مقدمة
لم تكن الأفكار والمبادئ التي جاءت بها حركة البعث في ثلاثينات القرن الماضي وليدة خيال بل كانت تعبيراً عن شعور بالفرقة وطموحاً لجمع شمل الأمة. فحين كتب الدكتور زكي الأرسوزي عن عبقرية اللغة العربية فإنه كان يبحث عن الرابط الأول الذي يجمع الأمة. لذا فإن فكرة وحدة الأمة العربية فكرة أصيلة وواقعية فإذا كانت دول أوربا المكونة من أعراق متباينة قد وحدت أنفسها في القرن الذي سبق في دول قومية فلماذا لا يكون للعرب الحق ذاته؟ كما أن مبدأ تحقق الحرية في اختيار النظام السياسي الذي يريده العرب كانت وما زالت مبدأً سامياً لا يمكن الطعن فيه. فإذا اضفنا لهذه المبادئ رغبة البعث في تحقيق عدالة اجتماعية في توزيع الثروة سواءً أكان ذلك بنظام اشتراكي يقترب من النظام الماركسي أم أي بديل عنه فإن النظام السياسي الذي بشر به فكر زكي الأرسوزي كان رائداً وصادقاً وأميناً على مصالح الأمة ومستقبلها.
هكذا ولد البعث في سورية ودخل العراق وتغلغل بشكل أخف في بقية الدول العربية…
وقد ترتب على المبادئ الأساس للبعث أن تكون السياسة التي تنتهجها دولة البعث قائمة على تلك المبادئ، إذ لا قيمة لدولة تدعي أنها تتبنى مبادئ ثم تسلك سياسة تهدم تلك المبادئ! وهذا يعني أن تكون سياسة دولة البعث رافضة للإعتراف بالدول الوهمية التي أوجدها الصهاينة على ساحل الخليج ورفض الإعتراف بالحدود التي وضعها الصهاينة لدول المشرق العربي ورفض قبول إستقطاع بعض الأجزاء من الوطن العربي ومنحها للآخرين مثل الأحواز والإسكندرون…
كما ان مبادئ البعث قضت أن ترفض الدول البعثية القبول بأن يودع نفط العرب في أيدي حفنة من الأعراب جاء بهم الصهاينة ووطنوهم حراساً على محطات النفط ليعبث الأسياد بالثروة ويضيعوها كما يشاؤون. ذلك لأن شعار نفط العرب للعرب لم يكن يعني أن يكون النفط بأيدي حمد وجاسم وصباح وما شابههم من قطاع الطرق بل يعني أن نفط العرب يجب أن يستثمر على وفق خطط تنمية مدروسة لكي ينتفع منه المحتاجون من جياع مصر وفلسطين وما شابههم من أجل بناء الإنسان العربي المنتج وليس الإنسان العربي المستهلِك والمستهلَك!
ثم قامت دولتان للبعث في ستينات القرن الماضي…. وتطلعت جموع العرب لها لكي تحقق تلك المبادئ. فكان أول إخفاق للبعث أنه نجح في خلق فرقة بين شطريه فكيف كان يرتجى أن يحقق الوحدة العربية بالإتحاد مع مصر عبد الناصر.. ولست هنا في موضع تحليل سبب ذلك الإخفاق الأول فهو أعقد من أن يجاب عليه بجمل محدودة، لكنه يكفي أن يشار اليه بأنه كان الإخفاق المشترك بين بعثي العراق وسورية.
ثم عمل النظامان على بناء دولتين وضعت لهما خطط تطور وتنمية وتحقق منها عدد. وكان العراق أوفر حظاً بسبب ثروته النفطية التي تفتقر لها سورية. ونجح الإثنان في تأسيس أهم قواعد بناء الدولة العصرية في التعليم. ونتج عن ذلك تأهيل جيل من المتعلمين حقق نمواً عالياً ووفر خدمات صحية مجانية عالية الكفاية وضماناً اجتماعياً ليس بالطموح المرجو لكنه كان بداية جيدة، هذا مع توفير بنية تحتية جيدة وبأسعار زهيدة. وليس من قبيل المغالاة إذا عقدت موازنة بين ما حققه نطاما البعث في العراق وسورية في هذه المجالات مع ما حققته دول الجزيرة والخليج النفطية خلال تلك المدة. ويكفي القول ان أي إنسان عاش أو يعيش في الجزيرة أو الخليج سوف يخبرك بالفشل الكامل لتلك الدول في تحقيق أية نهضة تعليمية رغم أنها تمتلك أعلى الدخول لأي منطقة جغرافية في العالم. وهذا يثبت أن التطور والتنمية ليستا نتيجة طبيعية لتوفر الثروة فقط، لكنها تتطلب أناساً يؤمنون ويعملون بمبادئ تفضي لتلك النتائج.
لكن الإثنين أخفقا! ولن أبحث في إخفاقات بعث العراق فقد غطيت هذا الأمر في كتابين مستقلين. لكني سأكتب هنا بإيجاز عن إخفاق البعث في سورية أملاً في أن ما أقوله قد ينبه لتلافي الخطأ في المستقبل حين تخرج سورية من محنتها الحالية والتي لعب الإخفاق في توفير جزء من ظروف تلك المحنة. وأرجع أسباب الإخفاق لثلاث عوامل رئيسة وهي:
1. مهادنة الرجعية العربية.
2. تحويل حزب النخبة لحزب جمهور.
3. الإنفتاح الإقتصادي.
مهادنة الرجعية العربية
رغم ان مبادئ البعث قامت على أساس رفض الحدود والدول المصطنعة التي شكلها الإستعمار الصهيوني الذي غزا المنطقة بعد فشل الدولة العثمانية البالية والمتخلفة، إلا أن البعث قام بالتعامل مع تلك الدول على أساس قاعدة الإعتراف المتبادل مما أفقده أي حق أخلاقي أو قانوني بالطعن بشرعيتها. فمن الباب الأخلاقي لا يمكن لمن يقيم علاقة رسمية مع دويلة أو دولة أن يدعي لاحقاً أنه أجبر على ذلك. أما من الناحية القانونية فإن قيام البعث بالإعتراف بتلك الحدود والدول الوهمية أفقده حق الطعن لاحقا على وفق قاعدة “الرفض المتواصل” بعدم شرعية تلك الكيانات. فما أن تعترف الدولة بوجود دولة أخرى وحدودها فهي تفقد حق الطعن لاحقاً بذلك الاعتراف. وقد وقع هذا في قضية الكويت، والتي رفض عبد الكريم قاسم الاعتراف بها، حيث إن علاقة صدام حسين بالكويت ودفاعه عن أرضها ودولتها أفقده الحق الأخلاقي والقانوني للمطالبة بها كما فعل عام 1990.
إن مبدأ رفض مهادنة الرجعية العربية المتمثلة في كيانات الجزيرة والخليج والذي انتهجه القائد جمال عبد الناصر واعتمده البعث في بداية حكمه تبخر بعد هزيمة حزيران 1967 لأسباب عدة. لكن المبدئي يعرف أن الأسباب السياسية القاهرة لا يمكن لها أن تحرف المبادئ دون أن تفقد الحركة الثورية طريقها.
وقد ترتب على المهادنة غض النظر عن عدة أمور والتنازل عن قضايا وتلوث تدريجي لجمهور البعث أولاً ولأعضائه لاحقاً. فسكت البعث عن خلق القواعد العسكرية في الجزيرة والخليج والتي حولت المنطقة بأسرها إلى معسكر صهيوني كبير كان من أول نتائجه التمكن من غزو العرق بالسهولة لتي تم فيها. فلو لم يهادن البعث الرجعية العربية لصعب تحقيق ذلك. لقد كان واجباً على البعث أن يتصدى بعنف وبكل السبل لأية محاولة لتاسيس قواعد أجنبية في أرض العرب، لكن منهج المهادنة سمح بذلك وسمح بما ترتب عليه.
ثم نتج عن المهادنة مع الرجعية العربية أن يقبل البعث بحلول الصهاينة التي جاءت بها حليفتهم الرجعية العربية المتمثلة في مبادرة الجامعة العربية البائسة في الإعتراف بالغزو الصهوني للأرض العربية. وقبل البعث التخلي عن مبدأ أساس من مبادئه وهو إزالة أي تواجد عنصري معاد للعرب وجد على أرض العرب والذي لم يكن يوماً شعاراً عاطفياً بل قضية مبدئية أدركها فكر البعث مبكراً. ثم تحول المبدأ إلى موقف سياسي يقوم على أساس أن فلسطين قضية يقررها الفلسطينيون، فتحولت المبادئ إلى سياسية تباع وتشترى على وفق قوة المال في الجزيرة والخليج.
ويكفي للدلالة على مهادنة البعث للرجعية العربية حدثان، رغم أن الأدلة كثيرة جداً…
أحدهما أن يطوف صدام حسين حول الكعبة وهو يمسك بيد فهد…
وثانيهما أن يمنح حمد قصراً في جبل قاسيون..
وكلاهما، مهما ملك من مال، لا يمكن أن يساوي شسع نعل جندي سوري أو عراقي واحد أستشهد في الجولان!
تحويل حزب النخبة لحزب جمهور
حين ولد حزب البعث كان حزب نخبة ثورية بطبيعة مبادئه ومقدرة النخبة المتنورة والمؤمنة على التفاعل مع تلك المبادئ. وقد انتمى للحزب في بداية نشأته نوعان من الناس، أحدهما ولد قومياً فوجد مبادئ البعث تتفق مع طموحه فتبناها وثانيهما اطلع فوجد بعد فحص واختبار أن هذه المبادئ قد تحقق للأمة رفعة ومنعة فانتمى. وهكذا كان الحزب في ولادته حزب نخبة ثورية شأنه في ذلك شأن أكثر الحركات الثورية في العالم.
لكنه ما أن وصل للسلطة حتى تغير كل ذلك… ولعمري لا أدري كيف حدث ذلك وكيف أضاع قادة البعث طريقهم بتلك الطريقة…
فقد سارع البعث في كل من العراق وسورية الى فتح أبوابه كأنه دكان، ولم تصبح الدعوة للإنتماء للبعث مجرد مطلب حزبي بل أصبحت ضرورة حياتية ذلك لأن النظام، والذي قرر ولأسباب لا يمكن أن تكون قد درست بعناية، أن يتحول الى حزب يضم كل الشعب، هذا النظام أصبح يطلب من كل من يريد الوظيفة أو أن يدرس أو أن يدخل مرفقاً معيناً أن يكون منتميا للبعث. وليس خافياً على أي ساذج أن كل من أراد أن يحسن وضعه المعيشي انتهى به الأمر عضواً أو نصيراً في البعث. وهكذا دخل البعث من لم يؤمن قط بمبادئ وأفكار الحزب.. وهكذا دخل البعث أعداء له بهدف اختراقه من أجل هدمه لاحقاً كما حدث ولا شك وعلى نطاق واسع في سورية حتى أن أعضاء قيادة اكتشفوا فجأة أنهم لا يؤمنون بالحزب…
ففسد الحزب وفسدت الدولة التي أصبحها الحزب!
لقد أخطأ البعث في هذا تماماً كما أخطأ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي والذي ربما قلده البعث في هذا… فقد نتج عن ترهل الحزب الشيوعي السوفيتي أن ينتهي الإتحاد السوفيتي العملاق بقيادة المخمور يلتسن والتاجر كورباتشيف ووزير الخارجية الرخيص شفردنادزه!
وحبذا لو فعل البعث ما فعله الكوبيون والكوريون حين أغلقوا الحزب والدولة وأبقوا على النخبة، فنجحوا في وقاية الدولتين من الغزو الصهويني المتوقع.
الإنفتاح الإقتصادي
وكأن البعث لم يكتف بالفساد الذي خلقه نتيجة توسيع الحزب ليضم كل الناس وما نتج عنه من فساد في كل مرافق الدولة ومراحلها حتى أصبح الفساد سنة والنزاهة عيب.. كأن هذا لم يكن كافياً فإذا بالبعث يرتكب الحماقة الكبرى في الخروج على مبادئ الحزب في تبنيه للانفتاح الاقتصادي.
ولا أريد أن أكتب عن هذا الضلال لأن الحديث فيه يدمي القلب. فقد تحول النظام الاشتراكي، والذي بدأ يحقق نجاحاً، إلى نظام فاسد راش ومرتش أنتج مئات من الأثرياء من خارج الدولة بمشاركة فاسدين داخلها كما أنتج الى جانبهم بطالة مخيفة وارتفاعاً في الأسعار وتدنياً في الخدمات.
فقامت تجمعات سكانية هائلة متذمرة وغير منتجة، طوقت الحاضرة وحين تمكن الصهيوني من اختراقها سخرها للهجوم على الحاضرة وهدمها…
فكان من نتائج ذلك أن اضطر الآلاف من السوريين للهجرة للجزيرة والخليج للبحث عن لقمة العيش وهناك تم غسل عقولهم بمبادئ الإسلام الوهابي الساذج فعادوا قنابل موقوتة….
ويبقى السؤال الذي سألته عدة مرات ولم يجب أحد عليه ماثلاً على فشل الإنفتاح الإقتصادي. وهو لماذا يحتاج المواطن السوري داخل سورية أن يحول الليرة للدولار أو اليورو؟ أي بمعنى آخر من هو العبقري الإقتصادي في سورية الذي أقنع القيادة بأن سورية بحاجة لربط عملتها الداخلية بالدولار؟ فإذا أراد المسافر تحويلاً كان له ذلك وإذا أراد التاجر أن يستورد فله ذلك التحويل، لكن ما هي حاجة المواطن السوري العادي للدولار وهو يعيش في سورية؟
اليس من البداهة أن يسأل المرء: كيف يمكن لدولة أن تربط مصير عملتها، وبالتبعية اقتصادها، بعملة عدوها الأول الذي يعمل ليل نهار على هدمها؟ اليس منكم رجل رشيد؟
والسلام
عبد الحق العاني
9 حزيران 2013