لقد حدد ميثاق الأمم المتحدة الذي وقعته الدول سواء عند تأسيس الأمم المتحدة عام 1945 بالنسبة للمؤسسين أم بعدها بالنسبة للدول التي انتسبت لاحقا خصوصا تلك التي تحررت من الإستعمار (مثل دول أفريقيا) أو شكلها الإستعمار بشكل كيفي (مثل دول الخليج)، كما يحدد أي اتفاق، الحقوق والواجبات والإلتزامات بين الدول الأعضاء، فأصبح بذلك ملزماً لكل الدول بكل ما جاء فيه. ولعل أهم ما في الميثاق والذي حاول الإستكبار الصهيوني خلال العشرين سنة الماضية أن يغيبه عن أذهان الناس، هو ان الميثاق لا علاقة له بما يجري داخل الدول الأعضاء بل هو معني فقط بالعلاقة بين الدول لأن سيادة كل دولة على أرضها وسمائها وشعبها ونظامها ليست موضوع الميثاق… فالأمم المتحدة ليست مجلساً تقرر فيه أخلاق الشعوب وسياساتها واقتصادها ونظمها وطريقة تصرفها …. فإذا اختار شعب ما نظاماً سياسياً لا يروق للآخرين فليس لهؤلاء الآخرين أن يتدخلوا فيه لأنهم لا يمتلكون الحق الأخلاقي أو القانوني لعمل ذلك بموجب ميثاق الأمم المتحدة…. وأذهب أبعد من ذلك لأقول انهم لا يمتلكون هذا الحق بموجب أي مبدأ أرضي أو سماوي.
فلو قبلنا بوجود هذا الحق لقبلنا ان النتيجة الوحيدة هي أن يتمكن القوي من فرض إرادته على الضعيف بحجة أنه يعرف مصلحة ذلك الضعيف أفضل من أن يعرفها هو، فليس عسيراً أن نتصور كيف يمكن للولايات المتحدة أن تفرض على الصومال مثلاً ما تعتقده الأولى صالحاً للثانية بينما تعجز الثانية حتى عن إبداء الراي في ما يخص الأولى. وهناك فرق بين أن يحدث هذا بسبب القوة وبين أن يصبح سلوكاً وممارسة مقبولة عالمياًعلى أنها حق. إن خلاصة ما قلته هو أن ميثاق الأمم المتحدة لم يعط حق التدخل في شؤون الدول الأعضاء بل حصر مواده في العلاقة بين الدول. وهذا ما ثبته قرار النقض الروسي ضد التدخل للشأن السوري فأعاد للميثاق هيبته بعد أن انتهكت لعقدين من الزمن.
فإذا أرادت دول العالم أن تغير هذا الوضع وتجيز حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء فعليها أن تتفق على ميثاق جديد يحدد قواعد وأسلوب هذا التدخل لا أن يكون التدخل سلوكاً يقرره الإستكبار العالمي بحجة حماية الشعب السوري حين يسكت عن ذبح جاره الشعب الفلسطيني!
وقد ضمنت الحرب الباردة تطبيقاً جيداً للميثاق في الحد من التدخل في شؤون الدول بسبب معرفة المعسكرين الرأسمالي والشيوعي بالحدود المسموحة لكل طرف. لكن الأمر تغير بشكل ملحوظ ومتسارع منذ انهيار الإتحاد السوفيتي وخلو الساحة للإستكبار الصهيوني. ولا أريد التعرض لكل خلل وقع في تنفيذ الميثاق لأن هذا لا يمكن أن يكون موضع مقال واحد. لكني معني هنا بأمر واحد يخص سلطة الأمين العام للأمم المتحدة وصلاحياته ذلك لأن الأمين العام الحالي أصابه سعار على ما يبدو…فأصبح لا بد من تنبيهه الى حدود صلاحياته.
فليس جديدا في العلاقات الدولية أن يتجاوز مسؤول أو موظف صلاحياته المثبتة في القانون الدولي أو التي تم التعارف عليها أو قبولها بموجب القانون الدولي العام. وقد تجاوز بعض الأمناء السابقون صلاحياتهم المحددة في الميثاق في حالات نادرة، لكن الأمين العام الحالي تجاوز كل شيء وهو يتصرف كأنه سلطة سياسية له الحق في ابداء الرأي السياسي وفي تقرير ما ليس له حق تقريره وفي تجاوز الميثاق….
وقد يكون هو معذوراً لجهالته…. فقد سمعت خطاباته مؤخراً ولعمري لم أسمع سياسياً أو دبلوماسياً بهذه الغباوة ولا أدري كيف مثل كوريا الجنوبية لسنوات بل وكيف صار وزيراً لخارجيتها؟ قد يكون هو معذوراً لكني لا أعذر الحكومات التي تسمح له بذلك…. فلا حكومة إيران ولا حكومة سوريا ولا حكومة لبنان حاولت يوماً ايقافه عند حده وتوضيح تجاوزاته للميثاق…. فكيف يحدث هذا وأين القانونيون في هذه الدول عن هذا الطغيان؟
ولكي أوضح ما أوجزت يجب أن نتوقف عند ميثاق الأم المتحدة لنعرف من هو الأمين العام قبل أن نعرف كيف تجاوز صلاحياته. فقد أفرد الميثاق / الفصل الخامس عشر في المواد 97-101 للأمانة العامة للأمم المتحدة. كما أنه، أي الميثاق، أتى على ذكر الأمين العام في أربع مواد أخرى منه وهي المواد (12، 20، 73 ، 110) وفي تسع مواد من دستور محكمة العدل الدولية. وسوف أعرض النص الكامل للفصل الخامس عشر الذي حدد صلاحيات الأمانة العامة لكني لا بد أن أشير إلى ان المواد الأخرى التي أتت على ذكر الأمين العام ليس فيها سوى إشعار الأمين العام بإجراء ما أو قيامة بإعداد قوائم أو جداول أي بمعنى آخر ليس في المواد الأخرى خارج الفصل الخامس عشر ما يضيف اية صلاحيات أخرى خارج ذلك الفصل. فما الذي حدده الفصل من تعريف وصلاحيات للأمين العام؟
الفصل الخامس عشر: في الأمـانة
المادة 97
يكون للهيئة أمانة تشمل أميناً عاماً ومن تحتاجهم الهيئة من الموظفين. وتعين الجمعية العامة الأمين العام بناءً على توصية مجلس الأمن. والأمين العام هو الموظف الإداري الأكبر في الهيئة.
المادة 98
يتولى الأمين العام أعماله بصفته هذه في كل اجتماعات الجمعية العامة ومجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية، ويقوم بالوظائف الأخرى التي تكلها إليه هذه الفروع. ويعد الأمين العام تقريراً سنوياً للجمعية العامة بأعمال الهيئة.
المادة 99
للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والآمن الدولي.
المادة 100
1. ليس للأمين العام ولا للموظفين أن يطلبوا أو أن يتلقوا في تأدية واجبهم تعليمات من أية حكومة أو من أية سلطة خارجة عن الهيئة. وعليهم أن يمتنعوا عن القيام بأي عمل قد يسئ إلى مراكزهم بوصفهم موظفين دوليين مسؤولين أمام الهيئة وحدها.
2. يتعهد كل عضو في “الأمم المتحدة” باحترام الصفة الدولية البحتة لمسؤوليات الأمين العام والموظفين وبألا يسعى إلى التأثير فيهم عند اضطلاعهم بمسؤولياتهم
المادة 101
1. يعين الأمين العام موظفي الأمانة طبقا للوائح التي تضعها الجمعية العامة.
2. يعين للمجلس الاقتصادي والاجتماعي ولمجلس الوصاية ما يكفيهما من الموظفين على وجه دائم ويعين لغيرهما من فروع “الأمم المتحدة” الأخرى ما هي بحاجة إليه منهم. وتعتبر جملة هؤلاء الموظفين جزءاً من الأمانة.
3. ينبغي في استخدام الموظفين وفي تحديد شروط خدمتهم أن يراعى في المكان الأول ضرورة الحصول على أعلى مستوى من المقدرة والكفاية والنزاهة. كما أن من المهم أن يراعى في اختيارهم أكبر ما يستطاع من معاني التوزيع الجغرافي.
ولا يحتاج المرء أن يكون رجل قانون كي يستنتج من المواد الخمس أعلاه ما يلي:
1. ان الأمين العام موظف إداري في الأمم المتحدة.
2. إنه ليس للأمين العام أية سلطة سياسية أو قانونية أو حتى رأي سياسي يمكن له التصريح به
3. ان الأمين العام يجب أن يمثل الأمم المتحدة مجتمعة وليس رأي طرف ما فيها.
4. إن أقصى ما للأمين العام القيام به هو تنبيه مجلس الأمن الى وضع دولي يعتقد أنه يهدد السلم والأمن الدولي.
مما تقدم يبدو واضحاً أنه ليس للأمين العام أن يدلي بأي تصريح سياسي يعبر فيه عن رأيه الشخصي في حدث ما أو أن يعطي نصحاً لطرف ما في نزاع أو مشكلة دولية ناهيك عن منعه التام في الخوض في موضوع يخص اي شأن داخلي لأية دولة عضو في الأمم المتحدة.
إلا أن المتتبع لأحداث السنوات الأخيرة يشاهد بشكل متزايد أن سعاراً أصاب بان كي مون فهو لم يعد يعرف ما له مما عليه فانطلق يعطي التصريحات كما يحلو له ويعاتب هذا ويتهم ذاك ويختار في هذا السلوك ما يروق للذين جاؤا به أميناً عاماً…
ولم أقرأ أو أسمع دولة تعترض على سلوكه المناقض للميثاق… والأمثلة عديدة أورد منها إثنين للتذكير فقط.
– فقد أبدى بان كي مون استياءه وامتعاضه من النقض الروسي لمشروع التدخل في الشان السوري. وهو بهذا تجاوز الميثاق في أنه أبدى رأياً شخصياً في الوقت الذي يمنعه منصبه موظفاً في الأمم المتحدة أن يبدي رأياً شخصياً ، إضافة إلى أنه ما دام مجلس الأمن قد فشل في اتخاذ القرار المعروض فإن القانون الدولي يقر أن رHي الأمم المتحدة بفشل المشروع المعروض عليها، أي أن الأمم المتحدة ترى خلاف ذلك ويجب على الأمين العام أن يحترم القانون هذا لا أن يعبر عن رأي شخصي مناقض له. وحبذا لو أن سوريا سارعت فطعنت أمام الأمم المتحدة في تجاوز الأمين العام لمهمته وخرقه للميثاق.
– كما أن بان كي مون قام بتمديد مدة المحكمة الخاصة بلبنان والتي تشكلت خلاف القانون الدولي (لأسباب قد تتطلب كتاباً لشرحها) دون أية سلطة تخوله ذلك. فقد حددت المادة 21 من الإتفاق الموقع بين الحكومة اللبنانية (وإن كان واقع الأمر أن الحكومة اللبنانية لم توقع بشكل دستوري) وبين الأمم المتحدة مدة الإتفاق بثلاث سنوات وأتبعتها بما يلي:
“بعد مضي ثلاث سنوات على بدء عمل المحكمة الخاصة، يقوم الطرفان بالتشاور مع مجلس الأمن ، باستعراض ما تُحرزه من تقدم في أعمالها وإذا لم تكتمل أنشطة المحكمة في ﻧﻬاية فترة الثلاث سنوات، يُمدد الاتفاق للسماح للمحكمة بإنجاز عملها، وذلك لمدة أو (مدد) إضافية يحددها الأمين العام بالتشاور مع الحكومة ومجلس الأمن.”
والحقيقة إنه رغم غرابة هذه المادة التي تعطي صلاحية تمديد عمل محكمة دولية لتشاور وليس لقرار دولي، رغم تلك الهشاشة إلا أن بان كي مون لم يكلف نفسه الإلتزام حتى بهذا الحد الأدنى من القيود، فهناك شك في أنه تشاور مع كل مجلس الأمن لكنه بالتأكيد لم يتشاور مع حكومة لبنان… فاكتفى خلاف الإتفاق بتمديد مدة المحكمة وأعلم الحكومة اللبنانية والتي سارع رئيسها التاجر الحريص جداً على أمواله المرتبطة مع الرأسمال الصهيوني لأخذ العلم بالتمديد…. وهو إجراء لا أصل له في القانون وقد يكون معروفاً لدى التجار واللصوص.
فما بال لبنان التي ينظر فيها المنظرون حول كل شيء؟ أليس فيه قانوني رشيد يتحدى الحكومة أن تطعن بإجراء بان كي مون المناقض للإتفاق والميثاق؟ أم أن أكذوبة الحفاظ على حكومة الأكثرية الوهمية تمكنت من الجميع؟
وما بال سوريا؟ أليس في الخارجية السورية أو الحكومة عامة رجل قانون ينصح الحكومة أن تتحدى بان كي مون وتوقفه عند حده حتى ولو اقتضى الأمر الطعن بسلوكه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي لا يمكن لها أن ترد الطعن والتي ستجد صعوبة في أن تنجد بان كي مون وهو يتصرف بطريقة ليست أمينة على الميثاق؟
أهو جاهل حقاً بصلاحياته بموجب الميثاق أم أنه يعلم ما يفعل جيداً ويعول على غباوتنا أو جهلنا أو عجزنا أو عليها مجتمعة؟
والسلام