مقدمة
حين صرح سيد المقاومة مؤخراً أن هناك مشروعاً لتدمير لبنان فإنه أصاب ولا شك. لكنه أغفل أن يذكر كما يغفل الثوار في سورية أن مشروع تدمير دول الهلال الخصيب والتي تشكل حدود وأمن شبه جزيرة العرب كان قد أتخذ منذ أدركت الصهوينة أن مشروع الدولة الوطنية، والذي أوجده اتفاق سايكس – بيكو، فشل في خلق النظام السياسي الموالي لها في الوطن العربي. وقد بوشر بتنفيذ مشروع التدمير هذا في غزو العراق عام 1991 والذي وافق عليه كل النظام السياسي العربي وأغلب الجمهور العربي رغم كل ما يقوله البعض اليوم عن معارضته لذلك الغزو…. فلو صدق أي منهم لقاد سيارة محملة بالطعام لإطعام أطفال العراق أثناء سنوات حصار الإبادة الإثنتي عشرة.
ومن لا يؤمن أن تدمير العراق عام 1991 وحصاره ثم غزوه عام 2003 هو حجر الزاوية في مشروع تفتيت الأمة وإعادتها للعصر الحجري في الفكر والقيم والتطلع، أقول أن من ما زال لا يؤمن بهذا فهو لم يدرك بعد أبعاد المؤامرة وقد تنطلي عليه لعب كثيرة في المستقبل. فقد يكون لبعض الثوار العرب مشكلة مع صدام حسين وبعضها مسوغ وبعضها غير مسوغ لكن الذي لا يمكن أن يختلف عليه قومي عربي واحد هو أن النظام القومي العربي الذي أقامه البعث في العراق كان قاعدة صلبة ضد المشروع الصهيوني وأعطى العمق “السوقي” لدول وحركات المواجهة مع الصهيونية. ولا يمكن لقومي عربي واحد أن ينكر أن البعث أعطى العراق هويته القومية والتي ضاعت في أيدي “اللطامة” و “الصحوة” و”البيشمركة” والذين لايمتلكون جميعهم أية هوية! كما لا يمكن لأي متابع إلا أن يقر أن العراق كان واحة أمن في العهد القومي وهو غابة الإرهاب منذ الغزو الأجنبي. وأن العراق كان من أقل الدول فساداً في المنطقة وهو اليوم يترأس قائمة الفساد في العالم فقد تفوق حتى على الصومال!
ولست هنا بصدد تسوية حسابات مع أحد ذلك لأن على بعثيي العراق أن يشرحوا للأمة بصدق وأمانة سبب تسليمهم العراق للصهيونية بالصورة التي تمت، كما يجب على القوميين من غير بعثيي العراق أن يشرحوا للأمة وللتأريخ سبب وقوفهم مع الأعراب والصهاينة في غزو العراق وحصاره واحتلاله! وقد سألني أحد الأصدقاء مؤخراً عن سبب عدم كتابتي عما يحدث في البحرين. فأجبته بصراحتي المعهودة، حيث لا تأخذني في الحق لومة لائم: إني لم أكتب عن ثوار البحرين لأنهم هم أنفسهم، وأعرف عدداً منهم شخصياً، من وقفوا عام 1990 مع حاكم الكويت بحجة الدفاع عن الشرعية. فإذا كانت الشرعية لدي الأخوة البحرينيين هي في الإنتصار لحاكم الكويت وعائلته التي نصبها الصهاينة فهي الشرعية نفسها التي يدعيها حاكم البحرين وعائلته التافهة. فما هي مشكلتهم؟ فالفكر القومي العربي الذي أنتمي له لا يعترف بهذه الدويلات الوهمية التي خلقتها الصهيونية خلال الخمسين سنة الماضية وعينت حكامها وبدلتهم كلما شاءت كما فعلت مؤخراً بحمد بن جاسم، كما أن العلم الذي يعتز به ثوار البحرين اليوم هو علم الحاكم الذي نصبه الإنكليز ولا مجد لأحد في رفعه دون أن يكون مقراً بالهيمنة الصهيونية عليه! أما إذا كان موقف ثوار البحرين من العراق عام 1990 بسبب موقف مذهبي من صدام حسين ونظام البعث فإني أربأ بنفسي كقومي عربي أن أخوض في حديث كهذا، خصوصاً إذا كان من الثابت أن الحركة السياسية المعارضة في البحرين اليوم ليس لديها موقف واضح من الصراع العربي الصهيوني ولا من الوجود العسكري الصهيوني في الخليج والجزيرة ولا من الحكم الساقط في بغداد ولا من العضوية في مجلس التعاون الخليجي ولا.. ولا.. فماذا يراد مني أن أقوله في حقهم؟ فلست معنياً باستبدال عيسى قاسم بخليفة (…) لمجرد أن الأول شيعي والثاني سني إذا كان كلاهما في جيب الصهيونية!
سورية بعد العراق
كنت قد كتبت عام 1992 مقالا بالإنكليزية (لأني لم أجد من ينشره بالعربية) قلت فيه ان سورية هي الثانية في مشروع التفتيت بعد العراق. وربما أخطأت في تحديد الزمن الذي ستقع فيه الهجمة على سورية لكني لم أخطئ لا في الأسلوب ولا في الهدف ذلك لأن مشروع التفتيت لم تكن له أية علاقة باستعادة العراق لشاطئه العميق في الكويت والذي وقعت حكومة “اللطامة” اليوم على تسليمه بشكل كامل للأعراب! يا لخزي العراق وأهله!!
ولم تكن عبقرية مني أن أتوقع دمار سورية بعد العراق ذلك لأن المشروع لم يتغير منذ قامت الدولة الصهيونية. وقد تيقنت الصهيونية العالمية أنها لن تستطيع فرض هيمنتها على المنطقة في وجود المشروع القومي العربي فلا بد من إزالته. وهذا يفسر أن الصهيونية ليس لديها مشكلة مع حركة الإخوان المسلمين لأن هؤلاء، وخلاف ما يقوله عدد من المحللين العرب وسمعت أحدهم قبل ايام على قناة الميادين وهو يصرح بهذا من فلسطين، لا مشكلة لديهم في التعايش مع الصهيونية ما داموا قد نصبوا خليفة للمسلمين وعادوا بالمسلمين إلى العصر الحجري الفكري. وكيف يمكن أن تكون الصهيونية في وضع أفضل من أن توجد وسط مجتمع إسلامي متخلف ما زال الكثيرون من رجاله يقتدون بفقهاء اعتقدوا أن الأرض مسطحة وأن رب العزة ينزل كل مساء للسماء الدنيا!
وليس هناك من جدوى في عرض ما يحدث في سورية اليوم فهو مشهود أمام الناس، حيث يقف كل أعداء المشروع القومي العربي، وإن كان لكل طرف منهم سبب في وقوفه قد يختلف عن الآخر، في جبهة واحدة تضم شذاذ الأرض الذين تمدهم الصهيونية بالمال والتقنية والسلاح والرجال. أي بإيجاز هي معركة الصهيونية ضد العروبة والتي يقوم بها بهائم المسلمين ويُنَظّر لهم خدام الصهيونية ونفر من فضلات اليسار العربي البائس الذي لم يستطع يوماً أن يعرف أين يقف….
وليس هناك شك اليوم أن القيادة السورية لم تكن تقدر حجم الهجمة عليها ولا حجم الإختراق الذي وقع داخل النظام بسبب ترهل الحزب وفشله وانغماس الكثيرين من أعضائه في السلطة والفساد…
لكن اليوم قد بان للقيادة قبل أن يبين لنا حجم المعركة…
فما هي فاعلة؟
ما هي قواعد المعركة المرجوة
إن الحديث عن الإصرار على إستئصال الإرهاب بالطريقة التي تجري فيها المعارك لن يوصل لأية نتيجة.
فما هو سبب هذا القول وكيف يجب أن تتعامل سورية مع خصومها من الإرهابيين؟ وكل من يحمل السلاح ضدها إرهابي وكل من يسكت على حمل السلاح ضد الدولة هو داعم للإرهاب حتى إذا كان ذلك الشخص ممن عرف عنه سابقاً بمواقف قومية، ذلك لأن المبادئ والمواقف ليست أزلية وقد سقط في التأريخ ثوار وتاب خائنون!
ومن أجل أن نفهم سبب إعتقادتا بعدم إمكانية نجاح خطط “السّوْق” والتعبئة التي تتبعها القيادة السورية اليوم علينا أن نفهم طبيعة المعركة التي يشنها الإرهاب العالمي ضد سورية. ذلك لأن الإرهاب يقود معركة كر وفر ضد القوات السورية. وهذا الإرهابي يأتي من أية دولة من الدول المجاورة لسورية حيث إن حدود سورية مع تركيا ولبنان والأردن والعراق هي منافذ تغلغل الإرهاب وهي منافذ تسلله في العودة بعد إنتهاء المواجهة، وهذا هو الحال حتى بالنسبة للمناطق الحدودية التي يتواجد فيها الإرهاب بشكل شبه دائم في محافظتي حلب وإدلب فهؤلاء يتمتعون بالحماية التركية العملية إذ أن مناطق وجودهم هي امتداد لسيطرة الجيش التركي وإن أنكرت ذلك القيادة السورية، أي بمعنى أدق إن هذا الشريط لم يعد ضمن السيادة السورية.
وهذه الحقيقة في التغلغل للإرهاب على شكل كر وفر تمكن الإرهاب من عوامل تفوق على الجيش السوري النظامي في مقدرته على نقل المعركة بسهولة في الوقت الذي يتطلب نقل قطعات الجيش جهداً ووقتاً أكبر، كما ان خسائر الإرهابي أقل لأن إنتشاره على الأرض يجعل احتمال الإصابة أقل دقة. وقد وضح هذا في أنه ينسحب كلما ضيق عليه الخناق ويمكنه وجود الحاضنة الكبيرة في العديد من المناطق سورية وفي دول الجوار في الإختلاط والضياع بين الجمهور الحاضن! وهذا ما حدث في اللاذقية مؤخراً حيث دخل الإرهاب للقرى الآمنة فاستباحها وقتل واغتصب وهرب إلى تركيا حين جاء الجيش.. فما الذي يمنعه أن يفعل ذلك مرة أخرى؟
وهذه الحقائق تقود لسؤال لا بد منه: كيف ستنتهي هذه المعركة؟ أي بمعنى آخر ما الذي سينهي تغلغل الإرهابيين إذا علمنا أن القرار بتدمير سورية قائم، وإنهاء المشروع القومي هدف “سوقي” للصهيونية، وان المال العربي متوفر بحمد الله وأن معين التجنيد من بين مليار بهيمة لا يبشر بالنضوب!
ويبدو لي أن الجواب على هذا السؤال هو أنه إذا استمرت قواعد المعركة كما هي الآن فإنها لن تنتهي إلا باستنزاف سورية كي تسقط كما سقط العراق بأقل جهد عسكري.
والحل هو أن تفرض سورية قواعد جديدة في المواجهة وذلك بمطاردة الإرهاب في قواعده ذلك لأن تجفيف القواعد التي يتغلغل منها الإرهاب ويتسلل عائداً اليها هي الطريق الوحيد لإنهائه….
وهذا حق يضمنه القانون الدولي إذ يحق لأية دولة مطاردة مصدر العدوان حتى إذا كان في ذلك تجاوز على سيادة الدولة التي يصدر منها ذلك العدوان!
فأي تغلغل من لبنان يجب أن يطارد سواء أكان ذلك يعني ضرب عرسال أو عكار أو طرابلس… وليرعد هذ وليعوي ذاك وليغضب من يشاء وليشرب سليمان البحر..
وأي تغلغل من الأردن يجب أن يؤدي لمطادرة الإرهابيين داخل الأردن ولا خوف من ذلك لأن جبان الأردن لا يختلف عن أبيه..
أما تركيا فيجب أن تكون الرسالة واضحة قبل أي ردع وتلك الرسالة تقضي بأن أي تغلغل بعد اليوم سيطارد داخل تركيا، ذلك لأن ذلك التغلغل لا يمكن أن يكون إلا بأحد حالين فإما هو بعلم تركيا وهو عند ذلك عدوان وإما بجهل تركيا وهو جهل يتيح لسورية بموجب القانون الدولي أن تدافع عن نفسها…وتركيا لن ترد إلا بموافقة حزب شمال الأطلسي والحلف لن يوافق إلا إذا قرر مهاجمة سورية…
وليس هذا مكان تحليل هذا الإحتمال لكني على يقين أن الحلف لا يريد مهاجمة سورية الآن ولذا فإن تركيا لن ترد بفتح حرب شاملة على سورية..
أما العراق فهو، وخلاف ما يعتقده الكثيرون، أخطر جبهة تهدد سورية وذلك لأسباب ثلاثة. أولها أن العراق ساحة مفتوحة للإرهاب بسبب حدوده المفتوحة، لغياب الدولة في العراق، مع جزيرة العرب وهي مصدر الإرهاب العالمي ومركز تدريبه وتموينه. وثانيها أن العراق يمنع سورية من ممارسة حقها القانوني في شراء السلاح حيث يفتش الطائرات التي تنقل السلاح لسورية وهو بهذا العمل يرتكب عدواناً على سورية لأن حقها في التسلح كدولة مضمون وفق كل المواثيق إلا في حالة إعلان العراق الحرب على سورية. وثالثها هو أن إتفاقية الذل بين الولايات المتحدة والعراق تعطي الأولى الحق المطلق في أجواء العراق مما يعني أن الولايات المتحدة تحلق على حدود سورية مع العراق بكل حرية وترصد تحرك الجيش السوري مما يمكنها من تزويد عملائها في الإرهاب العامل في سورية بكل ما يحتاجه من معلومات. وهذا يعني أن على سورية أن تطلب من العراق أن يضع حداً لتفتيش الطائرات المتجهة الى سورية وأن يضع حداً للطيران الأمريكي على حدود سورية…. كما أن على المسؤولين والإعلاميين السوريين أن يكفوا عن خداع العرب في الحديث عن مواقف مزعومة للعراق وأن يصارحوا العرب بحقيقة أن العراق قاعدة صهيونية أخطر من القواعد في الجزيرة والخليج…
وقد يقول قائل انه إذا تبنت سورية هذا فإنها سوف تفتح الباب لحرب شاملة مع جيرانها… وربما يحدث هذا فينطبق عليه قول المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جباناً
فكل من يُغزى في عقر داره يُذلُّ كما أخبرنا أمير الحكمة!
وقد شهدنا ذلك في العراق والذي سكت على حصار الإستنزاف ثم غزي ودمر وسلم للصوص والخونة الذين يحكمونه اليوم، فلو أن صدام حسين خرج عام 1992 ليقاتل بعد عام من الحصار الذي ثبت له أنه لن يرفع، أترى أن الخراب الذي كان سيقع في العراق لو فعل صدام ذلك أكبر مما وقع فعلاً بعد اثني عشر عاماً من الحصار والإذعان والذل ثم الغزو المدمر؟…
فإذا كان للسوريين أن يموتوا فليموتوا بشرف وهم يقاتلون خارج حدودهم لا داخل بيوتهم وهم يشهدون ذبح أبنائهم وإغتصاب نسائهم..فهل من المعقول أن تفجر دمشق وتحترق بمال ومؤامرات الدوحة بينما تضحك هذي الأخيرة وتقيم الإحتفالات والمهرجانات الرياضية وكأنها في نزهة؟
والسلام
عبد الحق العاني
20 آب 2013