لقد عانت اللغة العربية من اللحن والخطأ والخلل وقبيح القول منذ العصور الأولى بعد الإسلام حين دخلت شعوب أخرى فيه. لكن العصر الحديث شهد إنحدارا خطيرا أصبح فيه الخطأ هو السنة والصواب هو الشاذ. وليس لي من بليغ القول ما أصف به ذلك لكني أستعير ما كتبه العالم الدكتور مصطفى جواد الأعجمي الأصل والعربي الهوى والعراقي المنشأ حين كتب:
“ومن أشد الرزايا التي نزلت بالعربية أيضا أن أساتذة في التأريخ والجغرافيا والعلوم لم يتعلموا من قواعدها ما يصون أقلامهم وألسنتهم من الغلط الفاحش واللحن الفظيع وإذا عوتبوا أو ليموا – وهم مليمون حقا – قالوا نحن ندرس التأريخ والجغرافيا والعلوم، ولا يخجلون من هذا الإعتذار، مع انهم أصبحوا سخرية الساخرين وضحكة الضاحكين ولا سيما مشاهدي “التلفزيون” مع أنهم يعلمون أن الإنكليزي العالم – على سبيل المثال – لا يخطئ الصواب في لغته ولو كان الخطأ الواقع منه في حرف جر لتناولته الألسن والأقلام باللوم والتقريع والتأنيب.
ونرى في “تحريرات” الدوائر ودواوين الحكومة أغلاطا تبعث على الأسف، فرفع المجرور ونصب المرفوع من الأمور المألوفة فيها، ولا سيما الإعلانات والتنبيهات، فضلا عن السقيم من العبارات. وإني لأتذكر أني قرأت في العهد الملكي الزائل على باب مكتب اللجنة الطبية بمعسكر الرشيد هذه الجملة “ممنوع دخول القلم حفظا لتفشي الأسرار”، فتأمل جهل المنبه للتركيب التعبيري، أراد “منعا لتفشي الأسرار” فوضع مكانه “حفظا لتفشي الأسرار” ولم يخطر بباله “حفظا للأسرار” فهو أوجز وأدل وأوفى بالمقصود.
ولا تسأل عن مترجمي الأفلام السينمية فهؤلاء أكلة السحت، يرتكبون من اللحن والغلط الشنيعين ما أصبح مخشيا كل الخشية على العربية وطلاب المدارس والشداة من الدارسين، وليت شعري كيف تجيز لجنة رقابة الأفلام وهي لجنة منتخبة من موظفي الدولة ومنهم موظف من وزارة التربية والتعليم المهيمنة على شؤون الثقافة اللغوية فلما ترجمة لغته فاسدة مفسدة، ناقضة لقواعد العربية، وأكثر المختلفين إلى دور السينما هم من طلاب المدارس والمعاهد والكليات؟”
وقد ظل المرحوم مصطفى جواد طيلة حياته حريصا على العربية فكتب في ذلك الكثير وكان مما قدمه في خدمة العربية سلسة إذاعية أسماها “قل ولا تقل” بين فيها الكثير من الخطأ الشائع في استعمال اللغة وأوضح الصواب فيها.
واليوم ساء الأمر كثيرا عما كان عليه في حياة المرحوم مصطفى جواد، وأسهم في هذا التردي مأ ادخلته ثورة الإتصالات الرقمية من محطات الجهالة التلفازية التي دخلت البيوت ومن مواقع على شبكة المعلومات يكتب فيها كل من هب ودب من أنصاف المتعلمين والجهلة.
وهذه محاولة متواضعة مني، رغم أني لست عالم لغة لكني متعلم على سبيل النجاة، لإعادة نشر ما كتبه العالم المرحوم مصطفى جواد وإضافة ما يجب إضافته من التنبيه الى الأخطاء التي لم يوردها جواد مما جاء به آخرون قبله أو ما كتبه لاحقون بعده.
وكلي أمل أن أنفع الناس وأعيد للعربية بعضا من كرامتها التي هدرها الإعلام الجاهل. وحتى لا يقولن قائل أني أسلب العالم مصطفى جواد مجده فإني سوف أشير الى كل مقتبس منه بالحرفين (م ج)، فما لم يكن لمصطفى جواد فسوف أشير لمصدره في موضعه.
قل الجُمهور والجُمهورية
ولا تقل الجَمهور والجَمهورية
وذلك لأن المسموع من العرب والمأثور في كتب لغتهم هو الجُمهور بضم الجيم ولأن الإسم إذا كان علة هذه الصيغة وجب أن تكون الفاء أي الحرف الأول مضمومة لأن وزنه الصرفي عند الصرفيين هو فعلول كعُصفور وشعُرور اي شويعر. وإذا صغنا اسماً من الجمهور صناعيا، وهو الذي يسميه الصرفيون “المصدر الصناعي” وهو تساهل منهم وذلك بإضافة ياء مشددة وتاء تأنيث إليه فهو الجمهورية كالإنسانية والبشرية والعائدية والفاعلية.
وإذا كان الحرف الثاني من الإسم أو الصفة مضعفاً أي مكرراً فإن الحرف الأول نفسه يكون مفتوحا لا مضموما مثل عَبّود و خَرّوب و دَبّوس وقَيّوم، وشذ من ذلك سُبّوح وقُدّوس فإن ضم أولهما شاذّ. قال الجوهري في معجم الصحاح: و سُبّوح من صفات الله تعالى قال ثعلب: كل اسم على فعّول فهو مفتوح إلا السُبّوح والقُدّوس فإن الضم فيهما أكثر وكذلك الذُرّوح وقال سيبويه: ليس في الكلام فُعول بالضم. وقال الجوهري أيضا: “الذُرّاح بوزن التُفّاح والذُرّوح بوزن السُبّوح: دويبة حمراء منقطة بسواد وهي من السموم والجمع الذراريح وقال سيبويه: واحد الذراريح ذُرحرح وليس عند سيبويه في الكلام فُعّول. وكان يقول سَبّوح و قَدّوس بفتح أوائلها، قال الراجز:
قلت له ورياً إذا تنحنح يا ليته يسقى على الذُرحرح
وفصّل الجوهري الكلام في مادة القدس من الصحاح فقال:
“وقُدّوس من أسماء الله تعالى وهو قُعّول من القدس وهو الطهارة. وكان سيبويه يقول سَبّوح وقَدّوس بفتح أوائلها. قال ثعلب كل اسم على قَغّول فهو مفتوح الأول سَفّود وكَلّوب و سَمّور و شَبّوط و تَنّور، إلا السُبّوح و القُدّوس فإن الضم فيهما أكثر وقد يفتحان. وكذلك الذُرّوح وقد يفتح.” انتهى.
وإذا نقل قَعّول الى وزن فُعلول فإنه يكون مضموم الأول كالخَرّوب ثمر الشوك، فإن نقل صار “الخُرنوب”.
قال الجوهري: “والخَرّوب بوزن التنور نبت معروف والخُرنوب بوزن العُصفور لغة. ولا تقل الخَرنوب بالفتح”.
ومن هذا القول يفهم أن الفتح هو من العامية العراقية القديمة الباقية حتى هذا العصر فإن العامة تقول: العَصفور أي العُصفور أما زَيدون وخلدون وحَمدون وأمثالهم فهي مفتوحة الأوائل سماعا لأن الوزن مقتبس وليس أصيلا. (م ج)
قل: فلان مؤامر
ولا تقل: متآمر
لأن حق الواحد المفاعلة أي المؤامرة. تقول آمر فلان فهو مؤامر كما تقول حارب فهو محارب ولا تقول: متحارب، وشارك فهو مشارك ولا تقول: متشارك، ورافق فهو مرافق ولا تقول: مترافق. وإذا قلت: تآمرا أو تآمروا قلت: هما متآمران وهم متآمرون، فمتفاعل من هذا الوزن وهذا المعنى لا يستعمل إلامثنى أو جمعاً. فإذا أريد استعمال المفرد وحده يرد الى مُفاعل تقول: هو مؤامر وهي مؤامرة. (م ج)
قل: وقف في المستشرف أو الروشن أو الجناح
ولا تقل: وقف في الشرفة
فالشرفة هي أجزاء متساوية من البناء ناتئة على حافة السطح بعضها متصل ببعض، وهي في الغالب محددة الأطراف، وتعد زينة للسطوح. وقد يقع عليها طائر أما الإنسان فكيف يقف أو يقعد على ناتئة من البناء في حافة السطح؟ وقد وصف ابن الرومي شرفات القصور التي كانت على دجلة قال:
ترى شرفاته مثل العذارى خرجن لنزهة فقعدن صفا
عليهن الرقيب أبو رياح فلسن لخوفه يبدين حرفا
فالمراد إذن (المستشرف) وهو الموضع الذي يشرف منه الإنسان على ما حوله. أو الروشن وهو المعروف عند الغربيين بالبالكون. ويجوز أن يقال (المشرف). وقد ظهر لنا أن بعض المترجمين الضعفاء ترجم “البالكون” بالشرفة ولم يعرف الروشن ولا المستشرف، وكذلك يجوز استعمال الجناح مكان الشرفة بالمعنى المغلوط فيه. (م ج)
قل: أيّما أفضل العلم أم المال؟
ولا تقل: أيّهما أفضل العلم أم المال؟
وذلك لأن (هما) في قولك (أيهما) ضمير يعود إلى اسم ظاهر متأخر عنه لفظاً ورتبةً عوداً غير مجاز. مضافاً إلى أن التركيب مخالف للمنطق اللغوي فأيّ للإستفهام، و(هما) إخبار ويكون الإستفهام عن الظاهر أول مرة فإذا كرر الظاهر جاز لنا أن نستفهم عن ضميره ولما لم يذكر الظاهر في هذه الجملة وضعنا مكانه (ما) فقلنا: أيما أفضل العلم أم المال؟ (م ج)