إذا لم يدرك المواطن العادي حقيقة موضوع السلاح الكيميائي فهو معذور، لكن الكتاب والمحللين يتحملون مسؤولية تأريخية في تنوير الناس بشرح الغامض فإن لم يفعلوا فإنهم يضلونهم إذا كتبوا في موضع ما عن جهالة. وموضوع السلاح الكيميائي الذي أكثر الصهاينة استعماله كالمد والجزر خلال العام الماضي واحد من تلك المواضيع المعقدة لسببين: علمي وقانوني. وقد كتب البعض فيه، وبعض ما كتب غير دقيق. وحيث إن القارئ يفترض الدقة من الكاتب فإن هناك تضليلاً غير مقصود ناتج عن استعدادنا للخوض بكل سهولة في أمور نجهلها. وقد يكون الضرر أبعد من ذلك إذا افترض عدد من الساسة أن الكاتب ممن يوثق به فأخذوا عنه ما كتب على أنه حقيقة.
وقد استوقفني مقال لأحدهم، وهو ما دفعني لكتابة هذا، يتحدث فيه عن اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية ظاناً أنها تعني منع استعمال السلاح النووي. والأمر ليس كذلك. ويبدو أن الكاتب الفاضل لم يطلع بدقة على الإتفاقية تلك فهي لا تمنع استعمال السلاح النووي بل تمنع انتشاره خارج الدول الخمس التي امتلكته يوم وضعت الإتفاقية…وتأكيد ذلك هو أن محكمة العدل الدولية رفضت حتى اليوم أن تقرر أن استعمال السلاح النووي مخالف لقواعد القانون الدولي العام!
فالسلاح الكيميائي عمره عمر الحروب على الأرض ذلك لأنه ما دام الهدف من الحرب هو دحر العدو وهزيمته فقد ذهب جهد الإنسان لإيجاد أسهل السبل لقتل أكبر عدد من جند العدو…. وأول استخدام مدون لسلاح كيميائي كان في القرن الخامس قبل الميلاد حيث استعمل في الحرب بين أثينا وسبارطه.
وحين أدركت الدول الأوربية، والتي كانت أول من استعمله، هول ما يخلفه السلاح الكيميائي باشرت الى الإتفاق على أن القتل إذا كان لا بد أن يتم فليكن بأسلحة أقل بشاعة في اثرها فتم وضع الإتفاقيات في هذا الصدد. فكان أول تلك الإتفاقيات ما عرف باتفاقية ستراسبورغ لعام 1675 والتي عقدت بين فرنسا وألمانيا لمنع استعمال مواد سامة في الحرب.
ثم توالت الإتفاقيات فكانت اتفاقية لاهاي لعام 1899 وبروتوكول جنيف لعام 1925 وأخيراً اتفاقية السلاح الكيميائي التي دخلت حيز التنفيذ عام 1997 ودستور محكمة الجنايات الدولية، وكلها تحرم استعمال السلاح الكيميائي. فلا يفوتن على القارئ ان الدول الأوربية لم تشرع قانوناً يمنع استعمال السلاح النووي رغم أنه أكثر بشاعة عند إستعماله.
لكن الأمر في القانون الدولي ليس بهذه البساطة، اي بمعنى آخر إن وجود هذه الإتفاقيات لا يجعل إستعمال السلاح الكيميائي جريمة في أية حال. ذلك لأن الإتفاقية الدولية هي تعاقد بين دول وهي، أي الإتفاقية، تلزم فقط الدول التي تصادق عليها تماماً كما هو الحال في أي عقد يلزم الأطراف المتعاقدة. أي أنها لا تأثير لها على الدول التي لا تصادق عليها وبالتالي لا تخلق أي أثر قانوني.
ولأبين بشكل أسهل ما يعنيه هذا أضرب مثلين على ذلك. أولهما اتفاقية منع إنتشار الأسلحة النووية والتي وقعت عليها الدول العربية وإيران فاصبحت ملزمة بها وخاضعة لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمنع امتلاكها للسلاح النووي…. أما الدول التي لم تصادق على تلك الإتفاقية مثل إسرائيل والهند فإنها غير ملزمة بعدم إنتاج السلاح النووي وغير خاضعة للتفتيش… وقد يجد القارئ هذا الوضع الشاذ محيراً حيث إن الملتزم بالقانون والإتفاقيات الدولية يعاقب لأتفه الأمور أما الذي لا يلتزم بالقانون علناً فهو خارح العقوبة وخارج المساءلة، ولا عجب فما يسمى بالقانون الدولي مليء بالعجائب لأن واضعيه أرادوا له ذلك!
فهل يقدر أحد من عباقرة العرب أن يقول لي لماذا صادقت الدول العربية على إتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية حين امتنعت إسرائيل؟؟
والمثال الثاني هو محكمة الجنايات الدولية، ذلك لأنها رغم كل ما قيل عنها وعن أثرها في متابعة المتهمين بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية لا تمتلك في حقيقة الأمر تلك الأهمية أو السلطة وسبب ذلك هو أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست فقط رافضة للتصديق عليها بل إنها شرعت قانوناً يقضي بمعاقبة أية دولة تصادق على دستور المحكمة… وهكذا وجدنا الدول العربية، كقطيع من الغنم، تصطف خلف السيد الأمريكي في رفض التصديق على ولاية محكمة الجنايات الدولية.
وليت الأمر كان بهذه البساطة حتى بالنسبة لمسؤولية الدول التي تصادق على الإتفاقيات. ذلك لإن لكل دولة الحق في وضع تحفظات على الإتفاقية عند التصديق عليها وهذه التحفظات قد تجعل التصديق غير ذي قيمة. ومن ذلك أن الولايات المتحدة، عندما صدقت عام 1975 على بروتوكول جنيف الذي يمنع استخدام السلاح الكيميائي، أي بعد خمسين عاماً من نفاذ الإتفاقية في عام 1925 وبعد أن أنهت حربها القذرة في فيتنام حيث استعملت السلاح الكيميائي بشكل مرعب أتلف الحرث والنسل، عندما صدقت على الإتفاقية فإنها وضعت من ضمن تحفظاتها أنها يحق لها إستعمال السلاح الكيميائي إذا قام العدو في استعماله أولاً اي بمعنى آخر يمكن للولايات المتحدة أن تستعمل السلاح الكيميائي وتدعي أنها تلتزم بالإتفاقية حين تقدر أن تزعم في أية حرب أن عدوها استعمل السلاح الكيميائي أولاً… وليس هذا مستبعداً فقد عودتنا الولايات المتحدة على الكذب في علاقاتها الدولية من خليج تونكين حتى غزو العراق!!
مما أوجزت أعلاه يبدو واضحاً أن أية دولة ملزمة فقط بالإتفاقية التي صادقت عليها…. وحيث إن سورية لم تصادق على اتفاقية منع السلاح الكيميائي فهي غير ملزمة بما جاء فيها..
وحبذا لو لزم الأخوة السوريون الصمت كما تفعل إسرائيل.. فهل سمع أحد يوماً مسؤولاً إسرائيلياً يتفوه بكلمة واحدة عن امتلاكها لسلاح نووي أو كيميائي أو حيوي مع أنها تمتلكها جميعاً…. فلماذا يصرح المسؤول السوري مرة بأننا لانملك السلاح ومرة أننا نملكه وأخرى أننا لن نستعمله داخل أرضنا ووووو….لماذا بالله عليكم؟ ألا يكون الصمت هنا من ذهب؟
وحتى لا يقولن أحد أني اضلل القارئ في حجب الجانب الآخر من القانون الدولي والمسمى بالقانون الدولي العام والذي يعمل خارج الإتفاقيات والمعاهدات الدولية، فإني سوف أحاول أن أوجز بأسهل لغة ما يتضمنه هذا الباب.
لقد وضع الأوربيون الذين انتصروا في الحرب العالمية الثانية قواعد السياسة الدولية والقانون والتي تحكمت بالعالم خلال الستين سنة الماضية. فكان مما أسسوه ضمن المؤسسات الدولية وضمنوه في ميثاق الأمم المتحدة “محكمة العدل الدولية”. وقد يتبادر لذهن القارئ أن هذه المحكمة لها سلطة البت في الخصومات الدولية ومراجعة قرارات مجلس الأمن من الناحية القانونية، لكن القارئ سرعان ما يخيب أمله حين يكتشف أن “الكبار” منعوا هذه المحكمة من أن تتدخل في إدارتهم للعالم فلم يعطوها سلطة التدخل في تحديد قانونية قراراتهم ولا أعطوها سلطة الحكم في الخلافات الدولية بشكل مبدئي. وقد فعلوا ذلك ولا شك من أجل أن تطلق أيديهم في التصرف بشؤون العالم كما يشاؤون وهكذا كان الأمر.
ووضع لهذه المحكمة دستور … وجاء ضمن مواد ذلك الدستور مادة عدها رجال القانون بعد ذلك على أنها المادة التي تعرف مصادر القانون الدولي. حيث تنص المادة (38) على:
” 1 – وظيفة المحكمة أن تفصل في المنازعات التي ترفع إليها وفقاً لأحكام القانون الدولي، وهي تطبق في هذا الشأن:
( أ )الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحة من جانب الدول المتنازعة.
(ب)العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.
(ج) مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة.
(د ) أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم ويعتبر هذا أو ذاك مصدراً احتياطياُ لقواعد القانون وذلك مع مراعاة أحكام المادة 59.
2 – لا يترتب على النص المتقدم ذكره أي إخلال بما للمحكمة من سلطة الفصل في القضية وفقاً لمبادئ العدل والإنصاف متى وافق أطراف الدعوى على ذلك.”
و يهمنا في المادة أعلاه الفقرتان (ب) و (ج) واللتان تعدان مصدر القانون الدولي العام الذي يرى القانونيون الأوربيون أنها سياسات وسلوك الدول المتمدنة والتي تحدد قواعد القانون الدولي خارج الإتفاقيات الدولية. وحيث إن أولئك القانونيون لا يعدون مصر عبد الناصر ولا زمباوي موغابي ولا سورية الأسد دولاً متمدنة بينا يعدون دون أدني شك أن أمريكا بوش وبريطانيا بلير وفرنسا ساركوزي متمدنة، فإنه ليس عسيراً أن ندرك أن سلوك أوربا يصبح قاعدة القانون الدولي العام الذي يراد من العالم أن يلتزم به.
والخطورة في هذا الأمر هي أن هذه الدول “المتمدنة” تتصرف في العالم وفق ما تراه مصلحة لها غير آبهة بما يتفق وما لا يتفق مع أية قاعدة قانونية أو أخلاقية. وحيث إن غزو الدول واحتلالها كما حدث في العراق ولبييا أوشك أن يصبح من “مبادئ القانون العامة التي أقرته الأمم المتمدنة” وذلك لأن مجلس الأمن وافق عليها ورضيت دول العالم الأخرى به بعد تكراره، فإن ذلك يعني أن قاعدة صيانة سيادة الدولة والتي شكلت أساس العلاقات الدولية لقرن كامل أوشكت أن تختفي وأوشك الغزو والإحتلال أن يصبح قانونياً.
لكن شيئاً خطيراً جداً أوقف هذا… فقد أدركت روسيا ما يحدث تحت الأعذار الواهية للتدخل الإنساني فقررت التصدي له وأجهضته في سورية فنسفت بذلك محاولة الدول “المتمدنة” تحويل الغزو الأوربي الى أمر يقره القانون. وعندي أن هذا هو أهم ما نتج عن الأزمة السورية على مستوى القانون الدولي والعلاقات الدولية للقرن الجديد والذي سوف يعكف عليه رجال القانون لعقود بالتحليل والدراسة واستخلاص العبر.
وقد يسأل القارئ ما علاقة هذا الأمر بموضوع السلاح الكيميائي، ولا بد لي من عودة هنا لتوضيح ذلك وربط قاعدة القانون الدولي العام بموضوع المقال..
ذلك لأن تلك الدول “المتمدنة” والتي تملك ترسانة أسلحة نووية قادرة على تدمير الكرة الأرضية عشرات المرات والتي تؤكد أنها تنوي إستعمال السلاح النووي إذا تعرضت للخطر في اي حرب تخوضها، هذه الدول المتمدنة شرعت قوانين لها تقضي بأن استعمال السلاح الكيميائي جريمة. وحيث إن “مبادئ القانون العامة التي أقرته الأمم المتمدنة” تشكل مصدراً من مصارد القانون الدولي العام كما أسلفت، لذا فإن هذه الدول قررت أن إمتلاك سورية للسلاح الكيميائي وحقها في استعماله اصبح جريمة بموجب القانون الدولي العام….
أعرف أن عدداً ممن درسوا القانون من العرب سوف لا يروق لهم هذا الحديث بحجة أن علينا أن نلتزم بقواعد القانون الدولي كما وضعها الأوربيون….. لكن أحداً لم يكتب يوماً ليقول لنا لماذا علينا أن نلتزم بما قرروره ويقررونه لنا دوماً وأبداً؟ ألا يكفي ما فعلوه في سايكس بيكو وبلفور؟….. ألم يلتزم العراق بقانونهم الدولي بين 1991 و2003 فماذا كانت النتيجة؟؟
لقد كتب أحدهم يوماً أنه حاور الإمام الخميني عن القانون الدولي وسلوك الثورة الإيرانية المنافي لذلك القانون. وإنتهى المحاور إلى أن الخميني لا يعترف بقانون كتب من قبل الأوربيين دون استشارتنا أو حتى أخذ آرائنا في الحسبان… وحسبي بهذا كافياً فقد نجحت إيران في فرض احترام العالم لها رغم أنها قالت للأوربيين إن قانونكم هذا قد يصلح لكم لكنه لا يصلح لنا…
فلا يغرنكم ما يقوله هيغ أو فابيوس أو كيري فليس فيهم من يعنيه القانون الدولي أو يفهم فيه…. وقد يعترض معترض أن هؤلاء لديهم مستشارون قانونيون .. وقد يكون، لكنهم لا يفعلون دوماً على وفق ما ينصح به مستشاروهم.. وكم قانوني في تلك الدول استقال من منصبه لأن رايه لم يعتد به… أما بان كي مون فهو رجل لا يتجاوز فهمه للقانون فهمه للسياسة ويخوض في ما لا يعنيه ولو كلف نفسه أن يقرأ صلاحياته المحددة في الفصل الخامس عشر من ميثاق الأمم المتحدة لأمسك لسانه!
إن خلاصة ما أخرج به من كل هذا هو أن لسورية الحق في استعمال السلاح الكيميائي في الدفاع عن أمنها وسلامة مواطنيها في أي حرب أو مواجهة يتعرض فيه البلد أو مواطنيه للخطر… ولا يصح أن تبتز بحجة من هذا أو تهديد من ذاك…. وعندما يقرر العالم أن ينزع أسلحة الدمار الشامل، وخوصا السلاح النووي المدمر، من كل بلد وقتها فقط يمكن أن يطلب من سورية أن تنزع سلاحها الكيميائي…. فقد قامت سورية كما قامت دول أخرى في مستواها الإقتصادي بتطوير السلاح الكيميائي ليس رغبة في الحرب وإنما لأنه السلاح الوحيد الذي يمكن لها أن تهدد به عدوها الذي يمتلك ترسانة مخيفة من السلاح النووي…. فقد قيل إن السلاح الكيميائي هو السلاح النووي لدول العالم الثالث، وهو يقرب من ذلك.
عبد الحق العاني
دكتوراه في القانون الدولي الإنساني
18 حزيران 20013