ما زال عدد من الساسة والمحللين وبعض وسائل الإعلام السورية واللبنانية يتحدثون عن ربط ما يحدث في سورية وما يحدث في العراق ربطاً عضوياً وكأن المعركة واحدة والأطراف واحدة. ويروج لهذا الخلط طرفان أحدهما يعرف جيداً الخلل لكنه يعتمد هذه المقاربة من أجل أن يحسن صورة الخونة في العراق، وثانيهما وهو الطرف الأكبر يعبر عن جهالة في الفهم والتحليل تسود عالمنا العربي النائم!
لذا صار لازماً وضع الأمور في مواقعها الحقيقية ومنع خلط الأوراق بشكل يسمح بتبييض الوجوه السود لأجراء الصهيونية في العراق الذين يحاولون العودة للمشروع القومي من خلال الإدعاء بأنهم يقاومون الإرهاب، ومن أجل ذلك وجب هذا العرض السريع للمعركة في كل من البلدين.
الصراع في سورية
إذا أردنا أن نصف الصراع في سورية بعيداً عن المزايدات الإعلامية التي تقوم بها هذه التنسيقية أو تلك الحركة فإن وصفه لا بد أن يكون في أنه صراع بين عقيدتين إحداهما قومية وأخراهما دينية. وليس في هذا تبسيط ولا نفي للآخرين….فلا كون البعث حركة قومية ينفي وجود قوميين آخرين ولا كون الإخوان المسلمين ينفي وجود إسلاميين غيرهم. فالمعركة ليست من أجل الإصلاح ذلك لأن طلب الإصلاح سنة الله في خلقه … كما ان الإصلاح لا يتم بقتل الناس وتدمير مرافق الحياة. وحيث إن المشروع القومي الذي يقوده البعث في سورية، كما قاده البعث في العراق والذي كان سبب إسقاطه، وضعه في مواجهة المشروع الصهيوني الذي يسعى للهيمنة على الأمة العربية. وسواء أكان الأخوان المسلمون مع المشروع الصهيوني أم لم يكونوا فإن مسعاهم منذ ثلاثين عاماً والذي اتخذ شكل المواجهة الدموية خلال العامين المنصرمين صب في صالح المشروع الصهيوني في إضعاف سورية وانهاكها وتحويلها الى دويلات تغني العدو عن الحاجة للتعامل معها. ويكفي للدلالة على صدق هذا التشخيص أمران.
فقد قامت قوات التمرد التي يقودها الإخوان في مهاجمة مواقع مقاومة الطائرات السورية. ولما كانت مقاومة الطائرات سلاحاً للدفاع ولا يمكن أن تعين الجيش العربي السوري في محاربة المتمردين فإن الإعتداء عليها لا علاقة له بطلب الإصلاح وإنما هو يصب في خدمة المشروع الصهيوني في إضعاف سورية وفتح أجوائها للطائرات الإسرائيلية.
وثاني الأمرين هو هذا الدعم الذي تلقاه حركة الإخوان وحلفاؤها من قبل الإستكبار الصهيوني المتمثل في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا ومن معهم من صغار القوم…فإذا كانت هذه هي الدول التي حاصرت العراق وقتلت أبناءه ثم غزته وخربته قبل أن تسلمه للصوص، فكيف يمكن أن تكون صديقة للشعب السوري فتعقد المؤتمرات وتصدر البيانات وهي التي لم تعقد مؤتمراً واحداً لنصرة شعب فلسطين رغم أنه عانى ما لم يعانه شعب خلال العقود الستة المنصرمة؟
وإذا أضفنا لكل ذلك دخول حركة السقوط المطلق للعقل البشري المتمثلة في حركة القاعدة وما شاكلها في الصراع الى جانب الإخوان المسلمين ضد البعث فإن توصيف المعركة يصبح قاطعاً ويزداد تأكيداً كلما ازداد نفوذ هذه الحركات الظلامية التي تسعى لسلب الإنسان العربي حقه في التفكير والإبداع والتطور وهي في سبيل ذلك تعيد الأمة للعصر الحجري في مجال الفكر مما يجعلها سهلة الإبتلاع.
ولكي لا يقولن أحد اني أدافع عن البعث رغم كل أخطائه فأقول إني تركت البعث في مطلع شبابي لخلافات عدة ولا أريد أن أبدأ في إحصائي لما أخذته على البعث فيها… لكن الحقيقة الثابتة أن حركة البعث على امتداد الوطن العربي وعلى الأخص في العراق وسورية كانت من أمتن قواعد الدفاع عن الوجود القومي العربي والإنتصار لقضايا الأمة العادلة. وقد دفع العراق ثمن ذلك ويراد اليوم من سورية أن تدفع القسط الثاني. أي ان أخطاء البعث لا يمكن أن تنسخ هذه الحقيقة كما أنها لا يمكن أن تكون سبباً لخراب الأمة وتسليمها للصهيوني سهلة رخيصة.
الصراع في العراق
لكن الصراع اليوم في العراق يختلف تماماً عن الصراع في سورية فكيف يمكن الخلط بين الإثنين؟
فمنذ رسمت حدود العراق السياسي الجديد من قبل الإحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى أظهرت كل حكومة حساً صادقاً في إنتماء العراق للعروبة حتى تلك التي كانت موالية بالكامل لبريطانيا…وقد إشتد ثبات هذا الحس وأخذ بعداً صادقاً بشكل متزايد منذ سقوط الملكية عام 1958 لكنه اصبح مبدأ الدولة منذ حكم البعث للعراق بشكل مستمر في عام 1968 وهكذا رسمت كل سياسات العراق وفق المبدأ القومي القائم على حق الأمة العربية في أن تختار طريقها بحرية واستقلال وأن توحد نفسها بالقوة إذا لزم الأمر لأن التقسيم فرضه الغرب لتمكينه من إخضاعها.
وبسبب هذا المبدأ كان العداء الإستكباري للعراق والسعي المستمر لإضعافه عن طريق توريطه في حروب وزجه في مآزق ساهم جهل القيادة أحياناً في تسهيلها..وبسبب المبدأ القومي تم خراب العراق وغزوه وإحتلاله. فلو أن بعث العراق وافق المشروع الصهيوني لكان الغرب أول من سوق له في وصف تسامحه مع الأقليات وحفظه لحقوق المرأة وانعدام المذهبية والطائفية وتحقيقه لحد من الرفاه الإجتماعي في توزيع الثروة.. ولأختفى بالكامل أي حديث عن حقوق الإنسان… إذ كان من الأسهل على الصهيونية أن تدافع عن العراق المتقدم من أن تدافع عن السعودية المتخلفة….. لكن ذلك لم يكن ليحدث لسبب واحد وهو أن العراق كان مواجهاً للصهيونية!
لذلك وقع الغزو عام 2003 حين عجزت الصهيونية أن تغير النظام رغم حصار الإبادة الذي دام ثلاثة عشر عاماً… ووقف مع الصهاينة في غزو العراق كل أعداء المشروع القومي من خارج العراق وأعداء المشروع القومي العربي من أهل العراق… فقد وقف مع الغزو الصهيوني للعراق القيادة السياسية الكردية وكلها معاد للمشروع القومي العربي ووقف مع الغزو الصهيوني للعراق الحركات المسيسة للدين في العراق ومنها على سبيل الإيجاز الإخوان المسلمون السنة وحزب الدعوة الشيعي والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الشيعي. كما وقف مع الغزو عدد من الوجوه التي لا وزن لها سوى الخيانة مما لا يليق بنا حتى ذكرها والتي لم يكن لها هدف سوى المشاركة في سرقة العراق والتي أدركت أنها ستقع بعد الغزو والتي وقعت فعلاً مما أجاز لأولئك التافهين أن يسرقوا حتى أكثر مما تمنوا أن يفعلوا.
وحين نجحت الصهيونية في تحقيق هدفها في خراب العراق وتشظيته ونزع سلاحه وإخراجه من معركة الأمة في مواجهة الإستكبار فإنها أسلمته لأولئك الأجراء وتركته كذلك لا يستطيع أن يتحرك بحرية في أي قرار…
ويبدو واضحاً لأي متابع لأمور العراق أنه منذ عام 2003 لم يعلن موقفاً واحداً من القضية الفلسطينية بل إن العراق لم يعلن موقفاً قومياً واحداً منذ الغزو….. وكيف يمكن أن يكون له موقف قومي وقد غزاه الإستكبار الصهيوني لنزع هذه الهوية؟
وهكذا فإن ما حدث في العراق هو أن الصراع بعد زوال المشروع القومي أصبح بين المذهبية والعرقية التي فجرها الغزو الصهيوني والذي وزع المكاسب السياسية على تلك الأسس منذ اليوم الأول. فالمذهبية لم تكن يوماً عاملاً حاسماً في توجيه سياسة العراق ومواقفه المبدئية وإن كان لها دور كما هو الحال في أي بلد مشابه للعراق وخصوصيته التأريخية. لكنها اليوم هي أساس المعركة أي بمعنى آخر إن الصراع هو بين المذاهب على السلطة وهذا يعني أنه لا يوجد صراع مبدئي بين مشروع ديني ومشروع قومي كما هو الحال في سورية… ذلك لأن كل الأحزاب السياسية الدينية بشيعتها وسنتها هي مع المشروع الصهيوني وخلافها فيما بينها هو حول السلطة وهذا يعني ولا شك أنه ليس مهماً في المعركة القومية من منهم سينتصر لأن النتيجة من هذا الصراع بالنسبة للمشروع القومي واحدة وهي موالاة العراق للصهيونية سواء أحكمها التشيع السياسي أم حكمها التسنن السياسي.
فلم يقع الخلط؟
وهنا يجب الحذر من الوقوع في الإستنتاج المغلوط الذي نسمع عدداً من الساسة والمحللين يقعون فيه حين يعلنون أن المعركة واحدة في سورية والعراق، فهي ليست كذلك…. إن وجود أعمال إرهابية في سورية والعراق ليس كافياً للإستنتاج بأن المعركة واحدة… فالإرهاب موجود في أكثر من بلد وتحركه عوامل أخرى لها خصوصية تختلف بين بلد وآخر فهي في الباكستان غيرها في اليمن وهي في العراق غيرها في سورية ولأسباب يطول عرضها وليس هذا مكانها. لكن الذي يكفينا قوله هنا هو أن وجود الإرهاب في سورية والعراق لا يمكن أن يكون سبباً كافيا للتقرير أن المعركة واحدة..
وهناك خطران من هذا الخلط أولهما أنه ربما تقوم حسابات خاطئة على أساس أنه إذا ما وقعت مواجهة ساخنة مع الصهيونية فإن العراق سوف يقف مع محور المقاومة السوري الإيراني اللبناني.. فهذا لن يقع مطلقاً لأن العراق في معاهدة أمنية مع الولايات المتحدة وقعها حزب الدعوة دون إذن من شعب العراق ولا يمكن لمن وقع معاهدة أمنية مع الإستكبار الأمريكي أن يقف ضد إسرائيل لأن الصهيونية اليوم هي أعلى مراحل الإستكبار العالمي… لذا وجب التنبيه على كل من يتحدث بحديث كهذا أن يتوقف ويراجع نفسه قبل تسويق هذا التصور الخاطئ حتى لا يصبح من المسلمات التي يعول عليها…. وكم فعلنا مثل ذلك في الماضي!
أما الخطر الثاني الناتج عن هذا الخلط فهو إعطاء فرصة للخونة من حكام العراق كي يدعوا أن تهديدهم هو تهديد للأمن القومي العربي.. فنعيدهم لحضن الأمة بعد أن خانوها وخذلوها وتسببوا وساهموا في خرابها…فلا يذهبن أحد بأن مقاتلة حكام بغداد للإرهاب هو دفاع عن الأمة العربية ذلك لأن دفاع أولئك الخونة هو عن أنفسهم ومواقعهم في السلطة..وليس عن حرية العراق وعروبته واستقلاله وكرامة أهله التي سلبها الإستكبار…
فليس هناك فرق في المشروع القومي العربي إذا حكم العراق الشيعي هادي العامري أو السني أبو ريشة فكلاهما في جيب الصهيونية…
أماالصراع في سورية فهو يختلف تماماً ذلك لأن هناك فرقاً أن يسود الأسد سورية أو يعبث بها العرعور..
فحذار حذار من هذا الخلط!
عبد الحق العاني
22 ايار 2013
رائعة ومعبرة ، سلمت الايادي