين أثبت العرب للفرس أنهم ليسوا أهلاً للقيادة، فلا هم يصلحون لبناء دولة عصرية ولاهم أهل لبناء دولة الإسلام المرجوة! ولا يظنن أحد أن هذا مجرد وهم لأنه حقيقة متأصلة في ضمير الشعب الفارسي. فيجب على كل عربي معرفة هذه الحقيقة عند التعامل مع الفرس. لكني لا بد أن أتدارك هنا فأبين أن هذا لا ينزع عن الفرس قناعتهم بإسلامهم ولا حرصهم عليه ولا صدق أتباع “ولاية الفقيه” في موقفهم ضد الصهيونية العالمية وكل ما يتفرع عنها من الإستكبار الأمريكي والعنصرية الأوربية! ذلك لأن إدراك حقيقة ما لا يعني بالتبعية القياس عليها في كل المواقف السياسية…. أي اني لست من كتاب العرب الساذجين أو المخربين الذين يتخذون من شعور الفرس نحو العرب حجة للإدعاء بأن الفرس حلفاء للصهيونية في السر. ذلك لأن أتباع “ولاية الفقيه” يعتقدون بقناعة تامة أنهم أحرص على الإسلام من العرب، وقد تكون هذه القناعة غير مسوغة وقد تكون مسوغة إلا أن المهم هي أنهم مقتنعون بها… وهم لذلك يعتقدون أنهم هم الذين سيحررون بيت المقدس للمسلمين وليس العرب الذين لم يفعلوا ذلك برغم كل ما لديهم من إمكانات!
وهكذا وجد كل الإيرانيين أنفسهم في موقع المعادي للاستكبار الصهيوني العالمي المتمثل في إسرائيل وأمريكا ومن معهم في ركب الأجراء من دول كبيرة أو صغيرة يديرها رأس المال اليهودي الذي يمسك بمصارف العالم…ولم يكن كل الإيرانيين مقتنعين بهذا الموقف لكنهم لم يكونوا في موضع يمكنهم بعد من التصدي للخميني وفكره، فقد كان فوق الشبهة في كل شيء..
إلا أن الثورة الإيرانية شأنها في ذلك شأن اية ثورة فقدت بعد أكثر من عشرين سنة جزءً من بريقها حين لم تفلح في تحقيق كل ما تطلع له الناس، وهو – أي تحقيق كل ما يتطلع له الناس- أمر مستحيل ولا شك، لكن صاحب الحاجة أعمى كما يقولون! ثم رحل الخميني وجاء السيد الخامنئي من بعده، وهو رغم مقدرته المتميزة في القيادة، وعربيته الرائعة التي تخجل الحكام العرب والتي تعلمها بنفسه حيث انه لم يعش في أرض عربية ولم يدرس الفقه في النجف كما فعل الكثيرون، رغم كل ذلك فإنه لم يكن يمتلك السطوة والمد الذي امتلكه الخميني فهو وريث قيادة وليس قائد ثورة…
ولا بد أن أبين هنا، حتى لا يقال أني آخذ الرجل ما يؤاخذه غيري من المتحاملين، أني لا أشك أبداً بصدقه في ما يقوله وإخلاصه في قناعته بنصر الإسلام، وإن كنت قد لا أتفق معه في تحليله لكل حدث ولا في دعمه لكل حركة إسلامية لمجرد أنها تدعي الإسلام.. ولا في رفضه للسلاح النووي بحجة أنه يعارض شرع الله وهو ليس كذلك… وغير ذلك..
وقد نتج عن غياب الخميني وفقدان الثورة لبعض بريقها في تحقيق الأحلام لكل الناس تململ في الشارع الإيراني وتآمر من قبل بعض رجال الدين الذين سايروا الخميني رياءً… وهكذا بدأ التيار المعاكس للثورة. وهذه ليست ظاهرة إيرانية بل هي ظاهرة عالمية حدثت في كل ثورات العالم باستثناء الثورة الكوبية التي لم تلد ثورة مضادة رغم عنف الهجمة الصهيونية عليها وضعف بناء الدولة الكوبية….
وقد قاد هذه الثورة المضادة وما زال علي أكبر هاشمي رفسنجاني.. ويعتقد هذا الرجل ومن حوله أن إيران لا مصلحة لها في معاداة الصهيونية.. بل إن مصلحتها تكمن في التحالف مع وصداقة الصهيونية لأن ذلك سيحقق لإيران فرصة أن تصبح في مصاف الدول الكبرى في العالم وذلك إذا ما سخرت لها الصهيونية سبل التجارة والمال والسوق والتقنية.. وهم، أي رواد هذه الثورة المضادة، لا يؤمنون بنظرية “ولاية الفقيه”، إذ هم في الحقيقة أقرب إلى موقف علي السستاني، المرجع الشيعي الكبير في نجف العراق…ويكفي للتعريف بهم عبارة قالها السيد علي الخامنئي قبل اشهر ونصها كما أوردته قناة المنار وهي أحرص القنوات على ما يقوله الفقيه لأنها لسان حزب الله اللبناني وهو الحزب الذي بايع الفقيه على الولاية، فقد نقلت عنه قوله:
” يدّعون بأنّ علياً إمامهم ولكنّهم لا يقولون ما يزعج أميركا”.
وهو بلا شك لا يقصد بهذا السلفية ولا السنة ولا الشيعة بشكل عام، بل قصد بها مراجع الشيعة في العراق وإيران ولبنان الساكتين والمتواطئين مع أمريكا كما فعل السستاني علناً حين أيد مشروع الدستور الأمريكي للعراق الجديد بعد الإحتلال، بعد أن سكت عن الغزو والإحتلال….
ونجح التيار المضاد للثورة بقيادة رفسنحاني في تعبئة جزء كبير من الشارع الإيراني ضد تيار الثورة الذي يمثله الفقيه، وذلك في ظل الحرية التي أوجدها النظام السياسي الجديد في إيران، والتي لا بد من القول أنها لا مثيل لها في العالم العربي بعد، وساعده في ذلك الحصار الذي فرضته الصهيونية على إيران والذي أرهق كاهل المواطن العادي وضيق الفرص وحد من النمو… كما ساعده الإعلام العالمي المسخر من قبل الصهيونية التي تديره مع المال لخدمتها أفضل إدارة في تأليب الشارع الإيراني ضد الثورة بتشخيص فشل الحكومة في مرافق عدة مع مراعاة عدم التعرض للفقيه حيث إن ذلك ما زال أمراً غير مقبول في الشارع الإيراني..
وهكذا كاد هذا التيار أن يفوز في إنتخاب مير حسين موسوي الذي وصفه الغرب بأنه “معتدل” ضد محمد أحمدي نجاد الذي وصفه الغرب بأنه “محافظ”… ولا يخفى على أي متابع للتوصيف الأوربي للساسة في العالم الآخر هو أن وصف “معتدل” تعني دائماً أن الشخص المعني هو في جانب الغرب أو صديق له! وشواهد ذلك لا تحصى حتى نحتاج لضرب الأمثال…
ثم إشتد الحصار على إيران في حكم أحمدي نجاد وإزداد الضغط واتخذ الغرب من السلاح النووي ذريعة للإمعان في حصار إيران وإيذائها، وسايره في ذلك أكثر دول العالم بما فيها الصين وروسيا والتي قامت بفرض عقوبات إقتصادية على إيران دون وجه حق ذلك لأن إيران لم تخرق قانوناً ولم تهدد الأمن العالمي وهي الأمور الوحيدة التي يمكن لدول العالم أن تلجأ فيها لأساليب قمع ضد دولة مارقة… أما الإدعاء بأنها إجراءات مبنية على تخوف من نية لدى إيران فذلك أمر يدفع على السخرية حقاً لأنه لا جريمة في النية والجرم لا يقع إلا بتحقق العمل مع النية ولا يوجدد قضاء في العالم وطني أو دولي يمكن أن يبني حكمه على النية حتى إذا كانت نية ثابتة فكبف إذا كانت نية مزعومة لم يثبت قيامها!
وما زلت أجهل سبب قبول إيران أن تجلس مع الدول الخمس، والتي حشرت ألمانيا فيها نفسها دون سبب فلا هي دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن ولا هي دولة نووية، لبحث موضوع برنامجها النووي ما دامت خاضعة لإشراف المنظمة الدولية المعنية بإتفاقية حظر إنتشار السلاح النووي وما دامت المنظمة لم تشر إلى أن إيران خرقت الإتفاقية، وكل هذا ضمن قواعد القانون الدولي الذي يتحدثون عنه!
وهذا يقودنا لنجاح التيار المضاد في إنتخابات الرئاسة الأخير فجاءت بروحاني وهو ربيب رفسنجاني في العلن وليس في السر وجاء روحاني معه بمن يقف في التيار نفسه وعلى رأسهم وزير الخارجية الجديد محمد جواد ظريف… وفوز روحاني في الانتخابات دليل آخر على الحرية داخل المؤسسة الدينية في إيران على أقل حال إن لم نقل في المجتمع السياسي الإيراني. فلو لم يكن الأمر كذلك لما سمح الحرس الثوري بفوز غريمه رفسنجاني في رئاسة البلاد ولكان بإمكانه ترتيب الانتخابات لتأتي بواحد ممن يوصفون بـ “المحافظين” لتستمر السياسة كما كانت…
وقد برز أول خلاف علني حين صرح روحاني فور تسلمه الرئاسة بأن على الحرس الثوري عدم التدخل في السياسة… فجاء رد الحرس الثوري صاعقاً عليه وعلى كل مراقب حين تسارع أكثر من قائد فيه للتأكيد على أن الحرس هو درع الثورة وحامي البلاد وأنه مستعد لتلقين الصهيونية درساً لن تنساه، بل ذهبوا ابعد من ذلك فصرح أحد قادتهم أنهم يتحرقون شوقاً لمنازلة “الشيطان الأكبر”… وهذه اللغة تختلف كثيراً وليس قليلاً عن لغة المهادنة للتي اتبعها روحاني وظريف في الأشهر الماضية..
ثم جاءت زيارة أردوغان لإيران فسمع كما سمعنا من روحاني لغة وسمع من الفقيه لغة مختلفة، ذلك لأن الفقيه حذره بلغته العالية من مغبة اللعب بالنار في الشرق الأوسط بينما أعلمنا روحاني أن التقارب الإيراني التركي سيفتح الباب لإستقرار الشرق الأوسط… ولا يخفى على أحد أن التقارب الإقتصادي والتجاري لن يخلق تقارباً بين إيران وتركيا لأنهما على طرفي المعادلة في الشرق الأوسط ذلك لأن إيران في موضع معاداة الصهيونية بينما تركيا حليف للصهيونية وعضو اصيل في حلف شمال الأطلسي المعادي للعرب والمسلمين. وإيران دولة شيعية بينما تركيا إسلامية تطمح في بعث العثمانية وهو ولا شك سيقود للصراع الذي عرفته المنطقة بين العثمانية السنية والصفوية الشيعية مع أن الصفوية ليست فارسية أصلاً بل هي الأخرى تركية! وهذا الصراع قائم على أرض الواقع في سورية اليوم حيث تتصارع الإرادات إذ تحاول تركيا الإسلامية إبتلاع سورية كما كان الحال في القرون الغابرة بينما تحاول إيران الإبقاء على نفوذها في سورية لتتمكن من ضمان الوصول إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهو طموح كل دول تقع على تخوم شاطئ دجلة منذ ثلاثة آلاف سنة!
وليس سراً أن هذه القضية جوهرية بشكل لا يمكن تجاهله حتى ان وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف أعلم جون كيري الأمريكي أنه، أي ظريف، لا سلطة لديه لبحث موضوع سورية معه. ذلك لأن الفقيه قد منعه هو كما منع روحاني من البحث فيه… وذلك ليس صعب الفهم فالفقيه يعرف جيداً أن كلاً من روحاني وظريف ليس لديه مشكلة في تقديم التنازلات في سورية إذا وجدا فيها نفعاً مؤقتاً لإيران… بينما يرى الفقيه أن الدفاع عن سورية ضد الصهيونية يفوق ويتجاوز أية منفعة آنية ممكنة لإيران لأن بقاء سورية هو حجر الزاوية في المعركة مع الصهيونية والتي ما زال الفقيه يراها معركة الدول الإسلامية الأولى.
إلا أن الصراع الحقيقي في إيران سوف تحدده نتائج المحادثات النووية.. فقد أعطى الفقيه روحاني وعصبته الصلاحية ليفاوضوا أصدقاءهم في الغرب حول هذا الموضوع للوصول لاتفاق حوله يمكن من إزالة الحصار والضغط على إيران… وهذا ما طلبه جناح “المعتدلين” من الفقيه حيث إنهم وعدوه أنهم قادرون، خلافاً لفشل أحمدي نجاد، على تحقيق هذا.. ولا أدري إن كان الفقيه يجهل النتيجة ويريد أن يرى بعينه أم أنه يعرف النتيجة لكنه أراد أن يطلق للمعتدلين الفرصة كي يفشلوا، وهم ولا شك سيفشلون، كي يفلسوا سياسياً أمام الناخب الإيراني فينكفئ التيار المضاد….
أما سبب فشل روحاني وزمرته من المتعاطفين مع الصهيونية في المباحثات النووية فهو سهل وواضح، ذلك لأن الصهيونية لا تريد منع إيران من إمتلاك سلاح نووي فقط بينما هي تمتلك أكبر ترسانة اسلحة دمار شامل في العالم، وليس لها حق منع اية دولة من إمتلاكها لأن القواعد الأساس في القانون الدولي هي حق كل دولة في التسلح وعدم السماح لأية دولة أن تمنع الآخرين من إمتلاك سلاح مماثل لما لديها… وهذا يعني بكل بساطة أن الصهيونية لن تتوقف عند مقترح تحديد التخصيب بنسبة متفق عليها كما يتصور روحاني وظريف ذلك أن العدو يدرك أن امتلاك التقنية النووية يمكن أن يستعمل في أي يوم لتطوير السلاح لذا يجب نزع تلك التقنية بالكامل وهذا هو الهدف.. وهذا هو عين ما فعلته الصهيونية في العراق في سنوات الحصار. ودليل ذلك أن الصهيونية ما زالت مصرة على إستمرار الحصار، المفروض على إيران عدواً، رغم قيام الأخيرة بإيقاف التخصيب بنسبة 20% وهو الرقم السحري الذي أوقفونا عنده لأسباب تقنية ليس هذا مجال شرحها وهي لا تهم القارئ….
لكن كل متتبع للشأن الإيراني يجد أن إيران لا يمكن أن تقبل بنزع التقنية النووية منها بالكامل والموضوع ليس متعلقاً بامكانية إنتاج السلاح النووي بل هو متعلق بالكرامة الوطنية التي يعتز بها كل إيراني في التمكن من تلك التقنية وغيرها من التقنيات بطاقات وطنية كاملة.. أي أنها قضية تمس جوهر السيادة ولا يمكن لأي شخص أن يناقش الفقيه للتخلي عنها..
وحين يفشل ظريف وروحاني في تحقيق ما وعدوا به الإمام الفقيه فإنهم سوف يرحلون وتعود الثورة الإيرانية إلى طريقها.. رائدة للثورات العالمية … وحبذا لو أنها تفعل ذلك بتركيز مذهبي أقل كي تسمح لشعوب العالم أن تسير معها في مسيرة الصراع الأزلي بين الخير والشر.
عبد الحق العاني
6 شباط 2014