نشرت إحدى الصحف الإسرائيلية خبراً مفاده أن إسرائيل استعملت اليورانيوم المنضب في هجومها الأخير على دمشق. ورغم أنه ليس بين يدي تفاصيل استعمال اليورانيوم وما إذا كان قد استعمل في القنابل أم في الصواريخ إلا أن المهم بالنسبة لي هو أن هذه هي المرة الأولى التي تعترف فيها إسرائيل باستعمالها لليورانيوم المنضب في سورية.
كما ان نشر الخبر له أهمية أخرى حيث إنه لم يلاق الإهتمام الإعلامي العربي في وقت يهتم به هذا الإعلام بتوافه الأمور والأخبار. وقد يكون نشر الخبر مقصوداً من الناحية العسكرية والمخابراتية لتقدير رد الفعل قبل تقرير مدى استعماله مستقبلا.
إن استعمال اليورانيوم المنضب في سورية، هو كما كان الحال في إستعماله في العراق في حرب 1991 ثم بشكل أوسع في غزو 2003 حين سكت العراق والعالم عن استعماله، يشكل أخطر حلقة في المؤامرة على سورية وعلى الأمة. وقد سمعنا وقرأنا عن العدوان الإسرائيلي الأخير على سورية التحليلات من عدد من الكتاب العرب الذين أصبح لدينا منهم جيش ممن يسمون خبراء “استراتيجية” وهم يملؤون أسماعنا ويسودون عيوننا بحديث يبعث على الغثيان عن “الإستراتيجية” و “التكتيك” و”اللوجستية” وما شابهها من ألفاظ مستوردة وهم لا يعرفون معنى لها في العربية ولا يعرفون أصلها باللاتينية… لكنهم في عالم يسود ويفتي فيه البهيمة الوهابي يكادون يكونون علماء!
فلم يحدثنا أحد من خبراء التحليل “الإستراتيجي” عن معنى وخطورة استعمال اليورانيوم المنضب، هذا إذا افترضنا أنه يعرف أولاً ما هو اليورانيوم هذا وماذا يفعله قبل أن يتمكن من الحديث عن معنى وخطورة استعماله.
ولا بد قبل الحديث عن استعمال إسرئيل لليورانيوم المنضب أن نعرف شيئاً عن ماهية هذه المادة. فنقول ان اليورانيوم الموجود في الطبيعة يحتوي على نسبة من أحد نظائره المشعة لكن تلك النسبة واطئة وعليه فإن الحاجة لرفع نسبة النظير المشع تقود لعملية تخصيب اليورانيوم والذي لا بد وقد سمع عنه الجميع قدر تعلق الأمر بموضوع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بالتخصيب وإصرار الدول النووية على محاولة منع إيران من ذلك رغم أن هذا هو حق طبيعي لها وفق اتفاقية منع إنتشار النووي. فالتخصيب ضروري لحاجات عدة منها إنتاج السلاح النووي ومنها إعداد الوقود لمحطات الكهرباء ومن النظائر المشعة للعلاج. ونتيجة للتخصيب هذا تبقى فضلة اليورانيوم وهي ما تسمى اليورانيوم المنضب.
ونسبة الإشعاع في اليورانيوم المنضب متوسطة وهذا يعطي الذين يستعملونه حجة في أن خطره محدود. وهذه ليست الحقيقة كاملة. ذلك لأن اليورانيوم المنضب إذا ترك بارداً فليس هناك من ضرركبير يترتب عليه لأن الإشعاع الصادر عنه يمكن حجبه بورقة.
لكن الأمر يختلف تماما حين يحترق اليورانيوم المنضب ويتطاير كما سأوضح لاحقاً!
لقد نتج عن عملية التخصيب في العالم خزين بآلاف الأطنان من اليورانيوم المنضب والذي حار فيه منتجوه. ذلك لأنهم لا يستطيعون مجرد تركه أو دفنه بشكل عادي. إذ أنهم يدركون خطورة الإشعاع المتوسط الناتج عنه مما يعني أن دفنه في مدافن اسمنتية عميقة تحت الأرض سوف يكلف الكثير فاهتدوا أن أرخص طريقة هي استعماله في صنع غلاف الطلقات والقنابل. فهم بذلك يحققون هدفين أولهما التخلص من هذه المادة الملوثة بالقائها على شعوب العالم المغلوبة على أمرها مثل العراق ولبنان وأفغانستان وسورية، وثانيهما الحصول على معدن طلقات وقنابل خارقة رخيصة.
وهنا يكمن الخطر الحقيقي ذلك لأن اليورانيوم حين يحترق يتطاير على شكل أوكسيد بذرات متناهية في الصغر وتحمله الريح الى مسافات بعيدة وشاسعة. فلا يعود معدنا مستقرا في موضع ثابت. وكل ذرة من هذه الذرات إذا استنشقت أو أبتلعت أو دخلت من خلال جرح فإنها تبقى في الجسد مشعة لمدة أربعة بلايين سنة. وفي ظل هذه الحقيقة درج الساسة وبعض الإختصاصيين في الدول التي استعملت اليورانيوم في الذخيرة على الإدعاء بأن استعماله آمن، لكنهم لم يقدروا يوماً أن يشرحوا سبب وضعهم التشريعات والأنظمة والضوابط المتشددة في بلدانهم حول التعامل مع اليورانيوم المنضب خصوصاً إذا ما وقع أي تسرب. فإذا كان استعماله آمناً فلماذا يشرعون للسيطرة عليه ومعاقبة من يخالف ذلك بعقوبات جزائية في بلدانهم إذن؟ وإذا كان تسرب اليورانيوم في بلدانهم يشكل خطراً على الصحة فكيف يكون استعماله من قبلهم في دول أخرى آمناً؟
وكان أول استعمال واسع لليورانيوم في غزو العراق الأول عام 1991 فقد قدر عدد من الأوساط العلمية أن ألفي طن استعملت في تلك الحرب من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا. أي أن ألفي طن من اليورانيوم احترق ونشر فوق العراق ودخل أجساد الناس في الهواء والغذاء ودخل العشب وأكله الحيوان وهو يشع داخل عشرات الآلاف ويعمل على تشويه الأجنة القادمة.. وسكتت كل الدنيا عن تلك الجريمة خصوصاً لأن كل العرب كانوا قد شاركوا في خراب العراق وقتل أهله!
وقد عانى العراقيون ضمن ما عانوه من الحرب والحصار وماتوا بصمت في الوقت الذي كان العرب من حولهم إما مساهمون أو متفرجون… ومن بين نتائج غزو 1991 أزدياد مخيف في الولادات المشوهة وسرطان الأطفال خصوصاً في محافظة البصرة. وحيث إن تلك الآثار ظهرت بعد فترة الحضانة المقدرة من قبل العلماء لظهور آثار إشعاع اليورانيوم وأنها تركزت في المناطق التي جرى فيها استعمال اليورانيوم بشكل مكثف، فإن الربط بين النتيجة والسبب ليس غريباً…
وقد جرت محاولات محدودة من قبل بعض المهتمين لدراسة ظاهرة إرتفاع السرطان وتشوه الخلقة في الولادات… إلا أن الحقيقة هي أن أمراً كهذا يحتاج لقدرات دول وقد كان عراق البعث ممنوعا من استيراد ما يحتاجه لبحث هذا الموضوع الخطير…. وبعد غزو العراق عام 2003 واحتلاله من قبل المجرمين الذين أغرقوه مرة أخرى بجحيم اليورانيوم عند الغزو الثاني تجاوز ما استعمل في الغزو الأول ولا يعرف أحد نتائجه حتى الآن، فقد حكم العراق بعض من خدام هؤلاء المجرمين من “اللطامة” و “الصحوة” و “البيشمركة” وليس بين أي من هؤلاء من يهمه ما حدث أو يحدث في العراق فكيف يهتم من يخون أهله بما يحدث لهم من أذى فلو فكر في ذلك لما خان اصلاً، كما أنه حتى إذا كان بينهم من يمتلك ذرة من الحرص فإنه لا يمتلك أن يسأل ولي نعمته عن جريمته!
وقد كانت لي مساهمة متواضعة حيث كتبت كتاباً باللغة الإنكليزية ضمنته ما توفر من بحث وقياس عن التلوث الذي وقع في العراق ودخل دائرة الماء والغذاء وأجساد البشر وامتد من البصرة حتى الموصل، وظهر في كل موقع استعملت فيه ذخيرة اليورانيوم. ثم أوضحت كيف أن استعمال اليورانيوم مخالف لقوانين الدول التي استعملته وللقانون الدولي. ولا أريد التوسع في هذا ومن أراد المزيد أمكنه أن يراجع الكتاب في الواصل المبين في آخر هذا المقال. ولم ينل الكتاب رغم أهميته، وكونه أحد الكتب القليلة التي كتبت حول الموضع، الإهتمام العربي المنشود، كما أني لم أوفق في ايجاد ناشر عربي يرغب في نشر ترجمته العربية!
وبعد مختبر التجارب في العراق وسكوت العالم قامت دولة اسرائيل باستعماله في لبنان عام 2006 وقد قام زميلنا العالم البريطاني الدكتور “كرس بزبي” بتوثيق ذلك الإستعمال وتلوث البيئة في لبنان.
وأخيراً وليس آخراً قال لنا الصهاينة أنهم بدؤا بتلويث سورية فهل سنسكت عن ذلك كما سكتنا عن العراق ولبنان لأننا مشغولون “بالإستراتيجية” و”التكتيك” و”اللوجستية” و”المعطيات” و”التداعيات” و”التقاطعات” وما سواها من كلمات تافهة لا معنى لها أصلا وإذا كان لها معنى فهي تستعمل خطأً؟
أترى سنصحو أم أننا سنسلم أرضنا ملوثة لمن يأتي بعدنا من الأجيال بعد أن فقدنا كل شيء لأننا ما زلنا نناقش بيعة السقيفة كما كان البيزنطيون يناقشون صفة الملائكة حين كانت القسطنطينة تسقط!
عبد الحق العاني
12 أيار 2013
واصل الكتاب
مقال رائع كالعادة وعلى جانب كبير من الاهمية
لكن لدي مقترح وهو ان يتم استحداث امكانية مشاركة/نشر المقال على الفيسبوك عن طريق المدونة وذلك لنتمكن من ايصال المقال الى اكبر عدد ممكن عسى ان نتمكن من التبصير والتثقيف
تقبلوا فائق الاحترام