مقدمة
كنت قد وعدت في الجزء الأول من هذا العرض الموجز للنصح الذي أسعى به لبشار من أجل سوريا عملاً بقوله تعالى “قل لا اسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى”، أن أقدم نصحي للتعامل مع المؤامرة الكبرى على المشروع القومي التي افتتح بها القرن الجديد منذ غزو العراق وتخريبه وتركه بيد اللصوص. ويعرض الجزء الثاني من هذا النصح التعامل الإقليمي. وحين أتحدث عن التعامل الإقليمي فإني أشير لتعاملين وشتان بين الإثنين.
التعامل مع إيران
لقد ثبت من التجربة التأريخية أنه رغم التناقض العقائدي بين فكر البعث القومي الذي بنيت على الجمهورية العربية السورية وبين نظرية ولاية الفقيه الذي قامت عليها الجمهورية الإسلامية في إيران، فإن هناك إمكانية ليس فقط للتعايش لكن للتحالف والتآلف. فقد مضت ثلاثون عاما على التعاون والإتفاق على قضايا مصيرية دون أن يكون التناقض العقائدي معيقا لها.
وحيث إن الصهيونية قد حددت أبعاد المعركة المصيرية للوجود العربي على هذي الأرض ثم أشركت إيران في المعركة أو ان إيران اشركت نفسها فيها، فقد صار لزاماً أن يكون التعاون على شكل معاهدة أمن ودفاع مشترك. أي أن تدخل سوريا مع إيران في معاهدة يتم بموجبها دفاع أي من الطرفين عن الآخر في حال تعرض أمنه وسلامه للخطر. وحيث إن العدو الذي يهدد الإثنين في المدى المنظور هي الصهيونية العالمية فإن من مصلحة الطرفين أن يقاتلا معاً فإما يعيشا معاً أو يموتا معاً لكنهما في كلتا الحالتين لا يسمحان للعدو أن ينفرد بأي منهما فيوقعان به أكثر الضرر أياً كانت النتيجة.
وقد يقول قائل ان معاهدة كهذه موجودة وقائمة. فإذا كان فلتنشر على الناس وإذا لم تكن قائمة بشكل قانوني فيجب أن تقوم.. وفي كلتا الحالتين يجب أن تنشر بين الناس…إن من عوامل النصر الإيجابية في أي حرب تفعيل العامل النفسي وسيكون مهماً جداً للصديق والعدو أن يعرف بوجود هذه المعاهدة فهي إعلان واضح للعدو أن أي عدوان على سوريا سيكون عدواناً على إيران وهو بالتالي سيكون حرباً شاملة في المنطقة تطال القواعد الصهيونية في إسرائيل والعراق وتركيا والجزيرة والخليج…فإذا أصبح هذا في حكم الصريح المعلن فإن أكثر دول حلف شمال الأطلسي سوف تتردد في المشاركة فيه.
كما ان إعلانا كهذاً سيشد في عضد المقاتل السوري واللبناني والفلسطيني الذي ينتظر المعركة المصيرية ويزيد من عزيمته الفردية والتي في محصلتها الهندسية ستكون أقوى من مجرد جمع أرقام!
ليرى الصديق شهادة يزهو بها ويرى العدو سموكم غماء
وحيث إني على يقين أن نصحاً كهذا سوف يبعث أحقاداً دفينة وطائفية مقيتة إلا أني أربأ بنفسي أن أدخل باباً كهذا لأني أعتقد أني منذ ولدت قومياً لم أفكر يوما بتفاهات السياسة التي نجح برنارد لويس في تسويقها بين بعض المتعلمين العرب. ذلك أني أعتقد أن حقيقة وجود دول وشعوب في المنطقة تعني ضرورة محاولة التعايش معها “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”. فليست لدي مشكلة في التعايش مع اية دولة في المنطقة مع أي اختلاف. إلا ان هذا التعايش يتوقف حين تفقد تلك الدولة استقلالها السياسي وتفقد مقدرتها على اتخاذ القرار وتأتي بأعدائي على حدودي…. فليس عندي مشكلة مع دولة طالبان ولا دولة طهران ما دامت أي منهما تمتلك قرارها السياسي المستقل….. لكن لدي مشكلة مع عثمانية حلف الأطلسي سواء ادعت العلمانية أم الإسلامية.
التعامل مع تركيا
لذا فإن التعامل مع تركيا العثمانية يجب أن ينال العناية الأكبر والأخطر لأسباب عدة أهمها:
1. ان تركيا كانت ما زالت عضوا في حلف شمال الأطلسي (رغم أنها تبعد آلاف الكيلومترات عن المحيط) والذي أصبح واجبه الأول بعد انحلال الإتحاد السوفيتي خدمة وحماية اسرائيل، أي أصبح بالضرورة أكثر عداوة للوجود القومي العربي.
2. ان تركيا قد عززت علاقتها بالعدو الصهيوني إضافة لعضويتها في الأطلسي والذي لاينفك رئيسه يؤكد أن هدفه الأول والأخير دعم اسرائيل في كل شيء تفعله، وذلك أنها أبرمت وفي حكم الإسلاميين وليس العلمانيين (ولا فرق بين الإثنين بقدر تعلق الأمر بنا) أكثر من اتفاقية للتعاون الأمني والعسكري. وحبذا لو أعلمنا أحد من العرب المتهافتين على أقدام الخليفة العثماني الشيخ أردوغان عن حاجة تركيا الإسلامية جداً لتحالف عسكري أمني مع إسرائيل.
3. تستغل تركيا دون أي خجل أو حياء الطائفية الرخيصة لتسويق نفسها حامية للسنة في العالم الإسلامي وهي بهذا تحاول أن تنزع هذه الزعامة الوهمية عن كل من إخوان مصر ووهابية السعودية.
4. إن إسلاميي تركيا اليوم يحلمون حقيقة بتجديد حلم الدولة العثمانية وتصطف معهم بعض الحركات الإسلامية في الوطن العربي وعلى رأسها حزب التحرير المشبوه في نشأته وأفكاره، وهو مشروع معاد للوجود القومي العربي وحليف طبيعي للصهيونية التي قامت على أساس احياء وتغذية فكرة الطوائف في الشرق الأوسط لتكون هي، أي الصهيونية، مبررة في وجودها وتكون بين بقية الطوائف أقواها وأكثرها تمكناً.
5. تمتلك تركيا حدوداً طويلة ووعرة تصلح للتغلغل والتخفي لأية فئة تطمع في التعرض للأمن السوري.
وسيكون السؤال بعد عرض هذه الحقائق: ما العمل إذاً؟
إن لدى سوريا ومن معها في المعركة أكثر من أداة للتعامل مع تركيا وهي ترتبط بأدوات التعامل مع الصهيونية للأسباب التي بينت أعلاه. ويمكن لسوريا أن تفعل كلاً أو أياً مما يلي.
1. غلق حدودها البرية والبحرية والجوية بالكامل أمام الصناعة والتجارة التركية سواء أكانت تلك متجهة للسوق السوري أم كانت لأسواق عربية أخرى. إن ميزان التبادل التجاري هو في صالح تركيا لذا فإن هذا الإجراء سوف يضر بتركيا وعلى الأخص أهل جنوب شرق تركيا والذين يعتمدون على هذا في عيشهم. وهذا ولا شك سيخلق تململاً في المنطقة التي هي في اساسها ليست مستقرة تماما.
2. خلق شريط أمني داخل سوريا يمتد بعمق عشرين إلى ثلاثين كيلومتراً من الحدود التركية السورية واخلاءه من سكانه وجعله منطقة حرام لا يدخلها أحد مما يمكن القوات السورية ضرب أي تحرك متمرد فيه في أي وقت دون تعريض المدنيين للخطر.
3. التوقف عن الحديث (كما فعل وليد المعلم) عن احترام سوريا لإتفاقياتها مع تركيا والتي خرقتها الأخيرة. واللجوء الى المقبول عرفا في القانون بالمعاملة بالمثل.
4. إعطاء أكراد تركيا حق التواجد في العمق السوري لتنظيم أنفسهم في صراعهم من أجل حق تقرير المصير في تركيا والتي ما زالت تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية… وقد يكون في هذا تكفير عن السلوك الشائن في طرد عبد الله أوجلان من سوريا مما أدى الى اعتقاله وسجنه منذ ذلك الحين.
5. خلق حركة تحرير الإسكندرون ودعمها كقضية مبدئية مصيرية وليست متاجرة سياسية. فقد أوشك اللواء السليب الذي أنتج زكي الأرسوزي ورفاقه من مؤسسي فكر البعث أن يصبح نسياً منسياً. فهل تريد سوريا من العرب أن ينسوه وإلا فمتى سيجري بعث القضية؟
هذه بعض الإجراءات التي يمكن لسوريا أن تتخذها في مواجهة المشروع التركي الصهيوني للهيمنة على المنطقة.
مقاضاة تركيا
رغم أني لست ممن يؤمن بوجود قانون دولي ولا بفاعلية ما هو موجود لكني أنصح بأن نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم. وحيث إن خصومنا يتحدثون عن حقوق الإنسان والقانون الدولي فإن على سوريا أن تتعامل معهم بهذا الأسلوب كذلك. وقد لا يكون فيه كثير فائدة لكنه سوف يفضحهم ويكشف بطلان إدعائهم.
ولما كانت تركيا هي المتصدرة للحملة فإن مقاضاتها أمام محكمة العدل الدولية سوف تكون صفعة أخرى لمجموعة جهلة السياسة في أنقرة. ومن الجدير التذكير في أن محكمة العدل الدولية تأخذ موضوع السيادة والتهديد باستعمال القوة بشكل جدي ولها أحكام عديدة في هذا المجال وقد سبق لها أن أدانت الولايات المتحدة في تهديدها نيكارغوا ودعمها للمتمردين والتجاوز على سيادة نيكاراغوا في دعوى مشهودة ما زالت مرجعاً لطلاب القانون في العالم.
فما على سوريا إلا أن:
1. تعلن التزامها بالمادة (36) من دستور محكمة العدل الدولية.
2. تجمع كل الأدلة من تصريحات المسؤولين الأتراك وإجراءاتهم في خلق مناطق آمنة للمسلحين وتموينهم.
3. ترفع الدعوى أمام محكمة العدل الدولية بتهمة التهديد باستعمال القوة وتعريض أمن وسيادة سوريا للخطر.
سوف يكون من الصعوبة على المحكمة أن تخرج على سوابق أحكامها فلا بد أن تحكم ضد تركيا ولن يكون لدى تركيا حجة ذلك لأن التدخل في شؤون الدول الأخرى بحجج واهية هو أمر تجد محكمة العدل الدولية صعوبة في تقبله لأنه ينقض قواعد القانون الدولي التي أقرت المحكمة بوجودها وقامت على احترامها.
هذه بعض الأفكار حول التعامل الإقليمي ولي عودة في الجزء الثالث حول التعامل الدولي.