حين كتبت قبل عشرة أيام “متى ستغزى سورية؟” قلت إني لست أكتب عن نبوءة لكنها قراءة في الحدث والتأريخ. ولا أعتقد أن أياً مما قلته ثبت خطله. ولن أعيد اليوم ماقلته بالأمس.
فما الذي جرى وماذا يمكن أن يحدث غداً أو بعد غد؟
إن مما لا شكل فيه هو أن الغزو لم يلغ لأن المشروع لم ولن يتغير، أي ان الغزو قد يقع في أي مستقبل قريب إذا ظلت العوامل الفاعلة هي ذاتها ولم تتغير قواعد اللعبة بسبب عمل نقوم به نحن. ولن أخوض اليوم في موضوع ما يمكن أن يحصل لكني أكتب، بهدف الإستفادة من التجربة، عن سبب تأجيل الغزو والذي كان متوقعا أن يتم هذا الإسبوع وفي كل حال قبل ذهاب أوباما لمؤتمر الدول العشرين وذلك لكي يكون الغزو قد أصبح حقيقة وعلى الباقين أن يتعاملوا معه على ذلك الأساس رغم أن سورية ليست مدرجة على جدول الأعمال.
وأجد هناك ثلاثة عوامل رئيسة قادت للتأجيل وما سواها قد يتفرع عنها. وهي حسب الأهمية والتسلسل كما يلي:
1. أمن إسرائيل
ليس سراً أن سبب كل ما جرى ويجري في سورية هو أمن إسرائيل وقد أصبح تكرار هذه العبارة ثقيلاً على السمع ليس من حيث عدم صدقها ولكن من حيث إن تكرارها يوحي بأن هناك من الجهالة ما يقتضي تكرارها.
وهناك أكثر من تصريح رسمي لمسؤولين أمريكيين خلال اليومين الماضيين تؤكد أن هدف الضربة هو حماية الأمن القومي الصهيوني، فقد قالها الرئيس الأمريكي وقالها وزير خارجيته وقالها وزير دفاعه. وهذه وحدها تغنينا عن كل شرح.
وحين أرادت الصهيونية أن ترتب المسرح الدولي لإيجاد تسويغ للضربة فإنها رتبت مسرحية إستعمال السلاح الكيميائي لكنها أساءت توقيتها بحيث جاءت لعبة أطفال لم يصدقها أحد لكنها في العقل السياسي الطفولي الأمريكي مقبولة. وحين تبين الحرج وسقطت ورقة التوت، والتي لم تكن أصلاً، كافية سارعت الصهيوينة الى الحديث عن ضربة “محدودة”. وحيث إنه لا يوجد شيء في الغزو والعدوان ما يمكن أن يسمى محدوداً ذلك لأن تعريف العدوان الذي كان مقبولاً في القانون الدولي العام قد أصبح جزءاً من القانون الدولي الإتفاقي بعد أن تضمنه دستور محكمة الجنايات الدولية، ليس فيه أية إشارة لمحدودية العدوان. اللهم إلا إذا كان أوباما يعتقد أن له الحق أن يعتدي كما يشاء ثم يتوقف وكأن شيئاً لم يحدث كي يقول للعالم أنه أراد تأديب دولة مارقة وقد فعل… وكأن الرئيس أوباما، والذي ما زال وسيبقى يعيش عقدة العبد الأمريكي الذي يريد أن يرضي سيده الأبيض مهما تعلم ومهما صعد في المناصب، يقول ان له الحق في أن يقول لعدوه إني سوف أضربك لأقتل واحداً من أبنائك فقط فلا تغضب لأني لن أؤذي الآخرين وما عليك إلا أن تقبل ذلك لأني مجبر على فعل هذا لتأديبك!
وغاب على أوباما كما غاب على كل مستشاريه، والذين يترأسهم كيري الجاهل بالسياسة عامة وبأمور العرب خاصة، أن من يبدأ بضربة لا يمكن له أن يحدد حدودها لأنه لا يعرف مسبقاً رد الفعل عليها. فكيف يعرف أوباما أن الضربة ستكون محدودة وما كانت هي حدودها إذا لم يكن يريد أن يقول لسورية أن تتقبلها ساكتة راضية؟
فهل هناك جهل أوغباوة أبعد من هذا؟
لكن الأمور لم تجر كما اعتقد… فقد جرت إتصالات واسعة بين كل الأطراف وتبين للجميع ان قراراً قد اتخذ بأنه في حالة وقوع الضربة الأمريكة على سورية فإن سورية وحزب الله قرروا فتح الحرب على إسرائيل بكل الجبهة وبكل ما لديهم من قوة.. أي إن ضرب دمشق كان يعني ضرب تل أبيب، وضرب مواقع القيادة السورية كان سيرد عليها بقصف مواقع القيادة الإسرائيلية وووو. أي إن الرسالة الواضحة التي نقلت للولايات المتحدة عن طريق روسيا وإيران وكل من إتصل بسورية كانت واضحة….إن مهاجمة سورية تعني بداية حرب مع إسرائيل لن يستطيع لا أوباما ولا أي من عبيد أوبيض أمريكا إيقافها.
وهنا كان من الواجب إعادة النظر في قرار الضربة… فلم يعد بالإمكان توجيه ضربة محدودة كما ظن أوباما والتي كان يحسب لها أن تضعف السلطة في سورية مما يسمح للمعارضة المسلحة أن تتغلغل كما فعلت في ليبيا من أجل إسقاط النظام.
ولعمري لا أدري كيف يفكر هؤلاء الأغبياء في البيت الأبيض.. فهل يعقل أنهم يتوقعون أن تجلس القيادة في سورية متفرجة حين يتم تدمير دفاعاتها وإخراج قواتها من المعركة حتى يسمح لشذاذ الآفاق من حثالة البشر، المجتمعين على مبدأ واحد وهو الحقد على البشرية لأسباب قد لا يفهمونها هم أنفسهم، من السيطرة على حاضرة الدنيا في دمشق العريقة؟
وحين ثبت لهم عدم إمكانية تحقيق الضربة المحدودة والتي كانت ستمكن القاعدة من خراب سورية لأن الضربة كانت ستخرج عن كل سيطرة، فإنهم كان عليهم التوقف لإعادة النظر في الخطة من جديد وربما صياغتها على شكل الدخول في حرب وغزو شامل لكل بلاد الشام إتماماً للمشروع الصهويني في إقامة دولة الميعاد.
2. أنفصام التحالف الأنكلو ساكسوني
لم يحدث منذ الحرب العالمية الأولى أن اختلفت بريطانيا وأمريكا على قضية تتعلق بالسياسة الدولية.. فكل عمل قامت به بريطانيا دعمته الولايات المتحدة وكل عمل قامت به الولايات المتحدة دعمته أو شاركت به بريطانيا. وحتى حرب فيتنام، والتي بدى للمراقب أن بريطانيا لم تساهم فيها، كانت بريطانيا منخرطة فيها بدعم كامل من خلال رئيس وزراء بريطانيا الصهيوني هارولد ولسن.
وهكذا كان دعم بريطانيا بل تزعمها للحملة على العراق عام 1991 وغزوه عام 2003 أساس ما عرف في الدوائر السياسية بالتحالف عبر الأطلسي. وقد كان الساسة عبر الأطلسي يتحدثون دائماً عن العلاقة المميزة بين بريطانيا والولايات المتحدة. ذلك لأنه رغم أن الولايات المتحدة هي القوة العسكرية الضاربة والتي لم تصل بريطانيا في قمة مجدها لأي شيء يشبهها إلا أن شعور الأمريكي بالإنتماء للجذور الأنكلو- ساكسونية في بريطانيا يجعل كل قرار بحاجة على الأقل للدعم المعنوي أن يأتيه عبر الأطلسي، حتى إذا لم يكن بحاجة للمشاركة العسكرية.
لذا فإن قرار مجلس العموم بعدم المشاركة في الحرب على سورية كان قراراً غير متوقع ولا سابقة له في العلاقات بين البلدين خلال قرن من الزمن. وقد وضع القرار أوباما أمام معضلة كبيرة فكيف سيسوق لشعبه مشروع حرب، لا تعرف نتائجها، إذا كان الحليف التأريخي والدائم عبر الأطلسي غير مقتنع بها؟ هذا فضلاً عن أن دولاً أخرى من أقرب حلفائه الآخرين قرروا عدم الدعم. وقد كان الأمر سيكون سهلاً أن يسوق جبن إيطاليا وخوف ألمانيا على سوقها أسباباً لعدم دعمهم لكنه أن يجد نفسه دون الحليف البريطاني ليس أمراً سهل الشرح.
ولعل من المفيد هنا إضافة ملاحظة مهمة حول أسباب رفض مجلس العموم البريطاني. فقد يجد كل باحث سبباً أو أكثر، منها على سبيل المثال أن بعض الساسة البريطانيين أدركوا مقدار الضرر الذي قد يلحق بمصالح بريطاينا الإقتصادية في وقت إقتصادي عصيب فيها. ومنها ان بعض الساسة البريطانيين أدركوا فداحة الخسائر البشرية التي قد تصيب سورية مما لا يسوغ التدخل لمنع كارثة أقل جسامة.
لكني أضيف سبباً آخر أدركه من معايشتي للواقع السياسي البريطاني والذي قد لايبدو سهل التصور للكثيرين. وذلك هو ان عدداً كبيراً من الساسة البريطانيين أدركوا الخطر المحدق بإسرائيل والذي يمكن أن يترتب على ضرب سورية حيث إن قرار سورية الذي وصلهم بتحويل المنطقة الى كرة نار أقنعهم بأنه قد يكون من الممكن تدمير سورية لكن إسرائيل كانت ستنتهي سياسياً حيث إن إسرائيل لا يمكن أن تتحمل ضربة صاروخية بما يتوفر لدى سورية من مقدرة من إيقاعها بها إذ كانت المعركة مصيرية ولا معركة بعدها!
وهذا يعني إن السبب الثاني لتأجيل الغزو والذي يتمثل برفض مجلس الغموم لم يكن بدوافع إنسانية وإنما كان، ومرة أخرى، بسبب الحرص على أمن إسرائيل.
3. ما هدف إهانة بوتين العلنية لأوباما
لا يمكن لأي متابع للحدث أن يمر على ما جرى دون أن يتوقف عند تصريح الرئيس الروسي بوتين… والذي حاول أن يجعله تصريحاً مرتجلاً وهو في ملابس التنزه….. لكنه وجه فيه أكبر إهانة لرئيس أمريكي منذ قرن، لم يستطع أن يفعلها حتى رئيس وزراء الإتحاد السوفيتي نيكيتا خروتشوف والذي عرف عنه سرعة غضبه وانفعاله. فقد كان مما قاله بوتين لأوباما أنك حصلت على جائزة نوبل للسلام وتريد الآن أن تقتل الناس وهذه تعني أنك لست أهلاً لذلك للتقدير.
ثم وصفه بالكذب والتدليس حين تحداه أنه لا يملك أية أدلة تدين الحكومة السورية في إستعمال السلاح وان الإتهام محض هراء.
فما معنى هذه الإهانة؟
إن من الأعراف السائدة بين الدولتين ان كلاهما يمتلك من الأقمار الصناعية وأجهزة الرصد والإنصات والمخبرين ما يسمح له بتكوين صورة متكاملة عن كل ما يقع في أية معركة على وجه الأرض. ويجري عادة تبادل تلك المعلومات خلف الأبواب المغلقة لمنع أي إحراج. وقد فعل الروس ذلك في كل مرحلة من الحرب الأهلية السورية وكان آخرها أنهم أفهموا الأمريكيين أن المعلومات التي لديهم والتي لا بد لدى الأمريكيين تفيد أنه لا دليل على قيام الجيش السوري بعملية هجوم كيميائي لأنه بغض النظر عن اي تحليل سياسي أو تعبوي فإنها تبدو عملية بدائية لا تقوم بها جيوش نظامية.
لكن الأمريكيين استمروا في غيهم وكذبهم وأصروا واستكبروا إستكباراً وتحدثوا عن المعلومات التدي لديهم والتي لا تختلف عن المعلومات التي استند إليها كولن باول في غزو العراق والتي كانت مستقاة من مخبر عراقي ثبت للمخابرات الألمانية عدم مصداقيته.
لقد وجد الروس ان في إصرار الأمريكيين على المضي في تكرار موضوع الإتهام لسورية نسفاً للعرف المتبع واستخفاف بالمخابرات ودقة المعلومات الروسية. وهذا ما أغضب بوتين حتى خرج بتصريحه الغاضب والمهين لأوباما.
فإذا كان الروس وهم عادة متحفظون في العلن فما الذي نقلوه للأمريكيين في السر؟
لا أدعي، كما يفعل عدد من المحللين، أني أمتلك مصادر سرية أعلمتني بما نقل من روسيا لأمريكا قبل أو بعيد تصريح بوتين. لكني أرى خلف رسالة بوتين المهينة لأوباما أن روسيا قالت انه إذا وقع الغزو فإن روسيا لن تحجب عن سورية بعد اليوم أي سلاح قد يغير موازين الوى في المنطقة… فقد يكون إس 300 أقل ما يمكن أن تقدمه روسيا.. ذلك لأنه حتى بوتين لن يستطيع أن يواجه ضغط المؤسسة العسكرية الروسية والتي تحلم أن تبين للأمريكيين بصورة غير مباشرة ما تستطيع أن تفعله إذا أثبتت لهم أن السوريين قادرون بسلاح روسيا تحييد القوة العسكرية الصهيونية.
هكذا كان أوباما يفكر حين ظهر أمس في أسوء يوم له منذ وصوله البيت الأبيض بائساً يجر أذيال الخيبة وهو يبحث عن مخرج ينقذه من المأزق الذي ورده بجهالة وجهالة مستشاريه.
أما ما يمكن أن يحدث بعد التأجيل فقد نعود له في حديث آخر!
والسلام
عبد الحق العاني
1 أيلول 2013